لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

القَولَبة في زمنِ العَولمة (1)

الدكتورة هبة صلاح

القَولَبة في زمنِ العَولمة (1)

10:07 م الثلاثاء 09 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم/ هبة صلاح

باحثة ومترجمة، دار الإفتاء المصرية

لا تزال مشاهد احتفال العَالم لاستقبال الألفية الجديدة تمر أمام عيني كلما صادفني موقف أو كلمة تصيبني بالخيبة لما لها من وقع ثقيل على الأذن والقلب، حيث تحولت هذه الفرحة العارمة التي اجتمع عليها العالم ليلة استقبال عام 2000 إلى مجموعة من القوالب الاجتماعية والأيديلوجية تحت مظلة "العولمة" وتحول العالم إلى قرية صغيرة لا تترك شاردة أو واردة إلا أتت بها إليك وأنت في مكانك دون أدني جهد منك في البحث أو حتى التأكد من صحة المعلومة.

لم يمر عام على بداية الألفية الجديدة حتى اهتز كيان العالم لمشاهد تفجير برجي التجارة العالمي بولاية نيويورك الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ليتغير بعدها وجه الأرض ويدخل العالم في صراعات لا تنتهي محورها الهوية الدينية والثقافية ليجد كل مؤمن نفسه إما مُطالَب بالدفاع عن نفسه ودينه ومعتقده وهويته ضد ما نُسِب إليه زورا وبهتانا بسبب فعل شرذمة لا تعرف عن الدين شيئا، أو يجد نفسه ضمن من يشيرون بأصابع الاتهام إلى الآخر لإدانته وتحميله مسؤولية كل الشرور التي تحدث في العالم، وكلا الفريقين ضحية هذه "القولبة" Stereotyping التي فرضتها هيمنة آلة "العولمة" Globalization على العالم كافة.

مفهوم القولبة مشتق من كلمة "قالَب" والتي تعني إفراغ الشيء في قالَب كي يُضفي عليه شكلًا وأبعادًا محددة لا ينفك عنها، وبالقياس على الواقع العالمي في أعقاب حادث الحادي عشر من سبتمبر، نجد أنه تم وضع المسلمين حول العالم في قالب "الإرهاب" وأصبح النمط السائد تبعا لقوانين وآليات العولمة أن الإسلام دين الإرهاب والمسلمين إرهابيين ووجودهم يشكل خطرا على الكوكب ومن ثم طفت على السطح جرائم الكراهية ومفهوم الإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام، ساعد على ترسيخ هذه الصورة النمطية ظهور الجماعات الإرهابية المسلحة التي تنسب نفسها زورا للإسلام تحت رعاية وتمويل المستفيدين من انتشار هذه القولبة لتحقيق مصالح شخصية.

انتشر مفهوم القولبة كانتشار النار في الهشيم ليأتي على كل قيم التعايش والحوار وهدم الثقة بيننا وبين الآخر وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لترسخ فكرة الصراع والصوت العالي وغض الطرف عن فكرة الاستماع في الأساس واختفت المساحات الآمنة لتبادل حوار بنّاء، في ظل القرية الصغيرة التي وهمتنا بها آليات العولمة.

من هٌنا صدح صوت الحِكمة لينادي بضرورة تأسيس الحوار مع الآخر والتعايش بين الأفراد من مختلف الأديان والثقافات حول العالم لتأخذ العولمة منحى إيجابي بعيدا عن القوالب النمطية التي أدت إلى اتساع الفجوة حتى بين أتباع الأديان والثقافات في الوطن الواحد.

هنا تجدر الإشارة إلى أن للحوار أهداف كثيرة وكبيرة أيضا، لكن الهدف الأول هو هدم تلك القوالب التي صنعتها آلة زمن العولمة والانطلاق في التعامل مع الآخر من مبدأ مشترك هو "الإنسانية" التي جاءت الرسائل السماوية كافة لترسيخها وصياغة المنهجية لبني آدام حتى يعم السلام والخير البشرية دون استثناء أو إقصاء.

حين ننطلق من مفهوم "الإنسانية" ونتخذه حجر الزاوية في تعاملاتنا مع الآخر ممن يختلف عنا أو معنا في الاعتقاد أو الثقافة أو حتى وجهات النظر حتمًا ستكون هناك أرضية مشتركة أو "كلمة سواء" نجتمع عليها وهي رسالات الإنسانية التي تجسدت معانيها في حديث رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم): "الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" ، وكذلك قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

"لتعارفوا" هي أول مرحلة من مراحل الحوار هي محاولة التعرف إلى الآخر أو ما يسمونه في علم الاجتماع إذابة الجليد Breaking the ice ولذا يبدأ الحديث عادة عن أمور عامة منها الحديث عن الهوايات الشخصية، العمل، حالة الجو أو نوع الطعام المفضل وغيرها من الأمور التي تكشف الجانب الإنساني وتجعل من الآخر كتابا مفتوحا يمكن تصفحه في هدوء والاستفادة منه في سلام بعيدا عن أي صراع أيديولوجي، تذوب معه قوالب الجليد التي جرفتنا إلى التميز والعنصرية بشكل لا إرادي فأصبحت المسلمة الملتزمة بالحجاب مقهورة ومتخلفة وغير المحجبة متطرفة أخلاقيا والمسلم إرهابي والمسيحي عدو المسلم والرجل مفضل على المرأة وغيرها من الأنماط التي يكشف الحوار السليم الجاد عن كونها مجرد فقاعات حبسنا أنفسنا داخلها دون أن ندري واستنزفت أعمارنا وطاقاتنا إما في الدفاع أو التبرير.

ومن ثم نجد أن العولمة والقولبة وجهان لعملة واحدة نتداولها حول العالم دون أن نبذل أي جهد لكسر الحواجز والانطلاق نحو العالم الرحب، وهذا ما سنخصص له الجزء التالي من هذه السلسة حول دور الحوار في كسر القوالب والنمطية ليكون صوت الإنسانية هو الغالب أو كما قال أحمد تيمور" الإنسانية هي الحل".

إعلان

إعلان

إعلان