المواقف الصعبة تجعل عقولنا "أكثر حسمًا"
- مصراوي:
قد يتخذ المرء بعضا من أكثر القرارات أهمية في حياته خلال مواقف يشعر فيها بالتوتر والقلق ويتعرض للضغوط.
فبدءا من قراراتنا المتعلقة بالصحة مرورا بتلك المتعلقة بأوضاعنا المالية، وصولاً إلى فئةٍ ثالثة متصلة بمسيرتنا المهنية، يتعين علينا، في أغلب الأحيان، تقييم المعلومات الواردة إلينا في ظل ظروفٍ مُرهقة ذهنياً وحافلة بالتوترات، بحسب ما ذكرته وكالة BBC.
ولتأخذ على ذلك مثالاً النساء اللواتي يحتجن إلى حسم سلسلةٍ من الخيارات المهمة خلال شهور الحمل وفترتي المخاض والولادة، وهو وقتٌ تشعر فيه الكثيرات منهن بالتوتر الشديد. فهل نعالج المعلومات ونستخدمها على نحوٍ أفضل أم أسوأ في مثل هذه الظروف؟
وللتعرف على كيفية عمل العقل البشري إذا ما كان صاحبه يتعرض لضغوطٍ شديدة، قررنا - أنا وزميلي الباحث نيل غريت الذي يعمل حالياً في معهد برينستون لعلم الأعصاب بولاية نيوجيرسي الأمريكية أن نخوض مغامرةً، نخرج فيها من مختبرنا الآمن للذهاب إلى نقاطٍ لإطفاء الحرائق في ولاية كولورادو.
ولعل من الواجب الإشارة في البداية إلى أن طبيعة أيام عمل رجال الإطفاء تختلف قليلاً فيما بينها.
فبعضها يتسم بالهدوء الشديد، إلى حد أن الموجودين في نقطة الإطفاء يزجون بعضاً من وقتهم في تنظيف معداتهم وغسل السيارات التي يستخدمونها في مهامهم، وفي القراءة بل وفي الطهي. أما البعض الآخر، فتسوده أجواءٌ محمومة.
ففي ظل اضطرارهم في بعض الأوقات إلى المسارعة بالتعامل مع عددٍ كبيرٍ من الحوادث التي تُشكل تهديداً لحياة أبرياء؛ يتعين على رجال الإطفاء في تلك الأيام المُفعمة بالتوترات، دخول منازل تلتهمها النيران لإنقاذ سكانها المحاصرين، وتقديم المساعدة في حالات الطوارئ التي تتطلب توفير خدمات الرعاية الطبية.
ويوفر هذا التباين ما بين الأيام الهادئة للغاية وتلك الحافلة بالعمل والتوتر، الوضع المثالي لإجراء تجربة حول كيف يمكن أن تتغير قدرة المرء على استخدام المعلومات، حينما يشعر بأنه تحت الضغط.
وقد خَلُصنا إلى أن الإحساس بوجود تهديدٍ ما، يستثير رد فعلٍ ينجم عن شعور المرء بالتوتر والضغط، ما قاد لرفع كفاءة رجال الإطفاء في التعامل مع المعلومات ومعالجتها، ولكن طالما كانت تنطوي على أنباءٍ سيئة، وليس في أي حالةٍ أخرى.
وفي السطور التالية، سأشرح كيف وصلت وزميلي إلى هذه النتائج. فقد طلبنا من رجال الإطفاء تقدير احتمالية مواجهتهم لأربعين موقفاً صعبا وربما بغيضا خلال حياتهم، كأن يكونوا طرفاً في حادث سيارة أو أن يصبحوا ضحيةً لعملية نصبٍ أو احتيال.
بعد ذلك، أبلغناهم إما بأنباء جيدة (قلنا لهم إن احتمالية تعرضهم لتلك الحوادث أقل مما كانوا يحسبون) أو بأخرى سيئة (أن هذه الاحتمالية أكبر مما اعتقدوا) ومن ثم طلبنا منهم تقديم تقديراتٍ جديدة لفرص مواجهتهم لمواقف غير مستحبة.
وأظهرت الدراسة أن البشر عادةً ما يكونون متفائلين إلى حدٍ بعيد. فهم يتجاهلون الأخبار السيئة ويحتفون بنظيرتها الجيدة. وقد حدث ذلك عندما كان رجال الإطفاء في حالة استرخاءٍ وهدوء، لكن الحال تغير وظهر نمطٌ آخر من السلوك، حينما كانوا تحت الضغط.
ففي هذه الحالة، أصبحوا شديدي اليقظة والتنبه لأي خبر سيئ أبلغناه لهم، حتى وإن كان منبت الصلة تماماً بعملهم (مثل إخبارهم بأن احتمالية تعرضهم لعملية تزوير أو احتيال يفوق ما تصوروه من قبل، وهو ما ترتب عليه تغييرهم لما كانوا يعتقدونه في هذا الشأن).
في المقابل، لم يؤد تعرض المشاركين في الدراسة لضغوطٍ وشعورهم بتوترات، إلى تغيير ردود فعلهم حيال الأخبار الجيدة.
في تجربةٍ أخرى أجريناها بداخل المختبر، لاحظنا أن النمط نفسه من السلوك قائمٌ بين طلابٍ جامعيين أُخْبِروا بأنه سيتعين عليهم إلقاء كلمة مفاجئة أمام الجمهور، وأن هذه الكلمة ستخضع لتقييمٍ من جانب لجنة، وستُسجل وتُنشر على شبكة الإنترنت. وكما هو منتظر، تسارعت دقات قلوبهم، ولكنهم أصبحوا - وبشكلٍ غير متوقع - أكثر كفاءةٍ في معالجة معلوماتٍ تتعلق مثلاً بنسب الإصابة بالأمراض أو بمعدلات العنف، وهي بياناتٌ لا علاقة لها إطلاقا بمسألة إلقاء الطالب منهم لكلمته أمام الجمهور، ولكنها تظل ذات طابعٍ مثيرٍ للقلق والانزعاج.
وعندما تمر بحوادث تنطوي على توتراتٍ وضغوط، سواء كانت ذات طابعٍ شخصيٍ (كأن تكون في انتظار تشخيص طبيبٍ لسبب وعكتك الصحية) أو لها صبغةٌ عامة (كمواجهة اضطراباتٍ سياسية)، ينشأ تغيرٌ فسيولوجي يمكن أن يجعلك تتابع التحذيرات والمؤشرات المُنذرة بمختلف أنواعها، وأن تولي اهتمامك لمراقبة ورصد أي شيء لا يمضي على ما يرام.
وقد كشفت دراسةٌ تضمنت إجراء فحصٍ بالأشعة لأدمغة أفراد عينة البحث فيها، وذلك للتعرف على طبيعة النشاط الذي يشهده الجهاز العصبي لمن يشعرون منهم بتوترٍ وضغوط، أن هذا "التحول أو التبدل" كان مرتبطاً بزيادةٍ مفاجئةٍ في قوة إشارةٍ عصبيةٍ مُهمة لعملية التعلم، تُعرف باسم "خطأ التنبؤ"، وتحدث تحديداً كرد فعلٍ على ظهور إشاراتٍ غير متوقعة تفيد بوجود خطر، مثل رؤية وجوهٍ يرتسم الخوف على ملامحها.
وتعتمد هذه الإشارة العصبية على هرمون الدوبامين، وهو ناقل عصبي يوجد في الدماغ. وعندما يتعرض المرء لضغطٍ أو يشعر بتوتر، تتغير وظيفة الدوبامين.
وربما تكون هذه الآليات العصبية والعلاقات فيما بينها قد ساعدت البشر في قديم الزمان على البقاء على قيد الحياة. فقدرة أسلافنا على التعرف على المخاطر وإدراكها زادت بفعل عيشهم في بيئاتٍ ربما كانت تكتظ بحيواناتٍ تتضور جوعاً، وهو ما ساعدهم على تحاشي الوقوع ضحيةً للحيوانات المفترسة.
أما في البيئات الآمنة، فقد كان بقاء المرء في حالة تأهبٍ قصوى طيلة الوقت سيشكل تبديداً لطاقاته، وهو ما يعني أن "الجهل" ولو بقدرٍ معين، يمكن أن يساعدك على أن تصبح خالي البال ومستريح الذهن.
ولذا فإن "التبدل والتحول العصبي"، الذي يزيد تلقائياً قدرتك على التعامل مع الإنذارات والتحذيرات - استجابةً للتغييرات التي تشهدها البيئة المحيطة بك - أو يقلل من هذه القدرة، ربما يكون ذا فائدة. وفي حقيقة الأمر، يبدو الأشخاص المصابون بالاكتئاب والقلق غير قادرين على التوقف عن التأثر بكل الرسائل السلبية الموجودة في محيطهم.
ومن الأهمية بمكان إدراك أن الشعور بالضغوط والتوتر ينتقل بسرعةٍ من شخصٍ لآخر. فمن المرجح مثلاً أن تجد نفسك فريسةً لمثل هذا الشعور، إذا ما كان يجتاح زميلك في العمل، وذلك في ضوء أن أدمغتنا مُعدة ومصممة لنقل تلك المشاعر بسرعة من هذا الشخص إلى ذاك، وأن حدوث ذلك ينطوي في الغالب على نقل معلوماتٍ مهمة كذلك.
وقد أجرت ويندي بَيري مَنديز، الأستاذة المختصة بالانفعالات والمشاعر في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو دراسةً مع زملائها، خَلُصَتْ إلى أن معدل ضربات القلب لدى الرضع يزيد إذا ما كانوا محمولين على أيدي أمهاتٍ مررن للتو بحدثٍ ينطوي على توترٍ وضغوط.
فتسارع ضربات قلب الأم في هذه الحالة نقل رسالةً للرضيع تُنذر بوجود خطر، وهو ما جعله يتجنب التواصل مع الغرباء نتيجةً لذلك.
علاوةً على ذلك، تشير الدراسات إلى أنه لا يتعين عليك أن تكون في المكان نفسه مع شخصٍ ما، لكي تنتقل إليك مشاعره وتؤثر على سلوكك. فقد أظهرت أبحاثٌ أن احتمالية نشرك لمضامين على مواقع التواصل الاجتماعي تبعث على الأمل والتفاؤل تزيد، إذا ما طالعت أنت نفسك قبل ذلك، منشوراتٍ إيجابيةً على هذه المواقع، كصورٍ جميلةٍ لغروب الشمس مثلاً.
أما إذا حدث العكس وطالعت منشوراً يجأر صاحبه بالشكوى - على سبيل المثال - من أنه وقف طويلاً في الصف لشراء قهوته المفضلة، فإن ذلك سيجعلك في هذه الحالة تنشر مضامين ذات طابعٍ سلبيٍ أكثر.
من جهة أخرى، هناك الكثيرون منّا ممن يعيشون - بشكلٍ أو بآخر- كما لو كانوا في خطرٍ حقيقي وكأنهم كرجال الإطفاء المستعدين دائماً للاستدعاء في أي وقت.
إذ يكون هؤلاء الأشخاص متأهبين دائماً لإخماد ألسنة اللهب التي تستعر - في هذه الحالة - من بين ثنايا رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية التي تحفل بمطالباتٍ لهم بفعل هذا الأمر أو ذاك، ويكونون كذلك مستعدين على الدوام للتعامل والتفاعل مع الأخبار العاجلة التي ترد إليهم أو المضامين التي يطالعونها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتشير دراسةٌ مسحيةٌ أجرتها جمعية علم النفس الأمريكية إلى أن هناك ارتباطاً بين تفقدك لهاتفك مراراً وتكراراً، وشعورك بالتوتر والإجهاد.
وبعبارة أخرى، باتت تغريدةٌ ما في الوقت الحالي هي العامل الذي يستثير تلك الاستجابة الفسيولوجية المُبرمجة مسبقاً التي كنا قد اكتسبناها عبر عصورٍ من التحولات والتطورات، لكي تساعدنا في الأصل على تجنب خطر الحيوانات المفترسة الجائعة.
فبحسب إحدى الدراسات، يؤدي نشرك تغريداتٍ على حسابك على موقع تويتر، إلى زيادة نبضك وتصببك عرقاً واتساع بؤبؤ العين لديك، بقدرٍ أكبر مما تقود إليه ممارستك لغالبية أنشطتك اليومية الأخرى.
لكن هناك فرصةً لحدوث حالة خوفٍ جماعيٍ قد لا يكون له ما يبرره في بعض الأوقات، وذلك بفعل حقيقة أن التوتر يزيد من فرص تركيز الناس بشكل أكبر على الرسائل ذات الطابع المزعج، وحقيقة أن هذا الشعور ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم.
ويعود ذلك إلى موجة المعلومات المزعجة والمقلقة التي تنتشر عادةً - سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو على مواقع التواصل الاجتماعي - عقب وقوع أي حدثٍ عامٍ حافلٍ بالتوتر مثل هجومٍ إرهابيٍ أو اضطرابٍ سياسي. ويستوعب العامة هذه المعلومات بكفاءة، ولكنها قد تقود إلى تضخيم حجم الخطر القائم بالفعل.
وبناءً على ذلك، يعقب وقوع هجماتٍ إرهابيةٍ أو حدوث تراجعاتٍ حادة في الأسواق المالية، نمطٌ من التصرفات يتكرر باستمرار، يتمثل في شيوع إحساسٍ بالتوتر والضغوط، وانتقاله من شخصٍ لآخر، ما يعزز مؤقتاً من احتمالية متابعة الناس للتقارير السلبية، التي تفاقم بدورها من مشاعر التوتر لديهم.
ونتيجةً لذلك، تُلغى الرحلات حتى في بقاعٍ بعيدةٍ عن المنطقة التي شهدت الهجوم الإرهابي، وتُباع الأسهم حتى وإن كان الإبقاء عليها هو الخيار الأمثل، كما تحظى الحملات السياسية التي يعمد أصحابها إلى اللجوء إلى أسلوب التخويف بمزيدٍ من المتابعين، حتى إذا لم تكن تستند إلى حقائق.
لكن الأمر لا يخلو من جانبٍ مضيء، يتمثل في أن المشاعر الإيجابية مثل الإحساس بالأمل، مُعدية، أي قابلةٌ للانتقال بدورها من شخصٍ لآخر، كما أنها فعالةٌ على صعيد دفع المرء للعمل على إيجاد حلولٍ لمشكلاته.
ومن شأن إدراك العلاقة الوثيقة بين الحالة الشعورية للإنسان والطريقة التي يعالج بها المعلومات التي يحصل عليها، مساعدتنا على صياغة رسائلنا بشكلٍ أكثر فعالية.
قد يتخذ المرء بعضا من أكثر القرارات أهمية في حياته خلال مواقف يشعر فيها بالتوتر والقلق ويتعرض للضغوط.
فبدءا من قراراتنا المتعلقة بالصحة مرورا بتلك المتعلقة بأوضاعنا المالية، وصولاً إلى فئةٍ ثالثة متصلة بمسيرتنا المهنية، يتعين علينا، في أغلب الأحيان، تقييم المعلومات الواردة إلينا في ظل ظروفٍ مُرهقة ذهنياً وحافلة بالتوترات.
ولتأخذ على ذلك مثالاً النساء اللواتي يحتجن إلى حسم سلسلةٍ من الخيارات المهمة خلال شهور الحمل وفترتي المخاض والولادة، وهو وقتٌ تشعر فيه الكثيرات منهن بالتوتر الشديد. فهل نعالج المعلومات ونستخدمها على نحوٍ أفضل أم أسوأ في مثل هذه الظروف؟
وللتعرف على كيفية عمل العقل البشري إذا ما كان صاحبه يتعرض لضغوطٍ شديدة، قررنا - أنا وزميلي الباحث نيل غريت الذي يعمل حالياً في معهد برينستون لعلم الأعصاب بولاية نيوجيرسي الأمريكية أن نخوض مغامرةً، نخرج فيها من مختبرنا الآمن للذهاب إلى نقاطٍ لإطفاء الحرائق في ولاية كولورادو.
ولعل من الواجب الإشارة في البداية إلى أن طبيعة أيام عمل رجال الإطفاء تختلف قليلاً فيما بينها.
فبعضها يتسم بالهدوء الشديد، إلى حد أن الموجودين في نقطة الإطفاء يزجون بعضاً من وقتهم في تنظيف معداتهم وغسل السيارات التي يستخدمونها في مهامهم، وفي القراءة بل وفي الطهي. أما البعض الآخر، فتسوده أجواءٌ محمومة.
ففي ظل اضطرارهم في بعض الأوقات إلى المسارعة بالتعامل مع عددٍ كبيرٍ من الحوادث التي تُشكل تهديداً لحياة أبرياء؛ يتعين على رجال الإطفاء في تلك الأيام المُفعمة بالتوترات، دخول منازل تلتهمها النيران لإنقاذ سكانها المحاصرين، وتقديم المساعدة في حالات الطوارئ التي تتطلب توفير خدمات الرعاية الطبية.
ويوفر هذا التباين ما بين الأيام الهادئة للغاية وتلك الحافلة بالعمل والتوتر، الوضع المثالي لإجراء تجربة حول كيف يمكن أن تتغير قدرة المرء على استخدام المعلومات، حينما يشعر بأنه تحت الضغط.
وقد خَلُصنا إلى أن الإحساس بوجود تهديدٍ ما، يستثير رد فعلٍ ينجم عن شعور المرء بالتوتر والضغط، ما قاد لرفع كفاءة رجال الإطفاء في التعامل مع المعلومات ومعالجتها، ولكن طالما كانت تنطوي على أنباءٍ سيئة، وليس في أي حالةٍ أخرى.
وفي السطور التالية، سأشرح كيف وصلت وزميلي إلى هذه النتائج. فقد طلبنا من رجال الإطفاء تقدير احتمالية مواجهتهم لأربعين موقفاً صعبا وربما بغيضا خلال حياتهم، كأن يكونوا طرفاً في حادث سيارة أو أن يصبحوا ضحيةً لعملية نصبٍ أو احتيال.
بعد ذلك، أبلغناهم إما بأنباء جيدة (قلنا لهم إن احتمالية تعرضهم لتلك الحوادث أقل مما كانوا يحسبون) أو بأخرى سيئة (أن هذه الاحتمالية أكبر مما اعتقدوا) ومن ثم طلبنا منهم تقديم تقديراتٍ جديدة لفرص مواجهتهم لمواقف غير مستحبة.
وأظهرت الدراسة أن البشر عادةً ما يكونون متفائلين إلى حدٍ بعيد. فهم يتجاهلون الأخبار السيئة ويحتفون بنظيرتها الجيدة. وقد حدث ذلك عندما كان رجال الإطفاء في حالة استرخاءٍ وهدوء، لكن الحال تغير وظهر نمطٌ آخر من السلوك، حينما كانوا تحت الضغط.
ففي هذه الحالة، أصبحوا شديدي اليقظة والتنبه لأي خبر سيئ أبلغناه لهم، حتى وإن كان منبت الصلة تماماً بعملهم (مثل إخبارهم بأن احتمالية تعرضهم لعملية تزوير أو احتيال يفوق ما تصوروه من قبل، وهو ما ترتب عليه تغييرهم لما كانوا يعتقدونه في هذا الشأن).
في المقابل، لم يؤد تعرض المشاركين في الدراسة لضغوطٍ وشعورهم بتوترات، إلى تغيير ردود فعلهم حيال الأخبار الجيدة.
في تجربةٍ أخرى أجريناها بداخل المختبر، لاحظنا أن النمط نفسه من السلوك قائمٌ بين طلابٍ جامعيين أُخْبِروا بأنه سيتعين عليهم إلقاء كلمة مفاجئة أمام الجمهور، وأن هذه الكلمة ستخضع لتقييمٍ من جانب لجنة، وستُسجل وتُنشر على شبكة الإنترنت. وكما هو منتظر، تسارعت دقات قلوبهم، ولكنهم أصبحوا - وبشكلٍ غير متوقع - أكثر كفاءةٍ في معالجة معلوماتٍ تتعلق مثلاً بنسب الإصابة بالأمراض أو بمعدلات العنف، وهي بياناتٌ لا علاقة لها إطلاقا بمسألة إلقاء الطالب منهم لكلمته أمام الجمهور، ولكنها تظل ذات طابعٍ مثيرٍ للقلق والانزعاج.
وعندما تمر بحوادث تنطوي على توتراتٍ وضغوط، سواء كانت ذات طابعٍ شخصيٍ (كأن تكون في انتظار تشخيص طبيبٍ لسبب وعكتك الصحية) أو لها صبغةٌ عامة (كمواجهة اضطراباتٍ سياسية)، ينشأ تغيرٌ فسيولوجي يمكن أن يجعلك تتابع التحذيرات والمؤشرات المُنذرة بمختلف أنواعها، وأن تولي اهتمامك لمراقبة ورصد أي شيء لا يمضي على ما يرام.
وقد كشفت دراسةٌ تضمنت إجراء فحصٍ بالأشعة لأدمغة أفراد عينة البحث فيها، وذلك للتعرف على طبيعة النشاط الذي يشهده الجهاز العصبي لمن يشعرون منهم بتوترٍ وضغوط، أن هذا "التحول أو التبدل" كان مرتبطاً بزيادةٍ مفاجئةٍ في قوة إشارةٍ عصبيةٍ مُهمة لعملية التعلم، تُعرف باسم "خطأ التنبؤ"، وتحدث تحديداً كرد فعلٍ على ظهور إشاراتٍ غير متوقعة تفيد بوجود خطر، مثل رؤية وجوهٍ يرتسم الخوف على ملامحها.
وتعتمد هذه الإشارة العصبية على هرمون الدوبامين، وهو ناقل عصبي يوجد في الدماغ. وعندما يتعرض المرء لضغطٍ أو يشعر بتوتر، تتغير وظيفة الدوبامين.
وربما تكون هذه الآليات العصبية والعلاقات فيما بينها قد ساعدت البشر في قديم الزمان على البقاء على قيد الحياة. فقدرة أسلافنا على التعرف على المخاطر وإدراكها زادت بفعل عيشهم في بيئاتٍ ربما كانت تكتظ بحيواناتٍ تتضور جوعاً، وهو ما ساعدهم على تحاشي الوقوع ضحيةً للحيوانات المفترسة.
أما في البيئات الآمنة، فقد كان بقاء المرء في حالة تأهبٍ قصوى طيلة الوقت سيشكل تبديداً لطاقاته، وهو ما يعني أن "الجهل" ولو بقدرٍ معين، يمكن أن يساعدك على أن تصبح خالي البال ومستريح الذهن.
ولذا فإن "التبدل والتحول العصبي"، الذي يزيد تلقائياً قدرتك على التعامل مع الإنذارات والتحذيرات - استجابةً للتغييرات التي تشهدها البيئة المحيطة بك - أو يقلل من هذه القدرة، ربما يكون ذا فائدة. وفي حقيقة الأمر، يبدو الأشخاص المصابون بالاكتئاب والقلق غير قادرين على التوقف عن التأثر بكل الرسائل السلبية الموجودة في محيطهم.
ومن الأهمية بمكان إدراك أن الشعور بالضغوط والتوتر ينتقل بسرعةٍ من شخصٍ لآخر. فمن المرجح مثلاً أن تجد نفسك فريسةً لمثل هذا الشعور، إذا ما كان يجتاح زميلك في العمل، وذلك في ضوء أن أدمغتنا مُعدة ومصممة لنقل تلك المشاعر بسرعة من هذا الشخص إلى ذاك، وأن حدوث ذلك ينطوي في الغالب على نقل معلوماتٍ مهمة كذلك.
وقد أجرت ويندي بَيري مَنديز، الأستاذة المختصة بالانفعالات والمشاعر في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو دراسةً مع زملائها، خَلُصَتْ إلى أن معدل ضربات القلب لدى الرضع يزيد إذا ما كانوا محمولين على أيدي أمهاتٍ مررن للتو بحدثٍ ينطوي على توترٍ وضغوط.
فتسارع ضربات قلب الأم في هذه الحالة نقل رسالةً للرضيع تُنذر بوجود خطر، وهو ما جعله يتجنب التواصل مع الغرباء نتيجةً لذلك.
علاوةً على ذلك، تشير الدراسات إلى أنه لا يتعين عليك أن تكون في المكان نفسه مع شخصٍ ما، لكي تنتقل إليك مشاعره وتؤثر على سلوكك. فقد أظهرت أبحاثٌ أن احتمالية نشرك لمضامين على مواقع التواصل الاجتماعي تبعث على الأمل والتفاؤل تزيد، إذا ما طالعت أنت نفسك قبل ذلك، منشوراتٍ إيجابيةً على هذه المواقع، كصورٍ جميلةٍ لغروب الشمس مثلاً.
أما إذا حدث العكس وطالعت منشوراً يجأر صاحبه بالشكوى - على سبيل المثال - من أنه وقف طويلاً في الصف لشراء قهوته المفضلة، فإن ذلك سيجعلك في هذه الحالة تنشر مضامين ذات طابعٍ سلبيٍ أكثر.
من جهة أخرى، هناك الكثيرون منّا ممن يعيشون - بشكلٍ أو بآخر- كما لو كانوا في خطرٍ حقيقي وكأنهم كرجال الإطفاء المستعدين دائماً للاستدعاء في أي وقت.
إذ يكون هؤلاء الأشخاص متأهبين دائماً لإخماد ألسنة اللهب التي تستعر - في هذه الحالة - من بين ثنايا رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية التي تحفل بمطالباتٍ لهم بفعل هذا الأمر أو ذاك، ويكونون كذلك مستعدين على الدوام للتعامل والتفاعل مع الأخبار العاجلة التي ترد إليهم أو المضامين التي يطالعونها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتشير دراسةٌ مسحيةٌ أجرتها جمعية علم النفس الأمريكية إلى أن هناك ارتباطاً بين تفقدك لهاتفك مراراً وتكراراً، وشعورك بالتوتر والإجهاد.
وبعبارة أخرى، باتت تغريدةٌ ما في الوقت الحالي هي العامل الذي يستثير تلك الاستجابة الفسيولوجية المُبرمجة مسبقاً التي كنا قد اكتسبناها عبر عصورٍ من التحولات والتطورات، لكي تساعدنا في الأصل على تجنب خطر الحيوانات المفترسة الجائعة.
فبحسب إحدى الدراسات، يؤدي نشرك تغريداتٍ على حسابك على موقع تويتر، إلى زيادة نبضك وتصببك عرقاً واتساع بؤبؤ العين لديك، بقدرٍ أكبر مما تقود إليه ممارستك لغالبية أنشطتك اليومية الأخرى.
لكن هناك فرصةً لحدوث حالة خوفٍ جماعيٍ قد لا يكون له ما يبرره في بعض الأوقات، وذلك بفعل حقيقة أن التوتر يزيد من فرص تركيز الناس بشكل أكبر على الرسائل ذات الطابع المزعج، وحقيقة أن هذا الشعور ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم.
ويعود ذلك إلى موجة المعلومات المزعجة والمقلقة التي تنتشر عادةً - سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو على مواقع التواصل الاجتماعي - عقب وقوع أي حدثٍ عامٍ حافلٍ بالتوتر مثل هجومٍ إرهابيٍ أو اضطرابٍ سياسي. ويستوعب العامة هذه المعلومات بكفاءة، ولكنها قد تقود إلى تضخيم حجم الخطر القائم بالفعل.
وبناءً على ذلك، يعقب وقوع هجماتٍ إرهابيةٍ أو حدوث تراجعاتٍ حادة في الأسواق المالية، نمطٌ من التصرفات يتكرر باستمرار، يتمثل في شيوع إحساسٍ بالتوتر والضغوط، وانتقاله من شخصٍ لآخر، ما يعزز مؤقتاً من احتمالية متابعة الناس للتقارير السلبية، التي تفاقم بدورها من مشاعر التوتر لديهم.
ونتيجةً لذلك، تُلغى الرحلات حتى في بقاعٍ بعيدةٍ عن المنطقة التي شهدت الهجوم الإرهابي، وتُباع الأسهم حتى وإن كان الإبقاء عليها هو الخيار الأمثل، كما تحظى الحملات السياسية التي يعمد أصحابها إلى اللجوء إلى أسلوب التخويف بمزيدٍ من المتابعين، حتى إذا لم تكن تستند إلى حقائق.
لكن الأمر لا يخلو من جانبٍ مضيء، يتمثل في أن المشاعر الإيجابية مثل الإحساس بالأمل، مُعدية، أي قابلةٌ للانتقال بدورها من شخصٍ لآخر، كما أنها فعالةٌ على صعيد دفع المرء للعمل على إيجاد حلولٍ لمشكلاته.
ومن شأن إدراك العلاقة الوثيقة بين الحالة الشعورية للإنسان والطريقة التي يعالج بها المعلومات التي يحصل عليها، مساعدتنا على صياغة رسائلنا بشكلٍ أكثر فعالية.
فيديو قد يعجبك: