لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

المهر بين إسقاطه وتيسيره والمبالغة فيه

الدكتور محمود الهواري

المهر بين إسقاطه وتيسيره والمبالغة فيه

09:40 م السبت 05 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د. محمود الهواري

عضو المكتب الفني لوكيل الأزهر

أثارت صورة قائمة منقولات انتشرت على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في النَّاس مشاعر مختلفةً، ما بين دهشةٍ وتعجُّبٍ، وفرحٍ وسرورٍ، ورفضٍ واستنكارٍ، ونظرٍ وتأمُّلٍ وتفكيرٍ، ولكلِّ صاحب شعورٍ معيارُه ورأيه.

ينظر بعض النَّاس بدهشةٍ وتعجُّبٍ إلى هذا الرَّجل الَّذي لم يثبت في قائمة المنقولات شيئًا من متاع الدُّنيا في الوقت الَّذي تتبارى فيه الأُسرُ وتتباهي كذبًا وزورًا بإثبات ما ليس موجودًا.

وبعض النَّاس يفرحون بهذه القائمة الجديدة، ويعدُّونها مظهرًا دينيًّا أو عقلانيًّا في وقتٍ تعلَّق النَّاس فيه بالدُّنيا وزينتها.

وبعض النَّاس يرفض هذا الفعل وينكره، ويرى أنَّه ليس من حقِّ الوليِّ أن يُسقطَ ما قرَّرته الشَّريعة للمرأة، ومتى كان النَّاس يزوِّجون بناتهم أو أخواتهم بلا مهر؟!

وبعض النَّاس ينظر ويتأمَّل ويسأل: هل القائمة حقٌّ للزَّوجة، أو هي حقٌّ للوليِّ فيباح له أن يتركَ شيئًا منها، أو يتركَه كلها؟ ثمَّ يسأل: وهل تَركُ المهر كلِّه أو بعضه يرفع قدر الزَّوجة في قلب زوجها وعقله؟ أو هو طبقًا لبعض الأفكار يجعل الزَّوجة رخيصةً في عين زوجها؟!

وبينما أتأمَّل هذه المواقف المتباينة وجدت نفسي أقرُّ وأفخر بتراثنا الفقهيِّ والفكريِّ الَّذي لم ينفصل عن واقع النَّاس، وأستطيع أن أوجز ما أفهمه من الشَّرع الحنيف فيما يتعلَّق بمهر المرأة فيما ياتي:

أوَّلًا: إنَّ المهر أو الصَّداق -وهو ما يعطيه الرَّجل للمرأة عند الزَّواج- ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وعليه العمل عند النَّاس قديمًا وحديثًا.

ثانيًا: إنَّ هذا المهر مشروعٌ لحكمٍ جليلةٍ منها ما نعرف ومنها ما لا نعرف، ومن هذه الحِكم أنَّ وجود المهر في عقد الزَّواج فيه تكريمٌ للمرأة؛ بأن تكون مطلوبةً لا طالبةً، ومرغوبةً لا راغبةً، مع الاعتراف بأحقيَّةِ المرأة في الطَّلب والرَّغبة.

وهذا المهر -في إطار ضوابطه الشَّرعيَّة والاجتماعيَّة- يزيد المودَّة بين الرَّجل وزوجته المستقبليَّة؛ فالشَّرع يصوِّر المهر على أنَّه هديَّة وهبة، وليس ثمنًا كما يقول الأفَّاكون، ولم لا وها هو القرآن يأمر الرِّجال بذلك في قوله تعالى: «وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً» [النساء:4] أي هديَّة وهبة؟

وحين يتعب الرَّجل في تحصيل المهر الَّذي يقدِّمه إلى زوجة المستقبل فإنَّه يدلُّ بذلك على جدِّيَّته في الارتباطِ بها، بحيث لا تكون المرأة سلعةً رخيصةً يتسلَّى بها ويلهو ومتى أراد أن يتركها تركها.

وبعض النَّاس ينظر إلى المهر على أنَّه ثمن للمرأة، والقرآن ينفي أن يكون المهر ثمنًا كما يشيع بعض المتعجِّلين، ولو كان المهر ثمنًا فلماذا جعل القرآن للمرأة نصف المهر إن طلِّقت قبل الدُّخول؟! قال تعالى: «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». [البقرة: 237]، والحرَّة لا تُشترى ولا تُباع.

ثالثًا: إنَّ المهر لا حدَّ لأكثره، فإن القرآن يقول: «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا» [النِّساء: 20]، ولكنَّ الشَّرع رغَّب في تقليله وتيسيره، وعدم المغالاة فيه، وهذا ما وضَّحته السُّنَّة القوليَّة والعمليَّة؛ فالنَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً» يعني مهرًا، وورد أنَّه –صلَّى الله عليه وسلَّم- قال لرجلٍ أراد أن يتزوَّج بامرأةٍ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟» قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي. فَقَالَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا» فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا. فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ: «أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. فَقَالَ: «قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ».

رابعًا: إنَّ نظر الشَّريعة واهتمامها الأكبر منصرفٌ إلى استمرار الحياة بين الزَّوجين، وسعادة الطَّرفين؛ ولذا لمَّا وصف القرآنُ الحياةَ الزَّوجية لم يصفْها بكثرةِ الأموال والمتاع والفرش والأثاث، وإنَّما جعل دعائمها معنويَّة لا حسيًّة، فقال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». [الرُّوم: 21]، فالسَّكن والمودَّة والرَّحمة أمور عاطفيَّة نفسيَّة، مطلوبة في الزَّواج ليستقرَّ، وكلُّ ما يؤدِّي إليها في حكمها.

خامسًا: إنَّ المهر حقٌّ خالصٌ للمرأة، لا يجوز لأحدٍ –زوجًا كان أو وليًّا- أن يأخذه منها إلَّا بطيب نفسٍ، والله الحكيم يعلن هذا في قوله: «وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا» [النساء:4].

سادسًا: إنَّ الواقع يشهد أنَّ المرأة كثيرًا ما تعين زوجها بمالها، وخاصَّة حليَّها (الشَّبكة)، أو تساعده في نفقة الأسرة بجزء من راتبها، والشَّرع الحنيف يقرُّ للمرأة بذمَّتها الماليَّة المستقلَّة إلَّا أنَّه يبارك هذا التَّعاون الأُسريَّ شريطة أن يكون عن علمٍ وديانةٍ، عن علم كلِّ طرفٍ بحقوقه وواجباته، وديانةٍ في عدم استغلال طرفٍ لطرفٍ.

والواقع يشهد -أيضًا- أنَّ الزَّوج قد يستغلُّ عاطفة زوجته ورقَّتها وضعفها، ويتعلَّل بالدُّيون وقلَّة ذات اليد؛ ليأخذ شيئًا من مالها، وقد يهدِّدها بالطَّلاق والفراق، وكل هذا احتيالٌ لا تجيزه الشَّريعة، فالمبدأ الثابت «فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا».

سابعًا: إنَّ النَّاس حين كانت أمانتهم عالية ومعاملتهم راقية وكلمة كبيرهم مسموعة، لم يكونوا حينئذٍ في حاجةٍ إلى قائمة منقولات.

وأمَّا واقعنا ففيه من خراب الذِّمم، وفساد الأخلاق، وسوء العشرة، ونكران الجميل ما يؤكِّد الحاجة إلى قائمة منقولاتٍ تضمن الحقوق.

ثامنًا: إنَّنا لا نشكِّك في هذه المبادرة النَّبيلة الَّتي رأى فيها الرَّجل ابنته أعلى وأكبر من كلِّ مالٍ وأثاثٍ، ولكن ألسنا نتعامل فيما بيننا في غير الزَّواج بالأوراق والعقود والإيصالات والشهود، فلماذا تأخذنا العنتريَّة في موقف كهذا؟ ثمَّ أليس الخلاف واردًا بين الزَّوجين ولأتفه الأسباب، فماذا يكون الحال عند الخلاف والرَّجل لا يخشى الطَّلاق، وما يترتَّب عليه؟ فلنكن واقعيِّين إذا!.

تاسعًا: إنَّ التَّيسير في المهور مطلوبٌ شرعًا كما أسلفنا، ولكنَّ حقَّ المرأة ثابتٌ كذلك، فالجمع بينهما أن نوجد حلًّا وسطًا، فلا نُوجب على الزَّوج مهرا لا يطيقه، ويعجز عنه أمثاله، فتكون العنوسة، وتكون المعاصي، ولا نرفض المهر بالكليَّة، فليشتر الزَّوج ما استطاع من أثاث مسكنه، ويبقى ما لم يشتر دينًا متعلِّقًا برقبته يؤديه لزوجته وقت وجوده.

عاشرًا: إنَّ مراعاة عموم النَّاس معتبرة، فمن يمهر زوجته الملايين ليس بحرامٍ، ولكنَّه لا يسري أمره على عموم النَّاس، ومن يزوج ابنته رجلًا بما معه من القرآن ليس بحرامٍ، ولكنَّه لا يسري أمره على عموم النَّاس.

إعلان

إعلان

إعلان