الشيخ محمود الهواري: ليلة النصف من شعبان فارقة في تاريخ الأمة (حوار)
حوار - محمد قادوس
قال الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفني لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر الشريف، إن ليلة النصف من شعبان من الأزمنة الفاضلة التي جاءت بفضلها نصوص الوحي الشريف، وللمسلمين فيها حالة خاصة.
وأكد الهواري أن هذه ليلة مباركة، تعود كل عام على المسلمين فيتعرض الناس لله رب العالمين داعين أن يتجاوز الله عن سيئاتهم، وحول هذه الليلة وما فيها من واجبات، وما تذكرنا به من صفات يأتي ذكرها في نص الحوار:
* لليلة النصف من شعبان منزلة كبيرة في تاريخ الإسلام، فما الذي حدث ليلة النصف من شعبان؟
ترتبط هذه الليلة في ذهن كل مسلم بحادث مهم في تاريخ الأمة، وهو تحويل القبلة.
كانت قبلة المسلمين عندما فُرضت عليهم الصلاة وتوجههم فيها إلى المسجد الأقصى، بفلسطين، ولكن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن تكون الكعبة المشرفة قبلته، حتى يتميز، فجاء الأمر الإلهي بالتحول إلى الكعبة المشرّفة، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتّجه في صلاته إلى بيت المقدس يودّ لو أنّ الله -تعالى- يحوّل قبلته إلى البيت الحرام، ويتمنى ذلك؛ لتعلقه وارتباطه القلبيّ بأبيه إبراهيم خليل الله- عليه السلام- باني البيت الحرام ورافع قواعده، وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من نسل نبي الله إبراهيم ومتّبعه في التوحيد ومحيي سنّته، فكان ينظر في السماء يقلّب بصره، وقد امتلأ قلبه رجاء في الله كأنه ينتظر أمر الله -سبحانه- باستجابة دعائه.
وشاء الله -سبحانه- أن يُلبّي رغبة نبيّه -عليه السلام- فأنزل عليه الأمر بتغيير الوجهة إلى البيت الحرام.
والآيات التي تنقل هذه الأحاسيس مشهورة معروفة، فيها يقول الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، وفسرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، كما أكّد الله -سبحانه- أنّه ما كان ليضيع عملهم الصالح وعباداتهم، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).
* ما الحكمة في كون تحويل القبلة أمرا مهما في تاريخ الإسلام؟
لقد كان تحويل القبلة بمثابة اختبار وامتحان لعموم الناس حينئذ، ونحن إلى الآن ورثنا هذا المعنى.
*كيف كان اختبارا وامتحانا لعموم الناس؟
الواقع يقول: إن قبلة يتعبد إليها أهل الكتاب من قبلنا، ويصلي إليها المسلمون، وفجأة يؤمر المسلمون بتحويل قبلتهم، ففي هذا:
أولا: هو ابتلاء الناس جميعًا؛ مسلمين ويهودًا ومشركين ومنافقين، فالمسلمون المصدقون المؤمنون امتثلوا مباشرة دون تباطؤ لأمر ربهم ولم يتوانَوا في تنفيذ حُكمه بتغيير وجهتهم في صلاتهم إلى الكعبة، ولسان حالهم يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
أمّا اليهود فقد كرهوا ذلك وزعموا أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قد خالف الأنبياء من قبله فقد كانت قبلتهم المسجد الأقصى، وطعنوا في نبوته قائلين: لو كان نبيًّا لما خالف باقي الأنبياء.
وأمّا المشركون فاستبشروا وتهلّلوا ظانّين أنّه بذلك قد يوشك أن يعود إلى دينهم بعد أن عاد إلى البيت الحرام الذي كانوا يطوفون به.
وأمّا المنافقون فاستغلوها فرصة، وأرادوا أن يشككوا الناس في دينهم، فزعموا أنّ النبي -عليه السلام- متخبّط لا يدري ما يصنع، وجعلوا يقولون للناس: إن كان على الحقّ في تغييره للقبلة فقد كان على باطلٍ قبل ذلك، وإن كان الحقّ في القبلة الأولى فإنّه وصل إلى باطلٍ في تغييره لقبلته.
وكلّ ذلك كان اختبارًا من الله سبحانه للناس وتمحيصًا لهم. تميُّز المسلمين عن سواهم في توجّههم للقبلة وتغييرها وكلٌّ بأمر الله تعالى.
وكثُرَت أقاويل الناس، وفُتِن أُناسٌ -لم يرسخ الإيمان في قلوبهم- عن الحق، وتكلَّم كلُّ سفيهٍ ضعيفِ العقلِ بما يوافق هواه المريض، وقد صوَّر المولى سبحانه وتعالى هذه الأحوال، وهذه الأجواء في صورةٍ بديعةٍ، وسطرها في كتابه الكريم ستظل ناطقة إلى قيام الساعة وشاهدة على كل من يرد أمر الله بعقله، فقال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 145].
فواجب المسلم أن يستقبل أمر الله كما أراد الله، وليس كما أراد هو، وليس على مراد نفسه، أو هواه.
فكلُّ نجاحٍ وفلاحٍ في التسليم لأمر الله تعالى والانقياد، والهلاكُ والخسرانُ في الاستكبار عن أمره والعناد.
* هل يمكن استخراج دروس أخرى غير امتحان الناس واختبارهم؟
طبعا، كل حدث في تاريخ بناء وتأسيس الأمة، يمكن استخراج دروس كثيرة.
ويمكن أن نقول إن من الدروس التي يمكن استنباطها من تحويل القبلة:
أن يتعلم المسلمون سرعة الاستجابة لأوامر الله تعالى، والثقة بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والتسليم للشرع بما جاء فيه فلقد جاء الأمر على النبيّ بتحويل القبلة فحوّلها وتحوّلوا وهم راكعون إلى القبلة الجديدة دون أدنى شكّ أو رَيبٍ، فالعبرة بأن يعظم المسلمون ربهم وإن اختلفت الوجهة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
ومن الدروس كذلك أن المسلمين يد واحدة، وهم إخوة كما أخبر الله تعالى في القرآن، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وربهم واحد، ونبيهم واحد، ففيم الخلاف، وفيم الخصومة، ولماذا لا يسأل مسلم عن أخيه.
ومن أهم الدروس كذلك التأكيد على العلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ فالمسجد الأقصى هو أول بيتٍ وُضِع في الأرض لعبادة الله تعالى، وثانيها هو المسجد الأقصى المبارك كما جاء في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام البخاري رضي الله عنه عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى". قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ"، ثُمَّ قَالَ: "حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ".
فقرن صلى الله عليه وسلم بين المسجدين ليُثبِتَ القُدْسيَّةَ لكلَيْهِما؛ وليعرف المسلمُ قيمةَ المسجد الأقصى، وأنه لا يقلُّ مكانةً عن المسجد الحرام، وأن التفريطَ في أحدهما أو التهاونَ في حقه يُعَدُّ تهاونًا وتفريطًا في حق الآخر.
* ما الذي يجب أن يتعلمه المسلم من هذه الليلة؟
من أهم العبادات التي تذكرنا بها ليلة النصف من شعبان عبادة الدعاء، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يجعل قبلته تجاه الكعبة المشرفة، فاستجاب الله له، فالدعاء باب العطاء.
وقد حثَّنا الله تعالى على الدُّعاء في آيات كثيرة من كتابه العزيز، منها قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
ومنها قوله جل شأنه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
وما أجمل قوله سبحانه وتعالى: : ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56].
ومعنى الآية: ادعوا أيها الناسُ ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدُّعاء دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام، ادعوه تَضَرُّعًا، أي: تذللًا واستكانةً لطاعته، وَخُفْيَةً؛ أي: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جِهارًا مراءاةً، وقلوبكم غير موقنةٍ بوحدانيته وربوبيته، فِعْلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله.
وسواء كان هذا الدعاء دعاء عبادة أو دعاء مسألة
وما أحوجنا في هذا الوباء الذي حل بالأرض أن ندعو الله تعالى ليكشف عنا ما نحن فيه.
* لكن هل ترى مزية لهذه الليلة؟
هذه الليلة ككثير من مواسم الخير يتفضل الله فيها على خلقه بعطائه وكرمه، وهذه المواسم أشبه بمحطات التنقية والتطهير للقلوب من الأحقاد والذنوب، والتزود من الأعمال التي تقرب إلى علام الغيوب.
وليلة النصف من شعبان ليلة المغفرة والعفو والإحسان
قال فيها رسول الله ﷺ :"يطَّلِعُ اللهُ إلى عبادِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ ؛ فيغفِرُ للمؤمنين، ويُمهِلُ الكافرين، ويدَعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهم حتى يدَعوه".
وفي رواية :" يطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خلقِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِه إلا لمشركٍ ، أو مُشاحِنٍ".
الحديثان هما أصح ما روي في فضل ليلة النصف من شعبان
فالمسلم العاقل هو الذي يتعرض لرحمات الله ولفضله، ويبتعد قدر استطاعته وبكل حرصه على أن يكون أهلا لفضلها
فالله الكريم يمنح مغفرته لخلقه إلا لأصناف خاصة، منهم:
المشرك، والمشاحن، وأهل الحقد.
فيحتاج المسلم إلى أن يطهر قلبه من الحقد والحسد والبغضاء، وإلى أن يقبل بالعفو والمسامحة والمصارحة على كل أهله، حتى لو أخطأ إنسان في حقه فليكن هو الكريم.
فيديو قد يعجبك: