إعلان

ماذا يريد ترامب من كندا؟

04:31 م الأربعاء 16 أبريل 2025

ترامب

(بي بي سي)

لا تمثل جزيرة ماشياس سيل سوى نقطة صغيرة على خريطة أمريكا الشمالية. لكن هذه الجزيرة عبارة عن صخرة غير مأهولة مغطاة بالضباب، تكتسب أهمية كبيرة بفضل موقعها في منطقة تُعرف باسم "المنطقة الرمادية"، التي يدور حولها نزاع دولي نادر بين كندا والولايات المتحدة.

ومازالت هناك مطالبات بالسيطرة على الجزيرة والمياه المحيطة بها من الجارتين، الحليفتين القديمتين، لأنها تقع في موقع التقاء ولاية مين الأمريكية بمقاطعة نيو برونزويك الكندية، ونظرا لعدم حسم الموقف يحق لكل منهما صيد وبيع الكركند (الاستاكوزا) وهو مصدر ثمين للدخل.

يتحدث صياد الاستاكوزا الأمريكي جون دروين، الذي يصطاد في المنطقة الرمادية منذ 30 عاما، عن الاندفاع الجنوني للصيادين الكنديين والأمريكيين لوضع المصائد في بداية موسم صيد الاستاكوزا الصيفي كل عام.

ونتيجة لهذا الاختلاط يقول دروين: "فقد الناس أجزاء من أجسادهم، وأصيبوا بارتجاجات في المخ، وتهشمت رؤوسهم، وكل شيء".

وغالبا ما تقع الإصابات عندما يعلق الصيادون في شباك بعضهم البعض. ويصف كيف فقد أحد أصدقائه إبهامه بعد أن علق في خيط أحد المصائد، وهو ما يسميه دروين "ندبة المعركة في المنطقة الرمادية".

صورة 1_1

تبلغ مساحة المنطقة الرمادية حوالي 277 ميلا بحريا مربعا حول جزيرة ماشياس سيل، وهي موضع نزاع قديم منذ أواخر القرن الثامن عشر، وفي عام 1984 منح حكم محكمة دولية الولايات المتحدة وكندا الحق في الصيد في الممر المائي.

كانت هذه بمثابة حالة غريبة، فهي منطقة توتر معزولة ولم تؤثر حتى الآن على العلاقات الوثيقة بين البلدين.

لكن الآن فإن هذه الحالة قد تكون على وشك التغيير.

أثارت عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، وفرضه تعريفات جمركية باهظة على الواردات الكندية، وخطابه حول ضم كندا لتكون الولاية الأمريكية رقم 51، سلسلة من نقاط التوتر الجديدة، الذي يخيم على كل شيء.

والآن وفي ظل أكبر تحول في العلاقة بين البلدين منذ عقود، فإن السؤال هو، ماذا يريد ترامب حقا من كندا؟

حروب الاستاكوزا

تعد مدينة كاتلر، التابعة لولاية مين، هي أقرب مدينة أمريكية إلى المنطقة الرمادية. تضم مجموعة من المنازل المتناثرة، ومتجرا واحدا للإمدادات، وكذلك تاجر لبيع الاستاكوزا بالجملة، والسبب معروف لوجوده هنا.

وتعد الاستاكوزا، القشريات التي توجد بكثرة على سواحل كاتلر، السبب الرئيسي لوجود المدينة والبقاء على الخريطة، لأنه لا يوجد بها سوى بعض المتقاعدين من المدن الكبرى وهو قضاء العطلات في المنطقة.

وبالنسبة للصيادين في كاتلر، فإن الغموض الدولي للمنطقة الرمادية يمثل واقعهم اليومي، حيث ينثرون مصائدهم على طول قاع خليج مين لصيد الاستاكوزا الثمينة وبيعها في السوق.

خلال موسم الصيد، تكتظ المنطقة الرمادية بالقوارب والعوامات التي تحدد مواقع المصائد. وعندما تزدحم المياه وتقل المصائد، قد تتفاقم الأمور.

صورة-2_2

ويتساءل دروين، الذي يططاد الاستاكوزا منذ 30 عاما عن الموقف، قائلا: "هل يعجبنا ذلك؟ لا على الإطلاق"، "سأستمر في الشكوى منه حتى النهاية."

وقال نيك ليميو، وهو صياد آخر من ولاية مين، إنه تعرض للسرقة هو وأبناؤه، وفقدوا حوالي 200 مصيدة في السنوات الأخيرة، ويُلقي باللوم على منافسيهم في الشمال (كندا).

وقال: "هذه منطقتنا، وهي كل ما لدينا للعمل به. أمور كهذه لا تعجبنا."

يتهم الأمريكيون الكنديين بالعمل بموجب قواعد مختلفة لكنها أكثر مرونة مما يسمح لهم بصيد الاستاكوزا الأكبر حجما.

ويرد الكنديون بأن الأمريكيين لديهم حدود أكبر وأعلى للصيد، وأنهم يصطادون سرا في مياههم الإقليمية.

واشتكى الاتحاد الذي يمثل مسؤولي الحدود الكنديين مؤخرا من أن الأمريكيين هددودهم بالعنف، ردا على جهودهم في إنفاذ القانون، ورفض بعض الضباط الكنديين العمل في المنطقة الرمادية.

ترسل كندا بانتظام عمال صيانة إلى جزيرة ماشياس سيل لفحص منارة تعمل آليا، زاعمين أنها دليل على سيطرتهم على الجزيرة.

بينما يعتبر الأمريكيون أن قوات مشاة البحرية الأمريكية التي احتلت الجزيرة خلال الحرب العالمية الأولى، دليل على سيادتهم عليها.

سلسلة من النزاعات الحدودية

يبدو أن ملامح حل الخلاف غير واضحة، ولكن خلال رئاسة ترامب الأولى، لم تؤثر أحداث المنطقة الرمادية بشكل كبير على الدفء العام بين الولايات المتحدة وكندا.

عندما استضاف ترامب رئيس الوزراء الكندي السابق جاستن ترودو، في البيت الأبيض عام 2018، تحدث عن العلاقة الأمريكية الكندية بعبارات مليئة بالحيوية، مُشيرا إلى "الروابط الخاصة" بين البلدين وأنهما "تتشاركان أكثر بكثير من مجرد حدود".

إلا أن خطابه تغير بشكل كبير في الوقت الحالي.

صورة-2_2

في الأشهر الأخيرة، دأب ترامب على وصف كندا بأنها "الولاية رقم 51" للولايات المتحدة، وأعرب البيت الأبيض عن استعداده لفتح موضوعات جديدة للخلاف على طول الحدود الأمريكية الكندية.

في سبتمبر/أيلول، كشف ترامب عن نيته في استخدام المياه الكندية في مقاطعة كولومبيا البريطانية غرب البلاد، واقترح على سبيل المثال، ضخها عبر الأنابيب إلى كاليفورنيا التي تعاني من الجفاف: "هناك ملايين الجالونات من المياه تتدفق من الشمال... لديهم صنبور مياه كبير جدًا".

وفي منطقة أخرى على مسافة 1500 ميل شرقًا، قد تصبح البحيرات العظمى موقعًا لصراع محتمل، حيث أبلغ مسؤولون أمريكيون نظراءهم في كندا، أنهم يفكرون في الانسحاب من معاهدات بسبب لوائحهم البيئية.

وحتى في الشرق، أصبحت مكتبة هاسكل الحرة ودار الأوبرا مسرحًا غير متوقع لاشتعال جديد بين البلدين.

بنيت المكتبة عمدًا على حدود فيرمونت وكيبيك كرمز للتعاون بين كندا والولايات المتحدة، وكانت مفتوحة أمام سكان كلا البلدين. لكن في شهر مارس/آذار، غيرت أمريكا القواعد وألزمت الكنديين بالمرور عبر نقاط مراقبة الهجرة قبل دخولهم المبنى، وزعمت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أن هذا الإجراء جاء رداً على تزايد الاتجار بالمخدرات.

معركة من أجل الموارد الطبيعية

وتمثل الموارد الطبيعية بين البلدين مصدرا آخر للخلاف. تمتلك كندا موارد هائلة من المعادن الأرضية النادرة، والذهب، والنفط، والفحم، والأخشاب، وهي الثروة الطبيعية التي يحرص ترامب دائما على ذكرها.

ورغم أنه نفى أي رغبة في الأخشاب الكندية، أو مخزونات الطاقة، أو المنتجات المصنعة، لكن رئيس الوزراء ترودو صرح في فبراير/شباط الماضي، خلال اجتماع مغلق لقادة الأعمال والعمال الكنديين، بأنه يرى الأمر بشكل مختلف.

ونقلت هيئة الإذاعة الكندية (CBC) عن ترودو قوله: "أشير إلى أن إدارة ترامب لا تعرف فقط كمية المعادن الأساسية التي نمتلكها، بل قد يكون هذا هو سبب استمرارهم في الحديث عن ضمنا وجعلنا الولاية رقم 51. إنهم يدركون تمامًا حجم مواردنا، وما نملكه، ويرغبون بشدة في الاستفادة منها".

يعتقد جوردان هيث-رولينغز، الصحفي الكندي ومقدم بودكاست "القصة الكبيرة"، أن ترامب يريد الموارد الكندية، وأن يجب "التعامل بجدية" مع تعليقاته حول ضم كندا.

ويقول هيث-رولينغز: "إنه (ترامب) معجب بفكرة أنه سيضم مساحة شاسعة من الأرض". "ربما يريد القطب الشمالي، الذي من الواضح أنه سيصبح أكثر قيمة في السنوات المقبلة."

صورة 4_4

بالنسبة لترامب، حتى الحدود الأمريكية الكندية نفسها موضع شك. وقال في مارس/آذار الماضي: "إذا نظرتم إلى الخريطة، ستجدون أنهم رسموا خطًا اصطناعيا يفصل بين كندا والولايات المتحدة. أحدهم فعل ذلك منذ زمن بعيد، وهذا غير منطقي".

ومن الطبيعي أن تثير تعليقات ترامب حفيظة القادة الكنديين، الذين حذروا من مخططاته تجاه بلدهم.

واتهم ترودو، في مارس/آذار، الرئيس الأمريكي بالتخطيط "لانهيار كامل للاقتصاد الكندي، لأنه سيسهل عليه ضمنا".

في الشهر السابق، بعد أن أعلن ترامب لأول مرة عن فرض رسوم جمركية جديدة على كندا، قال ترودو: "يعتقد ترامب أن إحدى أسهل الطرق لتحقيق ذلك (ضم كندا) هي استنزاف بلدنا. وهذا أمر حقيقي".

إذا كانت الطموحات الإقليمية الأمريكية في كندا "حقيقية"، فإنها تطرح سؤالًا بسيطًا ومحيرًا. لماذا؟، لماذا قد تعمد الولايات المتحدة، التي تربطها أوثق العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية مع جارتها الشمالية منذ أكثر من قرن من الزمان، إلى تعريض كل ذلك للخطر؟

الاستثناء وليس القاعدة

يرى البعض أن هناك نمطا واحدا في خطط ترامب تجاه كندا وغرينلاند وقناة بنما، ويعكس هذا النمط تغييرا جذربا في نظرة الولايات المتحدة لنفسها في العالم.

وعبر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، بوضوح عن هذه النظرة، وصرح في يناير/كانون الثاني، بأن هيمنة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كانت "استثناء أكثر منها قاعدة".

وقال: "في النهاية، كنا سنصل إلى نقطة نشهد فيها عالما متعدد الأقطاب، وقوى عظمى متعددة في أنحاء مختلفة من الكوكب. نواجه ذلك الآن مع الصين، وإلى حد مع روسيا، ودول مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية".

ويرى مايكل ويليامز، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة أوتاوا، أنه إذا اعتقدت إدارة ترامب الحالية أن الهيمنة الأمريكية على العالم لم تعد ممكنة أو حتى مرغوبة، فقد تتراجع الولايات المتحدة عن صراعات بعيدة المدى وعن التزاماتها الأوروبية.

ويقول ويليامز، إنه بدلا من هذا سوف تركز الولايات المتحدة على "جوهرها الإقليمي"، لبناء ما يشبه "حصنًا قاريًا، معزولًا من كلا الجانبين بامتداد المحيطين الهادئ والأطلسي".

ويضيف: "إذا كانت هذه خطتكم، فستسعون للسيطرة على نقاط الاختناق الجغرافية الرئيسية. ستُعززون الوصول إلى الموارد الطبيعية، المتوفرة بشدة في كند، وستُعيدون الصناعات إلى الداخل كلما أمكن ذلك".

صورة 5_5

هذه النظرة الجيوسياسية ليست بجديدة. ففي عشرينيات القرن التاسع عشر، صاغ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، نظامًا عالميًا جديدًا انحصر فيه نفوذ أمريكا وأوروبا في مناطق نفوذهما على الكرة الأرضية.

لكن كان هناك تحولًا ملحوظًا في السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

خطة أم نزوة؟

يُقرّ البروفيسور ويليامز، بصعوبة تحديد ما بقكر فيه ترامب على وجه الدقة، وهي نفس وجهة نظر جون بولتون، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي لترامب لأكثر من عام خلال ولايته الرئاسية الأولى.

ويقول: "ترامب ليس لديه فلسفة. لديه أفكار، لكنه لا يتبع نهجا متماسكا. لا توجد استراتيجية أساسية". وأضاف أن تركيز ترامب حاليا على المعادن والموارد الطبيعية.

لكن بولتون يدفع بأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي من خلال القطاع الخاص، وليس من خلال طرح فكرة ضم أراضي حليف. من جانبها، عرضت كندا العمل مع شركات أمريكية لإنشاء شراكات في قطاع التعدين.

ويتفق ويليامز وبولتون على أنه مهما كانت الدوافع وراء مخططات ترامب تجاه كندا، فسيكون من الصعب إصلاح الضرر الدبلوماسي الذي يحدث، وهناك احتمال لحدوث عواقب كبيرة غير متوقعة.

المقاطعة وإلغاء الرحلات

يقول البروفيسور ويليامز: "يُحب ترامب أن يقول في سياقات متعددة بأن الآخرين لا يملكون أية أوراق. لكن كلما زادت الضغوط على الناس فإنهم يكتشفون أن لديهم أوراقًا لم يكونوا يعلمون بها، وقد يكونون على استعداد لاستخدامها. وحتى لو كانت لديك (ترامب) أوراقا أكثر، فإن الأمور قد تخرج بسهولة عن السيطرة بطرق سيئة للغاية".

قاطع الكنديون بالفعل المنتجات الأمريكية وألغوا رحلاتهم الشتوية جنوبا، مما أثر على المجتمعات السياحية في فلوريدا.

يؤكد الصحفي الكندي هيث-رولينغز: "نحن لا نبحث عن صراع، لكن كندا مستعدة له".

كما تبنى رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني، فكرة انهيار الثقة بين الولايات المتحدة وكندا، مع اقتراب الانتخابات العامة في البلاد.

وقال كارني مؤخرا: "لقد انتهت العلاقة القديمة التي كانت بيننا وبين الولايات المتحدة، والقائمة على تعميق تكامل اقتصاداتنا والتعاون الأمني والعسكري الوثيق".

وشدد على رفضه "أي محاولة لإضعاف كندا، أو استنزافها، أو تحطيمها حتى تتمكن أمريكا من امتلاكنا."

في القرن التاسع عشر، كان اندلاع الصراعات الإقليمية على طول الحدود الأمريكية الكندية أمرا شائعا. قام الأمريكيون بمحاولات فاشلة متعددة للاستيلاء على أراضٍ كندية خلال حرب عام 1812.

في عام 1844، دعا بعض الأمريكيين إلى استخدام القوة العسكرية إذا لم توافق المملكة المتحدة على مطالبهم في شمال غرب المحيط الهادئ.

تضمن "نزاع الخنازير" عام 1859، جزرا متنازعا عليها بالقرب من فانكوفر، وإطلاق النار المؤسف على خنزير بريطاني اقتحم حديقة أحد الأمريكيين.

اعتبر الكثيرون أن كل الصراعات السابقة كانت مجرد أحداث في كتب التاريخ القديمة، حتى الخلاف على المنطقة الرمادية كان بمثابة استثناء لقاعدة سلمية في العالم الحديث والديمقراطيات المتقدمة والمتكاملة.

لكن هذا الهدوء قد انكسر الآن، ولا أحد يعلم إلى أين ستقود هذه المياه العاصفة أيًا من البلدين.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان