ماذا جرى في تركيا بعد عام من الانقلاب الفاشل؟
كتب - سامي مجدي:
عام مضى على الانقلاب التركي الفاشل. كانت محاولة من قبل مجموعة من الضباط الأتراك لم تنجح في مآربها: الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان، بل على العكس منحته قبلة حياة ومكنته من فرض قبضته الحديدية على مختلف مناحي الحياة في تركيا التي كانت حتى قبل سنوات مثالا يحتذى في منطقة تعاني من استبداد أنظمة الحكم وطغيانها.
في ذلك المساء، الجمعة 15 يوليو 2016، كان الوضع في تركيا مربكا وغامضا في آن. كان الكل يتساءل: هل نجح الانقلاب أم لا؟، فالجميع كان في تخبط بين تصريحات تؤكد سيطرة الجيش على السلطة والإطاحة بأردوغان وأخرى مضادة تؤكد فشل المحاولة الانقلابية وتدعو الشعب إلى نزول الشوارع دفاعا عن الديمقراطية.
ساعات وبانت الحقيقة. ظهر أرودغان على شاشة إحدى القنوات عبر تقنية "فيس تايم"، داعيا "شعبنا الآن للنزول للميادين وسنعطيهم الرد الضروري." نجا الرئيس التركي من محاولة الإطاحة به بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات التليفزيون التي طالما عاداها واتهمها بالتآمر ضده.
غيرت تلك المحاولة الفاشلة التي خلفت أكثر من 240 قتيلا، وجه الحياة في تركيا الطامحة. فقد منحت أردوغان ذريعة سياسية لفرض حالة الطوارئ في البلاد والتي لا تزال قائمة حتى الآن، والتخلص من خصومه واحدا تلو الاخر. كما أقال أو أوقف 150 ألف اتهمهم بالتآمر، واعتقل نحو 50 ألف، بينهم 160 من الصحفيين وأيضا مدير الفرع التركي في منظمة العفو الدولية.
ورغم الفشل الواضح للمحاولة الانقلابية منذ البداية، إلا أن هناك الكثير من الأسئلة التي لا تزال تتأرجح في الساحة التركية والدولية دون إجابات واضحة حول ما جرى قبل وأثناء وبعد الانقلاب الفاشل.
من خطط للمحاولة الانقلابية؟
ربما يكون أول الأسئلة الملحة التي لا تزال معلقة وسط روايات متناقضة واتهامات لا تزال حتى الآن دون سند يصمد أمام أي محكمة، هو من دبر تلك المحاولة التي لم تصمد سوى ساعات.
تقول الحكومة التركية إن المحاولة الانقلابية قادها رجل الدين فتح الله غولن، الذي يقيم في منفى اختياري في بنسلفانيا في الولايات المتحدة.
من المؤكد أن أتباع حركة "خدمة"، التي يتزعمها غولن، تسللوا إلى مؤسسات الدولة التركية على مدى عقود، وكانوا أحد الأسباب الرئيسية في بزوغ نجم أردوغان في سماء السياسة التركية وصموده لسنوات أمام المؤسسة العلمانية التركية التي أرسى أسسها مصطفى كمال أتاتورك في بدايات القرن العشرين مع انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وتقول الحكومة في روايتها الرسمية لما جرى: "إن مجموعة من ضباط الجيش المتعاطفين مع غولن قد علموا أنهم بصدد الاستغناء عنهم في اجتماع المجلس العسكري الأعلى في أغسطس القادم (2016)، فقاموا بالتخطيط لهذه المحاولة الانقلابية، كضربة استباقية لإنقاذ أنفسهم ومحاولة السيطرة على زمام الأمور في الدولة التركية."
تشير الحكومة إلى مجموعة من الأدلة غير المباشرة على أن الغولنيين (أتباع غولن) لهم يد في الانقلاب الفاشل. مثلا، اعتقل اثنان منهم، هما عادل أوكسوز وكمال بتماز، في محيط القاعدة الجوية التي كانت مقرا للمحاولة الانقلابية.
كما أن رئيس أركان الجيش التركي الموالي لأردوغان، خلوصي آكار، والتي احتجزه مخططو الانقلاب الفاشل، قال في شهادة مكتوبة إن أحد الجنرالات عرض عليه التحدث إلى غولن عبر الهاتف.
وأقر مساعد آكار التي احتجز رئيس الأركان مساء الانقلاب الفاشل، في شهادة مكتوبة أيضا، بأنه من أتباع غولن رغم أن تلك الشهادة جاءت بالإكراه.
ولم يتضح إلى الآن ما إن كان أتباع غولن تصرفوا من تلقاء أنفسهم؛ فبعض هؤلاء الذي اتهموا بأنهم من الغولنيين اعترفوا بمشاركتهم في المحاولة الانقلابية ونفوا أية علاقة لهم بغولن.
يشار إلى أن بعض جنرالات الجيش التركي التزموا الصمت لأكثر من ثلاث ساعات ليعلنوا دعمهم لأردوغان علنا. هذا الصمت أدى إلى انتشار شائعات بأن بعضهم قد يكون دعم الانقلاب في البداية، وغيروا موقفهم عندما ظهر أن المحاولة لم يكتب لها النجاح.
ماذا تقول الاستخبارات الغربية؟
ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، ذكرت وكالة الاستخبارات في الاتحاد الأوروبي أنها تعتقد أن مخططي الانقلاب بينهم علمانيون وانتهازيون فضلا عن أتباع غولن، بما يعني أن المحاولة كانت قائمة على قاعدة أوسع وتضمنت الكماليين المتشددين والقوميين الجدد.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين لم تسمهم من الوكالة ومن الاستخبارات الألمانية أنهم لا يعتقدون أن غولن شخصيا أمر بالانقلاب.
وقال المدير السابق لوكالة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، جيمس كلابر، في تصريحات صحفية بأنهم لم يجدوا حتى الآن أي دليل يدل على تورط غولن في هذه المحاولة الانقلابية.
ولا تزال حكومة أردوغان تصر على أن غولن مدبر الانقلاب، وتطالب الولايات المتحدة بترحيله.
وما يزيد المشهد ارتباكا ما ورد في لائحة الاتهام ضد مدبري الانقلاب بأن مسؤولي الاستخبارات التركية تلقوا تحذيرات عن الانقلاب قبل ست ساعات على الأقل من بدايته مساء الجمعة 15 يوليو 2016.
ووفقا للائحة الاتهام، أحد الضباط الذي كان مكلفا اختطاف مدير الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، أبلغ مكتب فيدان بخطة الاختطاف في حوالي الثالثة والنسف مساء يوم الانقلاب. وبدوره أبلغ مكتب فيدان بعد ذلك آكار.
وقال الضابط وهو برتبة رائد في الجيش إن عملية الاختطاف من الممكن أن تكون جزءا من محاولة للإطاحة بالحكومة.
هذه الإفادة التي وردت في أوراق رسمية دفعت بعض المحللين إلى استنتاج أن استجابة فيدان وآكار كانت بطيئة ومرحلية على نحو مثير للغرابة.
ونقلت وكالة الأناضول للأنباء الرسمية، عن بيانات مكتوبة قدمها فيدان للبرلمان التركي، أنه لم يتصل بمكتب الرئيس حتى 7:26 دقيقة، حتى أنهم لم يتحدث إلى الرئيس أو يوضح لأتباع أردوغان ما جرى بالضبط.
وفي وقت لاحق في ذلك المساء، قال فيدان إنه التقى مع أحد زعماء المعارضة السورية وكأن شيئا لم يكن.
وقال آكار في إفادة مكتبة أيضا للبرلمان إنه لم يأمر بأن تظل القوات الجوية على الأرض حتى نحو 6.30، وأنه أمر بإغلاق قواعد عسكرية معينة. كما أنه زاد من الشكوك في رواية الحكومة بانتظاره عدة أشهر حتى يقدم شهادة مكتوبة لتحقيق برلماني في الانقلاب.
في نهاية المطاف، زادت تلك الشهادة من الأسئلة بقدر ما قدمت إجابات.
كما أن تصريحات أردوغان زادت من الأسئلة حول تسلسل الأحداث. ففي رواية منشورة على الموقع الإلكتروني للرئيس، قال أردوغان إنه تلقى تحذيرا للمرة الأولى حول نشاط عسكري غير طبيعي في الرابعة والنصف مساء، من خلال صهره. وحاول الاتصال بفيدان وآكار في الخامسة مساء، وقال إنه لم يتمكن من الوصول لأي منهما.
ذلك الغموض والارتباك والتباين في روايات أردوغان كبار رجاله، أدت إلى شكوك في أوساط المعارضة بأن الحكومة قد تكون هي التي سمحت بحدوث الانقلاب أو على الأقل شجعت عليه بغرض تبرير حملة القمع التي تلت المحاولة الفاشلة.
يظهر ذلك بشكل واضح في وصف زعيم المعارضة حزب الشعب الجمهوري، كمال قليتش دار أوغلو، ما جرى بأنه "انقلاب تحت السيطرة.. قالوا إنه قد تم الكشف عن الأمر في وقت مبكر، وهذا يعني أنهم كانوا يعلمون بشأن الانقلاب مسبقا"، وذلك في إشارة إلى اجتماع مع قيادة البلاد عقب محاولة الانقلاب.
لماذا وكيف فشلت المحاولة الانقلابية؟
في مستهل المحاولة الانقلابية، أغلق الجنود المنقلبون الطرقات والجسور عند العاشرة والنصف مساء ذلك اليوم. لم يكن ذلك بالتوقيت الجيد للقيام بعملية تقوم في أساسها على عنصر المفاجأة بالنظر إلى أن الأتراك في ذلك الوقت من اليوم يكونوا خارج منازلهم.
بعض المراقبين أشاروا إلى أن الانقلاب كان من المفترض أن يبدأ في وقت متأخر من تلك الليلة، غير أن المدبرين سارعوا بالقيام بها في وقت مبكر بعد إدراك قادة الانقلاب أن خططتهم اكتشفت.
بعض القرارات الأخرى التي اتخذها مخططو الانقلاب، والتي كان لها دورا في فشل المحاولة ضمنها مداهمة الجنود التلفزيون الرسمي (تي آر تي)، في المساء وعدم قيامهم بالأمر نفسه تجاه محطات التلفزة الخاصة.
كانت المحطات الخاصة منصة استغلها المسؤولون الحكوميون طوال الليل، الأمر الذي سمح لهم بالسيطرة والتحكم في الخطاب العام الموجه للداخل والخارج. وكانت إحدى تلك المحطات الوسيلة التي ظهر من خلالها أردوغان مخاطبا الأتراك وطالب أنصاره بالنزول إلى الشوارع لإحباط الانقلاب.
النقطة الأخرى البالغة الأهمية التي ساهمت بشكل كبير في إحباط المحاولة الانقلابية، هي أن مختلف مكونات القوات المسلحة التركية لم تكن تدعم الانقلاب، حتى رغم مشاركة عدد كبير من أفراد الجيش وفي عدة مدن تركية، وانتشار الدبابات في الشوارع وسيطرتهم على أحد الجسور في مضيق البوسفور.
لكن رئيس الأركان الجنرال، خلوصي أكار، لم يشارك في الانقلاب، ولا قائد القوات المسلحة في إسطنبول الذي استلم القيادة عندما كان رئيس الأركان رهن الاعتقال عند مدبري الانقلاب.
أيضا أعلن قائد البحرية وقائد القوات الخاصة عن معارضتهما للانقلاب، كما أن طائرات إف-16 المقاتلة قصفت بعض الدبابات التابعة للانقلابيين.
ووفقا لفادي هكورة من معهد تشاتام هاوس في بريطانيا، إن الانقلاب لم يكن وفق المعايير الاحترافية، وفشل في استقطاب دعم عسكري واسع، حسبما نقلت بي بي سي في يوليو من العام الماضي.
كما لم يحظ بالدعم السياسي أو بدعم أفراد الشعب. وقال حزب الشعب العلماني إن تركيا شهدت في السابق ما يكفي من الانقلابات ولهذا لم تكن راغبة في "تكرار هذه الصعوبات". ووقف الحزب القومي التركي أيضا خلف الحكومة في مساعيها لإحباط الانقلاب.
أيضا لم تكن عملية اعتقال اردوغان متقنة التخطيط والتنفيذ؛ فحتى الجنود الذين ذهبوا لتنفيذ المهمة لم يصلوا إلى الفندق الذي كان يقضي فيه عطلته في منتجع مارماريس المطل على بحر إيجه، في أقصى الجنوب الغربي من تركيا، إلا بعد ساعات من بدء الانقلاب.
ووفقا للشهادات المنشورة للمتهمين أثناء محاكمتهم، قال الجنرال جوخان سونميزاتس إنهم أمروا بالانتظار وهو القرار الذي بدا غريبا بالنسبة لهم.
وتساءل سونميزاتس "من ضللنا وجلعنا ننتظر لأربع ساعات؟!".
ما الذي جرى بعد فشل الانقلاب؟
ليلة المحاولة الانقلابية، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "إن تلك الانتفاضة لطف من الله لنا لأنها ستكون سبباً في تطهير جيشنا." استغل أردوغان تلك المحاولة الفاشلة للاستحواذ على مزيد من السلطة والنفوذ بعد عامين من الاحتجاجات المناوئة وتحقيقات الفساد التي طالته وأسرته بداية من احتجاجات متنزه غيري بارك وليس نهاية بإعادة تأجيج الصراع مع الأكراد.
بعد انتهاء المحاولة الانقلابية مباشرة، أطاحت الحكومة بعشرات الآلاف من العسكريين وغير العسكريين بحجة المشاركة في الانقلاب، لكن مراقبون يقولون إن تلك القوائم لم تجهز بناء على المشاركة في الانقلاب، ولكنها كانت مُعدّة مسبقاً وفي انتظار التنفيذ.
كان الإقدام على تلك الخطوة الانتقامية مثيرا للشكوك والتساؤلات؛ فالقانون لم يأخذ مجراه ولم تظهر أية أدلة تصمد أمام أي محكمة عادلة، كما أن تفاصيل الانقلاب الفاشل لم تتكشف بعد.
منذ البداية كان الجيش التركي هدفا لأردوغان؛ القوات المسلحة التركية قائمة على ومؤمنة بفكرة العلمانية وتستمد قوتها من أفكار كمال أتاتورك. وكان رجل تركيا القوي يرى في ذلك خطرا على طموحاته منذ توليه السلطة مطلع الألفية الجديدة.
وتشير التقارير إلى أن أردوغان طرد 400 ضابط من الجيش ما بين 2007 إلى 2010، وأقال رئيس هيئة الأركان وقادة القوات البحرية، البرية، والجوية.
وكانت المحاولة الانقلابية فرصة على طبق من ذهب، استغلها أردوغان أفضل استغلال لوضع الجيش تحت قبضته بشكل كامل، مبررا ذلك بمزاعم وجود أنصار كولن في صفوفه.
لم يكن الجيش هدفا وحيدا وإن كان رئيسيا لعملية التطهير التي يقودها أردوغان؛ فالمؤسسة القضائية ووسائل الإعلام كان لها نصيبها في تلك العملية.
ووفقا لأرقام موقع "تركي بورغ" الذي يتتبع حملة الإقالات والاعتقالات، أقيل نحو 4500 قاض وممثل ادعاء خلال ذلك العام، كما أغلقت أكثر من 2000 مدرسة ومعهد وجامعة، و149 مؤسسة إعلامية واعتقل 269 صحفيا، ما جعل تركيا تحتل المرتبة الأولى في مؤشر سجن الصحفيين، وفقا للجنة الدولية لحماية الصحفيين.
ضمت عملية التطهير أيضا إقالة أكثر من 138 ألف من وظائفهم، بينهم أكثر من 8 آلاف أكاديمي، هذا بخلاف اعتقال واحتجاز أكثر من 180 ألف شخص.
وعشية الذكرى الأولى للانقلاب الفاشل، سرحت الحكومة التركية 7 آلاف شرطي وموظف حكومي من وظائفهم، كما أحالت 342 عسكري إلى التقاعد، وذلك في إشارة إلى أن حملة التطهير لن تنتهي قريبا.
ماذا عن الاستفتاء الدستوري والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي؟
بجانب حملة التطهير، تدهورت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا الطامحة منذ أمد طويل لنيل عضوية الكتلة الأوروبية. كان أردوغان شديد الانتقاد لما اعتبره تأخر دول الاتحاد الأوروبي في إعلان دعمه أثناء المحاولة الانقلابية.
تحول هذا الانتقاد إلى هجوم شرس بشكل تدريجي مع توسع الحكومة التركية في حملة الاعتقالات والإقالات، وبلغ ذروته إبان الاستفتاء الدستوري في أبريل الماضي، الذي وسع من وسَّع من صلاحيات الرئيس، بما قد يسمح لأردوغان بالبقاء في منصبه حتى عام 2029.
وحظرت حكومات أوروبية مثل ألمانيا وهولندا تجمعات انتخابية للجالية التركية في بلادهم خلال الحملة الانتخابية للتصويت على الاستفتاء ومنعت وزراء أتراك مع الهبوط على أراضيها والالتقاء بالناخبين الأتراك هناك، وهو ما وصفته أردوغان بـ"التصرفات النازية".
وفاز أردوغان بفارق ضئيل في الاستفتاء؛ حيث فازت حملة "نعم" بـ51.37 في المئة، بينما حصلت حملة "لا" على 48.63 في المئة من الأصوات، وأعلنت لجنة الانتخابات فوز حملة "نعم"، وسط مطالب بإعادة فرز 60 في المئة من الأصوات، بعد قرار اللجنة قبول أوراق التصويت غير المختومة، باعتبارها صحيحة ما لم يثبت غير ذلك.
وبرر أردوغان وأنصاره الصلاحيات الواسعة للرئيس بأنها تبسط وتحدث من العمل الحكومي.
غير أن المعارضين يرون أن التعديلات حولت نظام الحكم إلى حكم رجل واحد بدون أن تكون هناك ضوابط قانونية لمساءلة الرئيس عن الإجراءات المتخذة، الأمر الذي من شأنه أن يقود إلى استبداد الرئاسة بشكل متزايد.
فيديو قد يعجبك: