هل النسوية "فكرة غربية صُنعت لتدمير مجتمعاتنا"؟
هل النسوية ''فكرة غربية صُنعت لتدمير مجتمعاتنا''؟
بي بي سي
كثيراً ما تُتّهم النساء العربيات، اللواتي يطرحن أفكاراً يعتبرها البعض "متحررة" ويطالبن بحقوقٍ إنسانية بديهية، وكذلك الجمعيات المعنية بالدفاع عن حقوق النساء في المنطقة العربية بـ"استيراد مفاهيم غريبة عنا، نشرها الغرب بيننا وزرعها في رؤوسنا لتدمير مجتمعاتنا وتفكيك الأسرة".
بمثل هكذا تعليق على منشورات "ذات طابع نسوي" على وسائل التواصل الاجتماعي، يحذر معلّقون من تداعيات "الأفكار النسوية" على عائلاتنا - هذا التحذير كثيراً ما يأخذ شكل الاتهام الخطير.
لكن، هل هناك أساس تاريخي يؤكد مثل هذا الاتهام؟
وماذا نعرف عن تاريخ النسوية في العالم العربي؟ وهل تختلف بمفهومها عن التجربة الغربية؟
"تهمة" النسوّية
تقول لينا عاشور، الأستاذة المساعدة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، إنّ هدف هذا الاتهام، يختلف بحسب من يقوله وبحسب دوافعه السياسية.
وبرأيها، إن جاء الاتهام من شخص من المنطقة العربية، فهدفه يكون "تشويه أي أفكار نسوية ونسبها للغرب، فيقدم نفسه على أنه وطني ويحافظ على القيم الوطنية بنسب هذه الأفكار إلى مكان آخر".
أما إذا أتت هذه الاتهامات من شخص غربي، يؤكد فيها أن النسوية مفهوم غربي فقط "فهدف ذلك مختلف تماماً، إذ يُعتبر ذلك عنصرية بحتة"، وفقاً لعاشور.
وتوضّح فكرتها بأن ذلك ينبع من فكرة بعض الغربيين بأن الشعوب العربية "رجعية وليس لديها أفكار تقدمية".
إلى جانب لينا عاشور، المتخصصة في "نظرية النوع الاجتماعي ودراسة آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط"، تحدثتُ إلى سارة مراد، مؤسسة ومديرة مشاركة لبرنامج دراسات المرأة والجنس في الجامعة الأمريكية في بيروت.
تتفق كل من مراد وعاشور، على أنّ فكرة ارتباط النسوية بالغرب، تنفيها حقيقة أن الكثير من الأفكار والتحركات النسوية في المنطقة العربية عبر التاريخ، ارتبطت بالحراك المناهض للاستعمار الذي جاء إلى منطقتنا، وبحركات النضال الوطني، وليس العكس.
وتعلّق عاشور: "من الملائم جداً للمشككين نزع الطابع السياسي عن التاريخ، ثم القول إن النسوية مستوردة من الغرب".
هل هناك مشكلة في التعريف؟
تُعرّف الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" مصطلح "النسوية" على أنه "الإيمان بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الجنسين".
وبحسب الموسوعة: "على الرغم من أن النسوية نشأت في الغرب بشكل رئيسي، إلا أنها تنتشر عالمياً، وتمثلها مؤسسات متنوعة ملتزمة بالدفاع عن حقوق المرأة ومصالحها".
إلا أنّ هذا التعريف قد يبدو غير دقيق لبعض المختصين بالجندر والنسوية، لأسباب وتفاصيل عديدة.
فعاشور مثلاً، تقول إنّ أحد الفوارق الرئيسية بين "النسوية الليبرالية الغربية" وتاريخ النسوية في العالم العربي، يتمثل بأنّ "الاستهلاك الغربي للنسوية عادةً ما يتركز على قضية واحدة ويناقشها وحدها دون سواها، هي الجندر (النوع الاجتماعي)"، بينما لطالما كانت النسوية في العالم العربي أكثر شمولاً، "إذ لم تكن الأفكار النسوية يوماً منفصلة عن المطالبات الحقوقية المجتمعية والسياسية الأخرى" في المنطقة.
وتضيف، بسبب ذلك، عندما نحاول توثيق نتاج المفكرات النسويات العربيات المشهورات، وعندما نقارنهنّ بمثيلاتهنّ في الغرب، "نشعر وكأنه ليس لدينا شخصيات كثيرة مقارنةً بالغرب. ولكن ذلك في الحقيقة هذا أمر غير دقيق".
تشير عاشور إلى أن الكثير من المفكرات والناشطات والعاملات والمناضلات العربيات، كنّ "نسويات" تلقائياً، لكنهنّ لم يعرّفن عن أنفسهنّ كذلك، أي لم يستخدمن هذا التعبير (نسوية) للدلالة على هويتهنّ الفكرية، مما يُصعّب مهمة إيجادهنّ عندما البحث في التاريخ.
كما تطرح عاشور اختلافاً آخر في طريقة قيادة الحركة النسوية بين العالم العربي والغرب.
فتقول إنه في العالم العربي "لا نعتمد الطريقة نفسها (في النضال)، بأن يكون لدينا شخصية نجمة رئيسية" تظهر كقائدة منفردة، وتقود حراكاً نسوياً.
كما تشير إلى غياب التخصص الأكاديمي في هذا المجال، عربياً.
فالطبيبة والمفكرة المصرية نوال السعداوي تعتبر من أبرز الكاتبات والمفكرات النسويات العربيات المشهورات، لكنّ ذلك لم يكن تخصصها الأكاديمي ولا مجال بحثها، "وهذا في الحقيقة أمر غير مهم"، وفقاً لعاشور.
وفي لبنان، قتلت وردة بطرس، وهي عاملة تظاهرت للمطالبة برفع الأجور - ولم تقدم وردة بطرس أو رفيقاتها أنفسهنّ على أنهنّ مناضلات نسويات، إلا أنهنّ كنّ كذلك فعلاً.
فهنّ كنّ من بين العمّال والعاملات في إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية (الريجي) - التي تأسست عام 1935 خلال الانتداب الفرنسي، وشاركن في تظاهرات وإضرابات عمالية عام 1946 للمطالبة بزيادة الأجور وغيرها من التفاصيل الحقوقية العامة، ومنها الخاصة بالنساء العاملات بالمؤسسة، فأطلقت القوات الأمنية الرصاص عليهم.
كيف كانت البدايات؟
في محاولة لرسم صورة عن بدايات ما وصل إلينا من معلومات عن نسويات عربيات، تعود بنا سارة مراد، من الجامعة الأمريكية في بيروت، إلى أواخر القرن التاسع عشر.
تحدّثني عن اللبنانية زينب فواز؛ فكتاباتها المنشورة كانت من بين أول ما وصلنا من مفكرات أو كاتبات نسويات عربيات.
وتقول: "توثق بعض المراجع نشر زينب فوّاز لنصوص مدافعة عن حقوق المرأة في التعليم والعمل، في الصحف المصرية نحو عام 1892".
كما تشير مراد إلى مي زيادة، المولودة في الناصرة لأب لبناني وأم فلسطينية.
"في مرحلة لاحقة من التاريخ، كتبت مي زيادة ثلاث قصص على الأقل عن حياة نساء أخريات غير معروفات، ركزت على حياتهنّ وإنجازاتهنّ، فكان ذلك بمثابة تأريخ لحُقب معينة، أشبه بموسوعة لإنجازات نسائية لم يكن أحد يعير الانتباه إليها".
ونُشر كتاب مي زيادة "باحثة البادية" الذي يتناول قصة حياة الكاتبة المصرية ملاك حفني ناصف عام 1920.
من جهتها، تقول عاشور: "يمكن التفكير بملاك حفني ناصف ضمن أوائل النساء النسويات خلال أواخر القرن التاسع عشر في مصر، حيث كانت تكتب عن حقوق النساء. ولكن لا يمكنني أيضاً القول إن ملاك حفني ناصر كانت أول نسوية عربية".
حاول "مركز معرفة المجتمع المدني" في لبنان، توثيق تسلسل زمني مبدئي عن مفكرات نسويات من البلاد.
ويبدأ التسلسل الزمني عام 1906، مع لبيبة هاشم، التي يصفها المركز بأنها "من أوائل الرائدات في لبنان اللواتي نشرن دورياتٍ (مطبوعات) نسائية؛ إذ صدرت مطبوعة "فتاة الشرق" بين العامين 1906 و1929، (وبعض المصادر ترجع تاريخ أوّل إصدارٍ لها إلى العام 1900).
دافعت تلك المطبوعة عن تحرير النساء، وحقّهنّ في التعليم والمشاركة السياسية.
وتشير عاشور إلى تفاصيل كثيرة تؤثر على وصول هذه الأفكار إلينا.
ومن بين هذه التفاصيل الطبقة الاجتماعية للشخص، وقدرته على تأمين مستوى تعليمي معيّن وقدرته على نشر الأفكار في مجلات أو صحف أو كتب كي تصل للأجيال اللاحقة.
وتعتقد عاشور أيضاً أنّ الكثير من الأسماء يتم تجاهلها عادةً لأسباب سياسية، إذ كانت معظم المفكرات النسويات في العالم العربي يساريات.
وتضيف: "في فترة الحرب الباردة، كانت الحكومات الجديدة في المنطقة تسجن الاشتراكيين، وكانت السيدات تعانين أيضاً في ظل الأوضاع السياسية آنذاك".
كما تعتبر أنه يتم تجاهل ذكر بعض السيدات أيضاً "بسبب نضالهنّ المسلّح مثل الفلسطينية ليلى خالد"، التي "يوجد لها مقاطع فيديو وهي تطرح أفكاراً نسوية عديدة في ورش عمل".
وتضيف: "لذلك أقول إنه لا يمكنك دراسة النسوية في المنطقة لوحدها، بل عليك أيضاً دراسة تاريخ الحركات السياسية بشكل عام".
وليلى خالد، فلسطينية سجنت وارتبط اسمها بعمليات عدة لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" أهمها يتعلق باختطاف طائرة إسرائيلية مدنيّة، ومحاولة اختطاف ثانية.
أبرز الأفكار النسوية العربية
تميزت النسوية العربية بأفكار أخذت طابعها من المجتمع والمنطقة ذات الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتنوّع، فما أبرز هذه الأفكار؟
1) "فضح النسوية العنصرية"
تعتقد الأستاذة الجامعية لينا عاشور أنّ أول مفكرة معروفة على نطاق واسع ناقشت هذه الفكرة، كانت الكاتبة والباحثة الاجتماعية المغربية فاطمة المرنيسي، التي تناولت العلاقة بين النسوية والإسلام.
وتوضّح بأن المرنيسي، ومن بعدها كثيرات، قلن لنسويّات الغرب "أنتن أيضاً عالقات بمعايير الجمال وتحت ضغط الظهور والعمل بطريقة معينة دون سواها"، في انتقاد لنظرة غربيّة تعتبر النساء العربيات "خاضعات"، بسبب ارتدائهنّ الحجاب وبسبب بعض المحظورات الاجتماعية الأخرى.
لذا، تعتبر عاشور أن "الغرب يفكر بالمرأة وحقوقها بشكل حصري ضمن (سياق) مجتمعات الغرب. في هذا التعاطي الكثير من العنصرية ورهاب الإسلام والمسلمين".
وتشرح فكرتها قائلة: "يمكن أن تتأثر مواضيع الجندر والنسوية بالسياق (المجتمعي والديني)، ويجب أن يكون هناك مساحة للنقاش والتفاوض".
2) النساء العربيات "لسن بحاجة لإنقاذ"
تعتبر عاشور أن تحدّي بعض الأفكار التي نمّطت المرأة العربيّة، من قبل "الرجل الأبيض"، كان أحد أهم المساهمات للنسويات العربيات.
ويستخدم تعبير "الرجل الأبيض" للدلالة على نظرية تنبع جذورها، بحسب مؤرخين، من حقبة الاستعمار الأوروبي والإمبريالية، فتبرر هيمنة الرجل الأبيض وتفوقه العرقي.
وتعطي مثالاً من كتابات ليلى أبو لغد، وهي أمريكية من أصول فلسطينية، ومختصة بدراسات الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية.
فأبو لغد ناقشت نظرة غربيّة اعتبرت النساء المسلمات "لا رأي لهنّ، وضعيفات، وليس ذلك فقط، بل أنهنّ بحاجة لإنقاذ من الأشخاص البيض ومن ضمنهم النساء البيض".
وتشير عاشور إلى أن هذه الفكرة "تمر دون تحد لها في الغرب الليبرالي وفي عالم النسوية البيضاء أيضاً".
3) "لا يمكن الفصل بين القمع الجندري والقمع السياسي"
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أتاحت تكنولوجيا الطباعة للنساء أن يصبحن ناشرات لدوريات ومجلات وصحف نسائية، كما تلفت سارة مراد.
أدى ذلك، وفقاً لمراد، إلى ظهور "خطاب نسوي حقيقي ودائم" في العالم العربي من خلال هذه المطبوعات التي كانت تنشر بشكل خاص في كل من مصر ولبنان، فأصبح هناك "تبادل ثقافي نسوي واسع" بين البلدين.
وفي كل من مؤتمر السيدات العربيات الفلسطينيات في القدس عام 1929، والمؤتمر العربي النسائي الأول في دمشق عام 1930، ومؤتمر الاتحاد النسائي العربي في القاهرة عام 1944، الذي أسسته هدى شعرواي، تحدثت نساء عربيات فيه عن أنه "لا يمكنك مناقشة الجندر وحقوق النساء، من دون مناقشة الطبقية والإمبريالية والقومية والاستقلال"، كما تذكّر عاشور.
وتضيف: "لم تقم تلك النساء في أي وقت، بفصل الأمور والقول إنهن يردن فقط التحدث عن الجندر وحقوق المرأة".
إذ فهمن أن قمعهن "مرتبط بالإمبريالية، فطالما لم يتخلصن من الإمبريالية، لن يستطعن التخلص من أي نوع آخر من القمع".
4) أهمية التضامن الإقليمي
تعطينا المحاضرة الجامعية في لندن، مثالاً على تخطي بعض المناضلات حدود بلادهنّ للدفاع عن حقوق آخرين، وأبرزهن ليلى فخرو - البحرينية التي شاركت في انتفاضة ظفار في سلطنة عمان.
فبين عامي 1963 و1975 شهدت سلطنة عمان أحد أبرز النزاعات المسلحة الصامتة خلال الحرب الباردة، بين قوات السلطان، التي كانت قيادتها بريطانية، وحركة ماركسية مسلحة تمركزت في إقليم ظفار الجنوبي.
في ستينيات القرن الماضي اندلعت "ثورة ظفار" داخل نطاق قبلي ضيق حيث تشكلت جبهة تحرير ظفار ضد حكم السلطان سعيد بن تيمور.
تخبرنا عاشور أنّ فخرو كانت تستخدم اسماً حركياً - فالبنسبة لها - كان عملها على الأرض هو "أعلى أشكال النضال".
وتشير إلى مفهوم التعاضد والتضامن الإقليمي لتحقيق نتائج فعالة "موجود عربياً منذ عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي"، في حين أن التفكير النسوي الغربي "بدأ بتداولها منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي كمفهوم غربي تقدمي".
وتضيف عاشور أنّ فخرو كانت تجيب من يسألها عن مسؤولياتها تجاه عائلتها وابتعادها عنها كي تكون مناضلة، بالقول إنها "تؤمن بما تفعله إلى حدّ كبير لأنه أمر مرتبط بصحة ورفاهية الجميع، وهو بذلك أكثر أهمية من مسؤوليتها تجاه عائلتها".
في نهاية المقابلة، أشارت عاشور إلى الكثير من النساء عملن لأجل حقوقهنّ بالخفاء، من خلال مجموعات صغيرة جداً، "لكننا لا نسمع عنهنّ لأسباب أمنية، ولا بأس بذلك".
وتضيف: "أعتقد أنّ هذه الجزئية مهمة جداً، لأنّ فكرة التحدث فقط عن الأحداث الكبيرة جداً في التاريخ، وتقديرها دون غيرها، هي أيضاً فكرة ذكورية جداً".
فيديو قد يعجبك: