لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بواعث الفتاوى الشاذة في العصر الحاضر

د ـ رضا محمود السباعي

بواعث الفتاوى الشاذة في العصر الحاضر

07:44 م الأربعاء 13 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د ـ رضا محمود السباعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

القارئ الكريم: تعددت أقوال الفقهاء والعلماء – قديمًا وحديثًا – حول حد الشذوذ في الفتوى ومفهومه، ولا يتسع بنا المقام هنا لذكرها جميعًا، ويمكن لنا من خلال النظر في هذه الأقوال أن نقول: الشذوذ في الفتوى أن تكون على خلاف النص، أو الإجماع، أو القياس، أو مقاصد الشريعة الإسلامية، أو استحداث فتاوى تكون ذريعة للوقوع في الشبهات والمحرمات، أو الأخذ بأقوال بعض الأئمة والعدول عن النص الشرعي، أو المخالفة للعرف الصحيح، أو تتبع رخص العلماء وزلاتهم والإفتاء بها، أو التمسك بالفتاوى القديمة دون مراعاة تغير الزمان والمكان والحال... إلخ.

ولعلك أخي القارئ تسأل سؤالًا هامًا هنا فتقول: وما هي بواعث الفتاوى الشاذة؟
وللجواب عن ذلك نقول: هناك بواعث متعددة أدت إلى ظهور الفتاوى الشاذة وكثرتها في العصر الحاضر، ومنها ما يلي:
أولًا: عدم أهلية المفتي، فنجد كثيرًا ممن ليس لهم دراية صحيحة أو علم بالشريعة الإسلامية يتصدرون المجالس والقنوات والإذاعات والصفحات والمواقع الالكترونية ويفتون الناس فتاوى غير صحيحة، تكون أكثرها فتاوى شاذة تضر بحالة السلم والأمن في المجتمع.

ومن ثم نجد الإمام الشافعي – رحمه الله - يؤكد على ضرورة أهلية المفتي قبل تصدره لإفتاء فقال: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُفْتِي فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ: بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ, وَبِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ, وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ, وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ, وَمَا أُرِيدَ بِهِ, وَفِيمَا أُنْزِلَ, ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ, وَيَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنَ الْقُرْآنِ, وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ, بَصِيرًا بِالشِّعْرِ, وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ, وَيَسْتَعْمِلُ مَعَ هَذَا الْإِنْصَافَ, وَقِلَّةَ الْكَلَامِ, وَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ, وَيَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا, فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ وَلَا يُفْتِي". [الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، (2/ 332)].

ثانيًا: تتبع زلات العلماء والأخذ بها، فإذا تتبع المفتي زلات العلماء وأفتى الناس بها، خرجت فتواه شاذة عارية عن الصحة تمامًا، وقد أكد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – أن تتبع زلات العلماء والأخذ بها طريق إلى هدم الإسلام وضياع أحكامه، فقال: "يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ". [سنن الدارمي، رقم (675)].

ثالثًا: تتبع الرخص، والرخصة في اللغة تُطلق ويراد بها: التسهيل والتيسير، وفي الاصطلاح: "ما شُرع لعذر شاق، استثناءً من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه". [الموافقات، الإمام الشاطبي، 1/ 301].
فمن تتبع الرخص دون قيد أو ضابط وأفتى الناس بها، وجعلها أصلًا من أصول الإفتاء عنده وقع لا محالة في الشذوذ؛ لأن أغلب الشذوذ في الفتاوى يكون بسبب الترخيص والتسهيل، دون مراعاة لموافقة النص الشرعي أو مخالفته.

رابعًا: التأويل الفاسد، فقد يضطر الفقيه أو المفتي إلى عدم الأخذ بظاهر النص في بعض الأحيان، ومن ثم يلجأ إلى التأويل وهو: حمل النص على غير ظاهره لقرينة مُرجحة ودليل قوي، وهذا ما يسمى بالتأويل الصحيح، أما إذا كانت القرينة ضعيفة أو كان التأويل على أساس من الهوى أو إرضاء لنزوة أو حب للدنيا، أو تقليد أعمى للآخرين فهو تأويل فاسد، ومن ثم تكون الفتوى الصادرة عن المفتي حينئٍذ شاذة لا قيمة لها.
خامسًا: عدم مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي: "المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظاتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها".

[مقاصد الشريعة الإسلامية، العلامة محمد الطاهر بن عاشور، (صـ 251)].

ولأهمية مراعاة المفتي لمقاصد الشريعة الإسلامية في فتواه اشترط الأصوليون الإحاطة بقواعد الشريعة ومقاصدها لبلوغ رتبة كمال الاجتهاد عند المجتهد، وفي ذلك يقول الإمام السبكي رحمه الله: "واعلم أن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء: أحدها: أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكمًا له في ذلك المحل، وإن لم يصرح به؛ كما أن من عاشر ملكًا ومارس أحواله وخبر أموره إذا سئل عن رأيه في القضية الفلانية يغلب على ظنه ما يقوله فيها، وإن لم يصرح له به، لكن بمعرفته بأخلاقه وما يناسبها من تلك القضية". [الإبهاج في شرح المنهاج، (1/9 باختصار)].

سادسًا: الجهل بفقه الواقع، فمن أهم الأسباب التي قد توقع المفتي في الشذوذ في الفتوى الجهل بفقه الواقع، فمعرفة المفتي فقه الواقع ضروري لكي يحسن التعامل معه، والاستفادة منه، حتى لا يضع الشيء في غير موضعه.

وغير ذلك من البواعث والأسباب، مثل: التقليد المذموم، الخضوع للواقع المنحرف، الجمود على الفتاوى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة، التساهل والتسرع وعدم الاحتراز والحيطة في الفتوى، عدم استصدار القوانين التي تحرم وتجرم الشذوذ في الفتوى.

ولا شك أن المقام هنا لا يتسع للحديث عن كل هذه البواعث بشيء من التفصيل، وسنعرف في المقال القادم بمشيئة الله تعالى بعض النماذج المعاصرة للفتاوى الشاذة حتى نحذر منها جميعًا. والحمد لله رب العالمين.

إعلان

إعلان

إعلان