هل تحتاج مكاتب العمل إلى وسائل ترفيهية لتحفيز الإبداع؟
لندن (بي بي سي)
هل تحتاج مكاتب العمل إلى تجهيزات ترفيهية ممتعة لإلهام الموظفين كي يكونوا مبدعين؟ وجهنا هذا السؤال إلى جوناثان غلانسي، من بي بي سي، المهتم بالفن المعماري والتصميم، لمعرفة رأيه في مكاتب العمل الحديثة.
قال برنارد شو ذات مرة: "لا نتوقف عن اللعب لأننا نكبر؛ لكننا نكبر لأننا نتوقف عن اللعب". وربما قال بنجامين فرانكلين الشيء ذاته أيضا. وفي الواقع، عبر عدد لا يحصى من الناس عن نفس الشعور على مدى أجيال.
في الآونة الأخيرة، تأخذ بعض الشركات تلك الفكرة إلى أقصى حدودها. ففي عالم تصاميم المكاتب الحديثة، أو على الأقل في تلك الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا والإبداع، وكثير من الشركات الناشئة، وشركات التكنولوجيا والإعلان، يبدو أن هذه الفكرة ترسخت في ثقافة تلك الشركات، وتم التعبير عنها من خلال التصاميم الداخلية الفريدة، والأثاث المضحك. لكن هل هناك أي فائدة لذلك؟
أحد التصاميم الشائعة لأثاث المكتب الحديث هو الطاولة المتأرجحة التي صممتها شركة "دوفي" في فرعها في لندن. وحسب ما ورد في كتيب تلك الشركة على الإنترنت، فإن ذلك التصميم يجلب الملعب إلى مقر مجلس الإدارة، كما كان يقول شو وفرانكلين.
وتعتبر "دوفي" واحدة فقط من عدد متزايد من شركات التصميم حول العالم التي تساهم في إعادة تشكيل المكاتب لتشبه روضات الأطفال الإبداعية. وإذا كانت هذه حركة ناشئة في التصميم، فقد بدأت وازدهرت في كاليفورنيا وواشنطن، حيث أصبحت أجهزة الحوسبة، والزي غير الرسمي في مكتب العمل، وأجواء المشاعر الطفولية، دلالة على الابتكار داخل الشركات.
لكن هل المكاتب التي توفر وسائل المرح بشكل نابع من الوعي التام بأهميتها تجعل الموظفين مبدعين حقا؟ يقترح كتاب "تحدي الإبداع" للمصمم تانر كريستنسن أن "تتصرف وكأنك في الثالثة من العمر مرة أخرى!" في العمل، لأن الأطفال الصغار يميلون إلى أن يكون لديهم خيال جامح. ومع ذلك، فإن مثل هذا الإبداع هو من سمات الطفولة الحرة والمستقلة.
وقد صممت المكاتب التي تشبه "رياض أطفال" في شركات التكنولوجيا هذه الأيام لتجعل العاملين فيها يشعرون بالإبداع في أماكن عملهم. إذ يمكن للفريق المبدع حقا أن يعمل في سقيفة، أو مرآب، دون وجود ألعاب أو رسومات صارخة.
وبالطبع، فإن مرائب السيارات هي الأمكنة التي بدأت فيها التكنولوجيا الرقمية. أما المكاتب التي تشبه رياض الأطفال فقد يكون لها علاقة أكبر بالسيطرة على القوة العاملة وإبقائها في المكتب لساعات طويلة، بدلا من السماح لها بأن تكون حرة.
ورغم أننا قد نمل من هذه المكاتب، إلا أن المقصود منها أن تكون شبابية، وأنيقة وتحفيزية، وممتعة أيضا.
لكن مع الألوان المشابهة لألوان "رياض الأطفال"، والرسومات الكبيرة، وأكواخ الشاطئ، والأراجيح، وأكياس الملاكمة، و"الخيم مخروطية الشكل"، وأصص النباتات، والشعارات على الجدران التي تفاخر بالقول "الوعي يحدث هنا"، والزلاجات، فإنه بالكاد يمكن لشركات التكنولوجيا في كاليفورنيا أن تقارن نفسها بما تفعله مثلا شركة "إنفنشن لاند" (أرض الاختراعات) في مدينة بيتسبرغ.
ففي المكاتب الجديدة في شركة "إنفنشن لاند" التي دشنها مؤسسها جورج م ديفيدسون عام 2006، يعمل المخترعون داخل تصميمات وهياكل مختلفة، مثل روبوت عملاق، أو سفينة قراصنة، بينما يشرف ديفيدسون على المشهد من مقره داخل أغصان الأشجار.
من الناحية التجارية، تعتبر هذه الشركات ناجحة، لذلك ربما لا يوجد شك بشأن فكرة أن المكاتب التي تعيد الموظفين إلى طفولتهم تعد أماكن جيدة للأعمال التجارية.
لكن المكتب الذي يشبه روضة الأطفال ليس للجميع. إذ يفضل بعض الموظفين التفكير بشكل خلاق في محيط عمل للبالغين. لذا، فماذا لو كنت من النوع الذي يتجنب طغيان مكان العمل المرح قسريا، كذلك الذي يذكرنا بالمخيمات الصيفية الأميركية وحفلات الأطفال؟ أو إذا كنت شخصا يحب الهدوء والبريق المغري للمكاتب الحديثة التي صورت في المسلسل التلفزيوني الأمريكي (Mad Men) في منتصف القرن الماضي.
سيكون تمرينا رائعا لو قدمنا لفريق مبدع اسميا مساحة في مكتب تقليدي لمدة ثلاثة أشهر تليها ثلاثة أشهر في مساحة عمل مقامة على غرار روضة الأطفال. هل سيكون الفريق أكثر إبداعا مع الأشياء الممتعة للنظر والألعاب المتوفرة؟
في حين أنه من الخطأ الحكم مسبقا على النتيجة، فإن التاريخ يشير إلى أن الإبداع يزدهر كلما وحيثما ألهم الناس بعضهم البعض، وبغض النظر عما يحيط بهم، بينما بعض أعظم الاختراعات والأعمال الفنية أنجزها أناس كانوا مكتفين بالعمل وحدهم في أماكن مثل مرآب، أو سقيفة الحديقة.
فطائرة الكونكورد، الطائرة الأكثر مغامرة في العالم، كانت قد اخترعت في مزيج من مكاتب كئيبة المظهر، وورش عمل صناعية تقليدية في الواقع.
وبعبارة أخرى، يمكن للمبدعين أن يعملوا، وقد عملوا، على أفضل وجه داخل التصاميم المعمارية الواسعة، والخالية من الزخارف. ولعل المكاتب التي تشبه روضة الأطفال تعبر أكثر عن أولئك الذين يطلبون إنشاءها أكثر مما تعبر عن طبيعة الإبداع في حد ذاته.
ولحسن الحظ، كانت هناك دائما مساحات عمل بديلة، وفي الوقت ذاته مصممة بوعي تام بشكل يفضي إلى الإبداع.
انظر، على سبيل المثال، إلى المكتب الرئيسي لشركة فوستر وشركاه، والذي يطل على نهر التايمز في منطقة باترسي جنوب غربي لندن. إن ذلك المكتب الذي افتتح عام 1990 يستحضر نفس النوع من الإبداع الهادف لمكاتب الرسم الكبرى لهندسة السكك الحديدية والفضاء التي شكلت القاطرات والطائرات الجميلة والناجحة.
لقد نمت شركة نورمان فوستر من خلال الصناعة والإبداع لتصبح الرائدة في الممارسة المعمارية في بريطانيا. ولم يكن المهندسون المعماريون الذين وظفهم فوستر، وغالبيتهم شباب من جميع أنحاء العالم، بحاجة إلى الزلاجات، أو الآرائك المريحة، أو الألعاب، للتفكير والتصرف بشكل خلاق.
ومن الجدير بالذكر أن فوستر وشركاه، بالتعاون مع فريق تصميم أبل بقيادة جوني آيف، صمموا المبنى الذي يعرف باسم "كامبس 2" لشركة أبل، وهو عبارة عن حلقة دائرية من مكاتب التكنولوجيا الرائعة لعدد من الموظفين يبلغ 13 ألف موظف، في كوبرتينو بولاية كاليفولرنيا، والمقرر افتتاحه هذا الخريف.
وسيكون مبنى شركة أبل الجديد، مع كل التفاصيل واللمسات التي خصصت له، حلم من يسعون إلى الكمال. فلا أسلاك متدلية هنا أو هناك، ولا أحواض ساخنة للاستحمام، ولا زلاجات للعب الموظفين. فهو مبنى شيد بشكل سلس على شكل جسد طائرة، مع تصميم داخلي يعكس المظهر الجمالي لأجهزة آيماك وآيفون.
وعلى الرغم من ذلك، فهناك مجال للفن الإبداعي في المكاتب التي لا تتمتع بالهدوء بشكل كامل، ولا بجو طفولي. انظر مثلا إلى "القديس جيروم في مكتبه" (1470)، وهي لوحة للفنان أنطونيلو دا ميسينا، من فناني أوائل عصر النهضة الإيطالية.
وقد أعاد المعماري الكاتالوني، ريكاردو بوفيل، خلق إحساس بمكان العمل الذي ظهر في لوحة القديس جيروم، وذلك في مكاتب شركته الإسبانية للهندسة المعمارية "آر بي تي إيه". وتعد مكاتب الشركة، التي صممت وبنيت في سبعينيات القرن الماضي من الصوامع الخرسانية المهجورة على تخوم برشلونة، أماكن خيالية خاصة بالمبدعين، دون أن يكون فيها أي ملامح للهو، أو وسائل الترفيه.
قبل الحرب العالمية الثانية بقليل، شكل المهندس الأميركي الكبير فرانك لويد رايت مقرا ثوريا لشركة جونسون واكس في راسين بولاية وسكونسن. وكانت "الغرفة الكبيرة" في وسط تلك العجيبة المعمارية على طراز غابة واسعة، ذات أعمدة على شكل أشجار النخيل المحبوك على مستوى السقف.
وكانت النتيجة عبارة عن مكتب مضاء بإنارة خافتة بأسلوب خيالي جدا، ومناسب للبالغين. وفي حين قد يبدو المقر خياليا للوهلة الأولى، فإن مساحة العمل تلك هادئة ومريحة للعمل، ويزدهر الإبداع في الهدوء بقدر ازدهاره في أجواء الضحك والموسيقى واللعب.
فيديو قد يعجبك: