لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عاشقة الله الزاهدة .. رابعة العدوية

11:15 ص الخميس 20 فبراير 2014

بقلم – هاني ضوَّه :

هي امرأة لا كالنساء .. لم تجد في الدنيا وملذاتها راحتها فابتعدت عن الخلق بقلبها .. أدركت أن حبها لا يمكن إلا أن يكون لرب الأكوان سبحانه وتعالى فهمات في حب الله، حتى ارتقت وعرجت في معارج القرب ليطلق عليها بحق "شهيدة العشق الإلهي".

إنها السيدة رابعة العدوية .. الزاهدة العابدة الخاشعة التي ولدت في مدينة البصرة في مطلع القرن الثاني الهجري (حوالي سنة 100 هجرية)، وروى أبوها أنه رأى في المنام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – يقول له: "لا تحزن فهذه الوليدة سيدة جليلة" ثم جاء من بعدها الرزق الوافر.

ولكن ما لبث أن مات هذا الأب الصالح ثم لحقت به زوجته دون أن يتركا من أسباب العيش سوى قارب ينقل الناس من شاطئ للجانب الآخر في نهر دجلة بدراهم معدودة، وخرجت لتعمل مكان أبيها وبعد أن دب البصرة جفاف وصل إلى حد المجاعة فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة لا معيل لها ولا نصير إلا الله.

وفي تلك الأثناء تربص بها لص فخطفها وادعى أنها جارية له ليبيعها لأحد التجار بستة دراهم، وكان رجل لا يرقب في الله إلًا ولا ذمة، فكان يذيقها أنواع العذاب والسخرة. فكانت تناجي ربها باكية: "إلهي.. أنا يتيمة معذَّبة أرسف في قيود الرِّق وسوف أتحمَّل كل ألم وأصبر عليه، ولكن عذاباً أشدّ من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكِّك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور في خَلَدي: هل أنت راضٍعنِّي؟ تلك هي غايتي".

وكانت تؤدي عملها في بيت سيدها بما يرضي ضميرها وتؤدي فريضة ربِّها في إخلاص وتفانٍ. استيقظ سيدها ذات ليلة فسمعها تناجي وهي ساجدة فتقول: إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنَّى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك.. لكنك تركتني تحت رحمة مخلوق قاسٍ من عبادك.

وخلال دعائها وصلاتها شاهد قنديلاً فوق رأسها يحلق، وهو بسلسلة غير معلق، وله ضياء يملأ البيت كله، فلما أبصر هذا النور العجيب فزع، وظل ساهدًا مفكرًا حتى طلع النهار، هنا دعا رابعة وقال: أي رابعة وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت ونحن جميعًا في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت، فما كان منها إلا أن ودعته وارتحلت".

تصوفها:

لقد اهتمت السيدة "رابعة" منذ صغرها بحفظ القرآن الكريم وترتيله وتجويده، وترددت على المساجد لتسمع العلم على شيوخه وتشهد مجالس الذكر. وقد وقى "رابعة" علمها وفقهها من الوقوع في حبائل الشيطان، وحفظ الله قلبها وهذا هو حال العاملين الصادقين في إيمانهم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾... (فاطر: الآية 2)، وازدادت بذلك تواضعًا لله وقد أثر عن "رابعة" من شعرها الكثير في الزهد والشوق إلى الله.

ودخلت السيدة رابعة العدوية طريق العابدات الزاهدات فشغلت ليلها بالتهجد والمناجاة، ونهارها بالذكر، فكانت تحضر حلقات المساجد والأذكار فاتخذت حياتها في حلقات الذكر والوعظ والإرشاد ومجاهدة النفس.

وحينها تعرفت على العابدة الصالحة السيدة "حيونه" وكانت من كبار العابدات في مدينة البصرة، هذه المرأة أثرت في السيدة رابعة أشد التأثير، فكانت رابعة تزورها وتقضي الليل معها، فتخلوا بنفسها وتنشد: راحتي يا إخوتي في خلوتي .. وحبيبي دائماً في حضرتي لم أجد لي عن هواه عوضا .. وهواه في البرايا محنتي حيثما كنت أشاهد حسنه .. فهو محرابي، إليه قبلتي إن أمت وجداً وما ثم رضا.. وا عنائي في الورى! وا شقوتي

وروت خادمتها التي لازمتها طوال حياتها، عبدة بنت أبي شوّال أن السيدة رابعة كانت تصلِّي مئات الركع في اليوم والليلة، وإذا سُئلت: ما تطلبين من هذا؟ قالت: لا أريد ثواباً بقدر ما أريد إسعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقول لإخوته من الأنبياء: انظروا هذه امرأة من أمتي .. هذا عملها .

ومن أقوالها حينما كان يغلبها النوم: "يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور".

ومن مناجاتها لله سبحانه وتعالى حين يأتي الليل: "إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار".

ومن كلامها: "محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه"، ومن وصاياها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم".

وكان لها الكثير من الحكم البليغة، حتى قال ابن الجوزي: كانت رابعة فطنة، ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها: "أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله".

وكان سفيان الثوري يأخذ بيد جعفر بن سليمان قائلاً له: "مر بنا إلى المؤَّدِبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها".

زهد رابعة وتواضعها:

لقد بلغت "رابعة" من التواضع والزهد درجة لا يبلغها إلا الصالحون، مع ذلك لم يصبها الغرور بعبادتها وأنها من أفضل الخلق رتبة عند الله لأن هذا من تلبيس إبليس ولا ينخدع به إلا مطموس البصيرة.

فقد تجملت بالتواضع الشديد، وكانت في عين نفسها أقل العباد وهذا سمت الصالحين الذين يحاسبون أنفسهم على الصغيرة والهفوة، ومن تواضعها أن جاءها رجل يومًا يطلب منها الدعاء فقالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر، وكانت تبكي في سجودها حتى يبتل موضع رأسها، ودنياها وما فيها أهون عليها من جناح بعوضة؛ فحينما عرض عليها الزواج من صاحب غنى وجاه واسع يتفاخر به بنات جنسها فكتبت له: "أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن.. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام".

وكانت السيدة رابعة تحظى بحب من حولها، ذكر "ابن خلكان" عن بعض من أحبوها قوله: كنت أدعو "لرابعة العدوية"، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور، وكثير ما رأت في منامها ما يبشرها بالخير، روي أنها ناجت ربها فقالت: "يا إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء".

انتقالها إلى الرفيق الأعلى:

لقيت السيدة رابعة العدوية ربها وهي في الثمانين من عمرها، وقد ظلت طوال أيام وليالي حياتها مشغولة بالله وحده لا تنفك عن ذكره سبحانه، تدعوه دون أن ترفع رأسها إلى السماء حياء منه، وقد كفنت في جبة من شعر كانت تقوم تصلى فيها في جوف الليل.

وقد رأتها خادمتها في المنام بعد وفاتها وهي عليها حلة من إستبرق وخمار من سندس أخضر لم ير أجمل منه.. ويقال أنها دفنت في القدس وقبرها على رأس جبل الطور.

صورة مغلوطة عن رابعة:

من المؤسف أن نجد بعض من أرخوا لسيرة السيدة رابعة العدوية وقد شوهوها وأضافوا فيها بعدًا دراميًا بعيد كل البعد عن الحقيقة فقالوا أنها كانت غانية ترقص وتغني للأغنياء ثم تابت بعد ذلك، وهو أمر غير صحيح، فلم تكن السيدة رابعة يومًا البغايا أو الراقصات، ولكنها عرفت طريق ربها فالتزمت وظلت تطرق الباب حتى فتح لها لتعرج في معارج الصالحين لتنال رضى الله سبحانه وتعالى.

ومن هذه الأعمال والكتابات التغير صحيحة التي شوهت سيرة السيدة الرابعة كتاب "رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي" للدكتور عبد الرحمن بدوي، والشاعر المصري طاهر أبو فاشا في الدراما التي كتبها بعنوان "شهيدة العشق الإلهي"، وكذلك الفيلم السينمائي المصري الذي قامت ببطولته "نبيلة عبيد" و"فريد شوقي" كل هذه الأعمال وغيرها ثبَّتت الصورة المشوهة لرابعة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان