نهر دجلة.. ملاذ الغلابة "الحرّانين" في بغداد
كتبت – رنا أسامة:
في تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، رصدت حياة الأطفال في بغداد، وأسلوب حياتهم في ظل موجة الحرارة غير العادية التي تعصف بالبلاد، مُشيرة إلى أن نهر دلة يُمثّل لهم مُتنفّسهم الوحيد في ظل تلك الأجواء الخانقة، وأطلقت عليهم اسم "أولاد نهر دجلة".
في صباح كل يوم من أيام الصيف الحارقة، يستيقظ الصبي محمد تقي (16 عامًا)، مُنطلقًا إلى مياه نهر دِجلة الباردة، التي تتدفّق من قلب بغداد، سبيلًا للتخفيف من حِدة سخونة الجو، بينما توالي درجات الحرارة ارتفاعها في البلاد، فيما يعتاد القفز في قارب صغير مع صديقه المُقرّب ليث أحمد، البالغ من العُمر 14 عامًا.
في الوقت الذي يهوى مُعظم الأطفال، ممن في سن محمد وليث، لعب أحد الرياضات كما كرة القدم أو كرة السلة معًا في النوادي والصالات الرياضية المُكيّفة، يفتقر الصبيّان العراقيّان تلك الرفاهيّة؛ فهُما من أُسر فقيرة، تعيش في أحياء خالية من المرافق، تُعاني من انقطاع التيار الكهربائي لعدة ساعات يوميًا، تمامًا كغيرهم من ملايين الأسر بهذه البلدة.
غيرَ أنهما اجتهدا للبحث عن أنشطة تتفق وظروف حياتهما الصعبة، "إننا نصطاد السمك!" قالها محمد بينما كان جالسًا على الجانب المُقابل من ليث يتابعان اصطياد السمك.
وتابع محمد قائلًا إنهما يقومان ببيع ما يقومون باصطياده، حال كان كبيرًا بما يكفي لبيعه، مقابل 10 دولارات في شوارع بغداد التي عادة ما تكون خالية بسبب درجات الحرارة المرتفعة، ولكن بعد أن تبدأ درجات الحرارة في الانخفاض تدريجيًا عند حلول المغيب، بينما يقضي مُعظم الآباء أوقاتهم "يتصبّبون عرقًا" في بيوتهم.
يُمثّل نهر دِجلة الذي يبلغ طوله 1150 ميلًا، نوعًا من الحدائق المائيّة العملاقة لدى الأطفال، يتنزّهون فيها خلال فصل الصيف، ويُجرون بعض الأنشطة التي لم تختلف عمّا كانت تُجرى منذ آلاف السنين؛ ما بين استكشاف الكنوز الغارقة في المياه الضحلة، ولعب القُط والفأر، والعوم على مسافة تصل إلى مئات الأميال.
"المنزل مُمل!" قالها صائحًا الصبي خالد ليث (15 عامًا)، مُشيرًا إلا أنه لا يُفضّل قضاء الوقت مع والديه خلال ساعات النهار، مُعلّلًا السبب: "دائمًا ما يقضي الآباء الوقت في المنزل في مشاهدة الأخبار على التِلفاز (حال وُجِدت الكهرباء)، يتابعون كافة الأخبار والأحداث السيئة التي تشهدها البلاد، على غِرار أخبار النزاع الديني والتفجيرات الانتحاريّة التي يشنّها مُتطرّفي تنظيم داعِش الإرهابي".
يفِرّ عصام عبّاس، 17 عامًا، هو الآخر من المنزل منذ شروق الشمس وحتى المغيب، مُفضّلًا الوقوف على الشاطئ، يُراقب في هدوء زُمرة من الأطفال يلعبون على مسافة قريبة منه؛ إذ يبدو خجولًا بعض الشيء بما يجعله خائفًا من الانضمام لمشاركة باقي الأطفال اللعب.
يختلف الوضع قليلًا بالنسبة لـ باسم نعمة، 35 عامًا، الذي يعمل قائدًا لسفينة صغيرة تقِل الناس إلى أشغالهم؛ فهو لا يُعاني من ارتفاع درجات الحرارة التي تجعله يتصبّب عرقًا بغزارة أثناء عمله وحسب، بل أنه يتحمّل مسئولية مُراقبة الأطفال بينما يلعبون وهو في طريقه يقِل الرُكاب في القارب، فضلًا على أنه يقود بحذر واضعًا في الاعتبار عدم الاصطدام بهم.
"إنهم منتشرون في كل مكان في المياه، يظهرون فجأة أمامك"، قالها نعمة بينما ظهر مجموعة من الأطفال على مقربة من سفينته، يتمايلون برؤوسهم صعودًا وهبوطًا كما الأسماك، ترِن أصوات ضحكاتهم عرض النهر، ومن الصعب تتبّعهم لسرعتهم الشديدة.
يعُجّ النهر بشتّى أنواع النفايات؛ ما بين صناديق الورق المُقوّى، والأحذية، والجوارب؛ لذا يتجنّب الأولاد ذوي المناطق الأكثر ثراءً في المدينة السباحة في النهر خوفًا من الخاطر الصحية المُحتملة، خاصة وأن نهر دجلة مشهور بنسبة تلويثه العاليّة.
وخلال سنوات الحرب الأهليّة بعد غزو أمريكا للعراق عام 2003، أصبح النهر المتدفّق في شوارع العاصمة "مكبًّا للجُثث"، التي غالبًا ما كانت تحمل ىثار تعذيب.
أما الآن، بات نهر دجلة الملاذ الوحيد الذي يقضي فيه الأصدقاء – كما محمد وليث- أوقاتهم؛ هربًا من حرارة الجو الجُهنميّة، منذ الساعات الأولى من الصباح وحتى غروب الشمس، "إننا دائمًا هُنا!"، هتف بها محمد من القارب، ثم أخذ وليث يقومان بالتجديف بحثَا عن الأسماك.
فيديو قد يعجبك: