تفسير الشعراوي للآية 41 من سورة آل عمران
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}.. [آل عمران : 41].
إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل. {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.. [مريم: 8- 9].
لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر. فماذا يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض، ولابد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقا أنها عاقر. لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا، لا تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لابد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر.
إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر، إنه لم يطلب آية لأنه يشك- معاذ الله- في قدرة الله، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}. لابد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع.
إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم، وبين ألا يقدر على الكلام. وما دامت الآية هبة من الله. فالحق هو الذي قال له: سأمنعك من أن تتكلم، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا، أي بالإشارة، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها، فإننا نعلم أن الله سينطقه.. {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}.
لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا، وجعل كل وقته ذكرا، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه سبحانه عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها، إن قوله: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس، وكأن الله يريد أن يقول له: ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر.
والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له، والتسبيح هو التنزيه لله، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه، فسبحان الله، معناها تنزيه لله، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه.. إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب. تلك اللفتة.. التي جاءت من قبل من مريم لزكريا.
وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق، يجيئها من غير زكريا، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب. وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة، فلابد أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب. فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟ إذن فمقولة مريم: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما.. وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله. والهبة شيء بدون مقابل.
فلما سأل الله ذلك استجاب الله له، وقال له سبحانه: سأهبك غلاما بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا- الخالق- سأتولى الإيجاب ب (كن) ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات- عادة- إنه تسمية المولود، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما.. هنا وقفة عند الهبة بالاسم. {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}.. [آل عمران: 39].
حين يولد للناس ولد فهم يسمونه، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس. ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى، فيسمونه (سعيدا) أملا في أن يكون سعيدا، أو يسمونه (فضلا) أو يسمونه (كريما).
إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال؟
قد يسمونه سعيدا، ولا يكون سعيدا. ويسمونه فضلا، ولا يكون فضلا. ويسمونه عزا، ولا يكون عزا. ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لابد أن يختلف الموقف تماما، فإذا قال اسمه {يحيى} دل على أنه سيعيش. وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى:
فسميته يحيا ليحيا فلم يكن *** لرد قضاء الله فيه سبيل
كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن (المحيى) له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلابد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله: (اسمه يحيى) بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة- لأن الرجل حينما يسمى ابنه (يحيى) يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل.
لكن الله حينما يسمى (يحيى) فانه لا يأخذ (يحيى) على قدر ما يأخذه الناس، بل لابد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لابد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ}.
إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله.
فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه، أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه (يحيى) منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.
إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقد بلغني الكبر وامرأتي عَاقِراً} هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: (كذلك) ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}. أي كما أنتما، وعلى حالتكما.
لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا، إنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، إنه اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا اللسان نفسه- أيضا- يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: