قصة ثلاث مدن سورية أنهكتها الحرب
كتبت- هدى الشيمي ومحمد الصباغ:
سافرت إيريكا سولومون، مراسلة صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى سوريا وزارت مدن دمشق وحمص وحلب. تفقدت ما حل بهذه المناطق التي أنهكتها الحرب الأهلية. هناك وجدت مواطنين محطمين يحملون وجهات نظر مختلفة عن مستقبل البلاد.
تقول سولومون إنها وجدت أهالي دمشق يائسين يريدون تخطي كل شئ، وينسون ما تعرضوا له خلال السنوات الأخيرة. في الوقت الذي تعاني فيه مدينة حمص، غرب سوريا، من العمليات الإرهابية وإراقة الدماء لأسباب طائفية. وفي حلب التي تقع في شمال البلاد يُكتب فصلا بالدم والكراهية في تاريخ الحرب السورية التي بدأت باحتجاجات في مارس عام 2011 ومستمرة إلى الآن.
دمشق
في إحدى الأمسيات الحارة بشهر يونيو الماضي وخلال شهر رمضان، وقفت مجموعة من النساء والرجال يطهون الأرز والخضروات من أجل تحضير الطعام للفقراء، عندما يحين موعد آذان المغرب.
ووقف يساعدهم الجندي علي عقيل، الذي دافع عن الرئيس السوري بشار الأسد ضد المتمردين الذين حاولوا الإطاحة به على مدار الأعوام الستة الماضية.
أكد عقيل أن أي شخص رفع السلاح في وجه الجيش السوري لم يعد مواطنا سوريا، مشيرا إلى أن أي شخص يفعل ذلك يُعتبر إرهابي، حتى وإن كان شقيقه.
وأوضح الجندي السوري أن عدد كبير من أصدقائه ومعارفه انضموا إلى المتمردين وأنه ما يزال على تواصل معهم، قائلا: "لا أستطيع لومهم، لأن الحرب محيرة، وأحيانا نلتقي ونتناول الطعام معا، علينا أن نسامحهم وعليهم أن يسامحونا".
عقيل مثل غيره من السوريين، الذين لا يستطيع إصلاح الكثير من التناقضات بداخله، بعد إراقة الدماء وانتشار الأمراض النفسية في سوريا منذ بداية الحرب التي تسببت في مقتل أكثر من 400 ألف شخص، ونزوح ما يصل إلى 21 مليون آخرين.
لم تتعرض دمشق للدمار أو التخريب الذي شهدته أي مدينة سورية أخرى، إلا أن كل المقيمين بها يؤكدون أن هناك حالة من الحزن تخيم على المدينة.
وقال سياسي سوري لمراسلة الصحيفة، طلب عدم الكشف عن هويته، إن هناك نوعين من سوريا الآن: الأولى التي يحكمها ويسيطر عليها النظام، والأخرى فهي منطقة الحرب، والتي شهدت الدمار والخراب.
يُشار إلى أن 86 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وتسببت عمليات النزوح في فقدان البلاد للعديد من الكفاءات الطبية، فأصبح الأطباء المتواجدين بداخلها يسافرون إلى عدة مدن كل أسبوع لتعويض النقص.
يقول بعض الخبراء الاقتصاديين إن عام 2017، قد يكون أول عام يشهد نمو في الانتاج المحلي منذ بداية الأزمة السورية، إلا أن ذلك غير كافِ لتوفير فرص عمل، وتقليل معدلات البطالة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
تؤكد فتاة سورية، صديقة مُقربة من مراسلة الصحيفة، إنها استطاعت مواجهة سنوات الحرب التي عاشتها بلادها، بالتيقن من أنه لا يوجد جهة واحدة على حق أو أن أحد الأطراف يفعل الصواب، وتقول: "لا يوجد حقيقة واحدة في سوريا، هناك اثنين، وربما أكثر".
حمص
على بعد 163 كيلومترًا شمال العاصمة، تقع مدينة حمص، ولا يستطيع مواطنيها أو من لم يغادروها بحثا عن فرصة جديدة في الحياة، نسيان ما حدث.
تحولت المدينة، بمعالمها وأبرز ملامحها إلى شوارع امتلأت بالركام والحطام، خاصة وأنها كانت مركز الثورة السورية.
تقول مراسلة الصحيفة إن المباني التي اتسمت بالتصميم المعماري المميز، أصبحت هياكل تمتلئ بالفجوات الناجمة عن استمرار إطلاق النار.
ومن بين تلك المباني المتهالكة، منزل عائلة جبور، والذي أصابه الدمار الشديد بعد سقوط قذيفة عليه، فأصبح بإمكان المارة رؤيتهم وهم يمارسون تفاصيل حياتهم اليومية بداخله.
يقول عصام جبور، إنهم غيروا اسم شارعهم إلى "وادي الموتى"، بعد انتشار جثث القتلى في كل مكان، ويتذكر اليوم الذي عثروا فيه على أول جثة، لأنه كان صباح يوم عيد الميلاد عام 2011.
ويتابع قوله: "كانت جثة بائع الخبز التابع للحكومة، والذي ينتمى إلى الطائفة العلوية". ويرجح أن من قتله فعل ذلك لأنه أراد تناول الخبز الذي كان بحوزته.
طالما كانت الطائفية من الأسباب الرئيسية، لوقوع الأزمات في سوريا، وخاصة في حمص، التي كانت موطنا لعدد كبير من السنة والعلويين والمسيحيين.
وكان المتمردون السُنّة بمثابة حجر الأساس للثورة السورية، بينما رفضت الأقليات الأخرى المشاركة في الانتفاضة، خوفا من زيادة قوة الإسلاميين، لذلك وقف أغلبهم بجانب الأسد، خاصة من ينتمون إلى طائفته العلوية.
بحسب الإحصائيات، فإن أكثر من نصف مدينة حمص تعرض للدمار الكامل، وأصبحت مناطق السنة خالية تماما، ومدمرة بالكامل.
قبل قيام الثورة، خطط حاكم حمص السابق لإعادة بناء وتعمير بعض المناطق والأحياء الفقيرة، في مشروع أُطلق عليه "حلم حمص"، واتهمه البعض بأنه يسعى لإخراج السنة والمسيحيين من وسط المدينة، بينما ما تزال مناطق العلويين كما هي، لم يمسها أحد.
ومن بين أفظع المناطق تدميرا، منطقة بابا عمرو أول معاقل المتمردين وأول منطقة استعادها النظام. يوجد ملصق ضخم لبشار الأسد عند إحدى نقاط الأمن في مدخل المنطقة، وعلى الطريق يوجد ساحة تجمع فيها المتمردون من قبل، وأصبحت الآن أشبه بالغابة الصغيرة، التي يكسوها الأعشاب والأشجار.
حلب
تحركت الصحفية من حمص ولمدة أربع ساعات في اتجاه مدينة حلب. في الجانب الغربي من المدينة الذي كان تحت سيطرة الحكومة طوال أربع سنوات على عكس الجزء الشرقي، ظهرت لافتات كثيرة مكتوب عليها "سوف نعيد البناء".
كانت حلب القلب الصناعي والاقتصادي لسوريا قبل الحرب، وتنتج أشياءًا مثل المنسوجات والبلاستيك. وفي أسوأ الأوقات خلال عام 2013، عمل فقط 1200 مصنعًا وورشة في المدينة من أصل 40 ألف. والآن ارتفع الرقم إلى حوالي 10 آلاف. وقال فارس شهابي، البرلماني ورجل الصناعة، لمراسلة فاينانشال تايمز: "منذ ستة أشهر فقط، لم يكن ثلث هؤلاء الناس هنا.. حلب تعود".
لكن في الجانب الشرقي، المعقل القوي السابق للمعارضين، كانت الشوارع صامتة. من يظهرون في الظلام يستخدمون الهواتف المحمولة لإضاءة الطريق. وفي النهار، تبدو أثار الدمار واضحة. لم يتقبّل كثيرون من أهالي حلب المعارضة حينما اقتحمت مناطقهم في عام 2012، وغادروا إلى الجانب الغربي. لكن بقي بعض آخر خلال فترة الحرب، ورفضوا ترك منازلهم.
ونقلت المراسلة عن أحد المواطنين فضَل عدم ذكر اسمه، أنه حاول الهروب إلى مناطق سيطرة الحكومة لكن قوات المعارضة تمكنت منه وتعرض للاعتداء لمدة ثلاثة أيام وألقوا عليه ماء شديد البرودة. وأضاف "أبو أحمد" –اسم مستعار- أنه بات يخشى الجيش ونقاط التفتيش أيضًا، وبرغم أنه بات حُرًا في التحرك بين شطري حلب إلا أنه لا يفعل ذلك.
وقال: "ما الفارق بين معارضة تحمل سلاحًا وبين جندي يحمله، لو كل منهما يوجهه نحوك؟ الشرق والغرب مازالا منقسمين. لازلنا نلقى معاملة كما لو كنا لسنا جزء من المدينة".
وذكرت مراسلة فاينانشال تايمز أن الوضع في حلب بات شبيهًا بالوضع في بيروت: لثلاثة عقود تقريبًا بعد الحرب الأهلية في لبنان خلال الفترة من 1975 إلى 1990، شعرت المدينة أنها منقسمة بين الشرق والغرب، ويفضل الكثيرون الانغلاق على ذاتهم.
وهناك تحدثت فاينانشال تايمز إلى قائد بالجيش أمام أنقاض أحد المباني، وبدأ في إعطاء محاضرة حول المؤامرة التي تحاك ضد سوريا، وفقًا للصحيفة. وقال إنه لا يثق في العائدين من شرق حلب، لكنه أشار أيضًا إلى أن وظيفته تجعله لا يثق بأحد.
وتابع حديثه قائلًا: "هل تظنون أننا لا نعرف أنهم زوجات وأطفال وأبناء وأقارب المسلحين؟ بالطبع نعلم ذلك. فقدنا الكثير بسببهم." وأضاف: "لكن حكومتي أمرتني بالترحيب بهؤلاء الناس، والسماح لهم بالعودة إلى منازلهم ومعاملتهم بشكل عادل، وأفعل ذلك. لكن بداخلي، لن أتقبلهم أبدًا."
في حلب، ينظر الغربيون بريبة إلى الشرق المتهالك لكن الجميع في المدينة يشيرون بأصابعهم نحو الريف. التناقض بين الريف والمدينة صدم حتى المعارضة المحلية، التي وصفت في اجتماع مع عائلات من الريف لم تصل الكهرباء إلى مناطقهم إلا عام 2002.
وفي هذه الأيام، يتناقش السوريون حول السبب الذي غذى الانتفاضة. ألقى بعضهم بالمسؤولية على الطائفية. بينما اعتبر البعض أن الاختلاف بين الطبقات هو السبب. وأشار أخرون إلى أن السكان الريفيون –اليائسين بسبب سنوات الجفاف والتدفق نخو المناطق المنهارة بحثًا عن وظائف- هم أول من حملوا السلاح.
وفي أماكن مثل مدينة حمص، يقول أتباع المذهب السني إن الوظائف الحكومية يحصل عليها العلويون. وفي المدن السنيّة مثل دمشق وحلب، كانت مزايا حكم الأسد مركزة على أهل الحضر والطبقات الأغنى.
لكن هناك أيضًا من يشجعون أحبائهم في المعارضة على العودة واغتنام هذه الفرصة. لكن المعارضون يقولون إنهم لن يقبلونا على حساب المبادئ، ويصرون على انتظار اتفاق سلام برعاية دولية.
كما تتعمق العزلة أيضًا. فذكرت مراسلة فاينانشال تايمز أنه خلال زيارتها إلى تركيا، وبالتحديد إلى مدينة على بعد ساعات من حلب السورية، وصف أحد المعارضين كيف أن أطفاله يعانون خلال محاولة الكتابة بلغتهم الأصلية العربية. وأضاف أنه في بعض الأيام وجد طفله يردد النشيد الوطني التركي وهم في طريقهم إلى المنزل. ثم دفن وجهه بين كفيه وقال: "أطفالنا يصبحون أتراكًا".
لكن أيضًا في الداخل السوري، الوطن هو مكان يبقى مربكًا. فبحسب فاينانشال تايمز، سألت الصحفية القائد السوري في مدينة حلب حول الدرس الذي تعلمه من الحرب. وقالت إنه نظر إليها طويلًا، ثم قال: "لا أدرى إن كانت علمتني شيئًا. لكنها جعلتني أتمنى أمنية، وكلي أمل أن تتحقق. أريد العودة إلى قريتي. أريد أن أكون مع والداي وأصدقائي. أريد حياة بسيطة، وأن أكون شخص بسيط".
وسألته في النهاية عن متى سيعود إلى منزله؟ فقال ضاحكًا: "عندما ينتهي الإرهابيون".
فيديو قد يعجبك: