لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عبقرية خالد العسكرية

05:08 م الإثنين 09 فبراير 2015

عبقرية خالد العسكرية

ليست سيرة أبي بكر، ولا سيرة عمر، وليست سيرة سعد وخالد، وأولئك الأبطال العظماء - رضي الله عنهم - إلا فصولاً متشابهة، أو نسخـًا مكررة، من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر، سيرة الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان، سيرة الفتح الذي حير نوابغ القواد، وأعلام المؤرخين .

سيرة الصحارى المتسعرات المقفرات، التي لبثت دهورًا لا تسقى بغير الدم، ولا تنبت غير الأحقاد والثارات، فلما مرّت يد محمد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصحارى، أنبتت رمالها الدوحة الباسقة التي ظللت الشام ذات الأعناب، والعراق ذات النخيل، ومصر ذات النيل، والقسطنطينية ذات الأبراج والقباب، وما شرّق من الأرض وما غرّب، دوحة العدل والحضارة والخير .

سيرة (الجندي) الذي كان منزويـًا وراء الرمال، نائمـًا في وهج الشمس، لا يعرف المجد إلا في الحب والحرب، في كأس أو قصيدة، أو غزوة سلب ونهب، فلما هذبته مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - صيرته الجندي الأكمل في تاريخ الحروب، لم يعرف التاريخ جنديـًا أخلص منه لفكرته، ولا أقدم منه إلى غايته، ولا يعرف نفسـًا أطهر من نفسه، ولا سيفـًا أمضى من سيفه، الجندي الذي مشى في كل وادٍ، وصعد كل جبل، خاض البحار، وعبر الأنهار، وجاب الأرض كلها، حتى نصب للإسلام على كل رابية راية، وأبقى للإسلام في كل أرض وطنـًا لا تقوى على استلابه من أهله مردة الشياطين .

المدرسة التي أخرجت هؤلاء القواد الذين دانوا التاريخ، وكانوا أعاجيب في الذكاء والمضاء والعبقرية، وما تعلموا في كلية عسكرية، ولكنهم تعلموا في هذه المدرسة فخرجوا منها بـ (شهادة) الدنيا التي فتحوها، والحضارات التي أقاموها، والمآثر التي تركوها، أعظم القواد وأجل الأبطال سعد هادم عرش الطغيان الفارسي في القادسية، وعمرو باني صرح الحضارة الإسلامية في مصر، وابن نافع بطل المغرب، وقتيبة وابن القاسم بطلا المشرق، والعشرات الذين ساروا في موكب النبوغ العسكري العربي إلى سوح الخلود، وكان أعظمهم بلا جدال، بل كان أعظم قائد في التاريخ القديم كله بشهادة نابليون، وغيره، وشهادة سيرته وأخباره وشهادة من سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (سيف الإسلام) وحسبكم بها وحدها شهادة : خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - .

خالد - رضي الله عنه - الذي بدأ نبوغه العسكرية من صغره، فكان قائد فرسان قريش، ولولا الإسلام، لبقي نبوغه حبيس مكة، واسمه لقريش وحدها، ولكان منتهى أمره أن يكون فارس قبيلته، ولولا الإسلام لما خرج نبوغ خالد من بوادي الحجاز، خاض خالد - رضي الله عنه - المعارك حياته كلها فما أخطأه النصر، ولا أفلت منه بعدما ظن أنه أمسكه بيده إلا مرة واحدة كان خصيمه فيها رجلاً لا يقاس به الرجال، وكان خصمه رجلاً لا يعاب أحد بالهزيمة أمامه ؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يحارب الله ورسوله .

أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرماة في أُحد، على الجبل، وأمرهم ألا يزايلوه، فلما انهزمت قريش وولت، وأقبل المسلمون على الغنائم، وخالف الرماة وظنوا أنه النصر الأكيد، رأى ذلك خالد، وكان قائد فرسان قريش، فوثبت عبقريته وتيقظت، لتحوّل هزيمة قريش نصرًا، وهجم فزلزل بعض المسلمين وفوجئوا وهربوا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف أمامه بقليل من الرجال المثخنين بالجراح، المحطمين من التعب، فلم يستطع خالد بعبقريته وفرسانه اختراق هذا السد من الأجساد ؛ لأن في هذه الأجساد إيمانـًا بالله تعالى وإيمانـًا برسوله - صلى الله عليه وسلم - .

وإذا كان البارود يرتد أمام الأسمنت المسلح بالحديد، فإن قوى الشرى كلها، والقنبلة الذرية معها، ترتد كلها أمام اللحم والدم، إذا كان مسلحـًا بالإيمان .

وكان خالد - رضي الله عنه - يعلم مدى نبوغه وقدرته، فلما رآها لم تصنع شيئـًا، ورأى النصر قد انتزع بعدما صار في كفه، تيقن أنه ليس أمام بشر مثله، ولكنه حيال شيء فوق البشرية، وما طالت به الأيام حتى علم أنها النبوة .

وضعفت عبقرية الأرض أمام وحي السماء، وأسلم خالد - رضي الله عنه - إسلام اقتناع ويقين، ونقله الإسلام من أفق إلى أفق، ورفعه من جوّ إلى جوّ، حتى أشرف به على الدنيا كلها فأراها هذه العبقرية التي كانت حبيسة في بطن مكة لا تراها الدنيا .

كان يرى الظفر، أن تنكل قبيلة من العرب، بقبيلة من العرب، وأن يذبح العربي ابن عمه العربي، ابتغاء الغزو، أو إظهار الشجاعة، أو طمعـًا بغنيمة وكسب، فصار بعد الإسلام يرى الظفر في أن يدفع عن الحق، أعداء الحق، ولو كان أشد قوة، وأعز نفرًا، وكان أول امتحان له في الدرس الجديد الذي تلقاه في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم مؤنة .

حين التقى ثلاث آلاف عربي، ممن تخرج في هذه المدرسة، بمائتي ألف، وحين قضى القائد الإسلامي زيد شهيدًا في المعركة، فأخذ الراية خلفه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقضى، فأخذ الراية عبد الله بن أبي رواحة - رضي الله عنه - فقضي، فلم يجدوا من يولونه القيادة إلا خالدًا - رضي الله عنه - .

وحمل الراية، وما معه إلا بقية الثلاث آلاف، وحوله من العدو مائتي ألف، وليس في الدنيا قائد يستطيع أن ينقذ هذه القبضة من الرجال، من وسط هذا اللج، إلا أن يأتي بأعجوبة، وقد أتى بها خالد - رضي الله عنه - .

واستطاع أن يخرج من لجة البحر من غير أن يبتل، وأن (ينسحب) من وسط اللهب من غير أن يحترق، وأن يسجل للذكاء العربي، الذي هذبه الإسلام هذه المنقبة في تاريخ الحروب .

ولم تكن بعد ذلك معركة في تاريخ الجهاد الإسلامي، إلا كان فيها خالدٌ - رضي الله عنه - البطل المعلم، والقائد العبقري، ويوم نفخ الشيطان في آناف الأعراب فارتدوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يزلزلوا بناء الإسلام، كان من نعم الله تعالى على خالدٌ - رضي الله عنه - أن جعل على يديه تثبيت البناء، وأن يرد عنه عادية المخربين .

فلما استقر الأمر في الجزيرة، وثبت العرب على الإسلام، وكتب الله لهم شرف حمل النور الهادي، الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى آفاق الأرض، ليضيئوا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والأرض بالعدالة والأمان، كان خالد - رضي الله عنه - في مقدمة الأبطال الذين قادوا هذا الزحف المبارك، فمشى أولاً إلى العراق، ليواجه الدولة الطاغية المتجبرة، دولة كسرى، فخاض في سلسلة من الوقائع المظفرة، كانت المعارك الأولى التي صدعت هذا الصرح العالي .

ولما جاءه أمر الخليفة بأن يذهب إلى الشام، أتى بما لم يأت بمثله إلا نفر من عباقرة القواد في تاريخ الحروب في الدنيا، حين اقتحم البادية، بادية الشام .

ومن المعروف أن الجيش العربي أجرأ جيش وأخفه وأسرعه انتقالاً، شهد بذلك الأصدقاء والأعداء على السواء، ولكن الجيش العربي لم يعرف حركة أجرأ ولا أسرع ولا أعجب من انتقال خالد - رضي الله عنه - بعشرة آلاف من العراق (من الحيرة) إلى الشام، مخترقـًا الصحراء التي ليس فيها نقطة ماء إلا ما حمله على ظهور الإبل، وما ابتكره من حمل الماء في بطونها، وكان جنده يطيعونه ويتبعونه راضين واثقين ولو كلفهم خرط القتاد، رحلة عجيبة لا يتسع الوقت لوصفها، فارجعوا إلى من شئتم من المؤرخين فسألوهم ما خبرها، تسمعوا قصة من أروع قصص المغامرة، ومثلاً من أعلى أمثلة الرجولة والعزم .

وماذا تظنون صنع بعدما وصل ديار الشام ؟

إن الواحد منا يقطع هذا الطريق اليوم بالسيارة مضطجعـًا، يأكل ويتحدث وينام، وعنده المدفأة في الشتاء، والمروحة في الصيف، فلا يشكو بردًا ولا حرًا، ثم إذا وصل استلقى من تعبه على الفراش، وخالد - رضي الله عنه - قطعها على ظهور الإبل، تحت شمس الهاجرة، ووسط برد الليل، مع الجوع والعطش والخوف، فلما وصل رأى أمامه جيشـًا كثيفـًا من الروم، وجيشـًا أكثف منه يتجمع قريبـًا منه، والمسلمون فصائل ليس لها قيادة موحدة، فما شكا تعبـًا، ولا ابتغى راحة، ولا انتظر الأوامر من المدينة، بل حمل التبعة كاملة، وبادر إلى العمل، فجمع الفصائل الإسلامية وقادها، وعمد إلى الجيش الرومي الأدنى، فضربه في (أجنادين) ضربة أذهبت روعه، وأطارت صوابه، ومزقته شر ممزق، ثم وثب إلى الجيش الآخر في (اليرموك) .

واليرموك هو اليوم الأغرّ في سيرة خالد - رضي الله عنه - وهو من أيام الإسلام المعدودات .

وكان العرب لا يزيدون على خمسة وأربعين ألفـًا، سلاحهم ضعيف، ومنزلهم بعيد، والميرة والمدد منقطعان عنهم إلا أن ينتظروا أيامـًا لا تنتظرها المعركة، والروم نحو مائتي ألف، قد احتلوا من اليرموك موقعـًا حصينـًا، ومعهم الذخائر والميرة، وهم في بلاد كانوا يحكمونها، ويملكون مواردها وخيراتها، وإن تكن بلادًا عربية من الأزل، وكانوا على تعبئة فنية، والعرب بشجاعتهم، وقوة قلوبهم، لا يعرفون التعبئة، إنما يعرفون الهجوم هجوم النمر الكاسر .

ولم يكن خالد -رضي الله عنه - رأى تعبئة حربية من قبل، فلما رآها لم يُستَطر لبه، ولم ينخلع قلبه، بل أحاط بها بنظره، وتعلمها في لحظة، وعبأ الجيش العربي تعبئة كانت هي الأولى في تاريخ العرب .

فانظروا إلى عبقرية خالد - رضي الله عنه - حين تعلم من نظرة، ما تفنى الأيام، وتنقطع السنون دون تعلّمه، وإلى مرونة الجيش العربي، وذكائه وسرعة اقتباسه، حين تلقى هذا الدرس من مرة واحدة، وأدى فيه - الامتحان - العاجل، وكان من الناجحين .

وطهرت هاتان المعركتان أرض الشام من الروم، وعادت عربية مسلمة، وكانت إحدى حسنات خالد - رضي الله عنه - .

واسمعوا الآن خبر أعظم نصر ناله خالد - رضي الله عنه - : لقد انتصر على خصوص قريش في الجاهلية، وانتصر على مشركي قريش في الإسلام، وانتصر على المرتدين حتى ردّهم عن ردّتهم، وأيقظهم من سكرتهم فعادوا إلى طريق الحق والهدى، وصاروا جندهما وأعوانهما، وخضع لعبقريته أكبر جيشين عرفهما التاريخ القديم، جيش كسرى وجيش قيصر، ولكن أعظم انتصار ناله خالد - رضي الله عنه - هو انتصاره على نفسه .

تلك الانتصارات حاز مثلها قواد كثيروان، من قواد المبادئ كسعد وابن العاص - رضي الله عنهم - وقواد المطامع كالإسكندر، ونابليون، وقواد التخريب والتدمير كجنكيز وهولاكو وتيمور، ولكن هذا الانتصار لم يحزه قائد قط قبل خالد - رضي الله عنه - ولا سمعنا أنه حازه قائد بعده هو انتصاره على نفسه على ميوله وغرائزه، على طبيعته الأرضية .

وذلك أنه لم يكد يفرغ من اليرموك، ويقف ليقطف ثمرة النصر، التهاني والدعوات، وحتى لقيه كتاب العزل، وكان قد وصل من قبل المعركة، ولكن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - كتمه حرصـًا على المصلحة، ووفاء لخالد - رضي الله عنه - .

وعمر - رضي الله عنه - لم يعزله بغضـًا به، ولكن ضحى به في سبيل المبدأ، في سبيل التوحيد، رأى الجند متعلقين به، معتمدين على عبقريته، فعزله ليفهمهم أن النصر من الله تعالى، وأن الله تعالى ينصرهم بخالد وبغير خالد، وليتكلوا على الله عز وجل لا على بشر مهما سما .

ثم إن عمر - رضي الله عنه - لم يعزله، إنما يعزل من يولي، وخالد لم يولّ القيادة العامة، بل كانت (شاغرة) فعين لها أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم .

ولسنا في الكلام عن عمر - رضي الله عنه - ولكنا في الكلام عن خالد - رضي الله عنه - أفتدرون ماذا كان أثر العزل في نفسه ؟

قال : والله لو ولّى عليَّ عمر امرأة لسمعت وأطعت !

الله أكبر .. هذا والله هو النصر الحق .

رحم الله خالدًا، ورضي عنه وجزاه خيرًا .

المصدر: موقع اسلام ويب

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان