بعد شهر من المأساة.. مسيرة أسرة مصرية فقدت 3 في حريق برج "لندن"
كتبت-دعاء الفولي:
لا فرار من الذكريات. تفتح رشا إبراهيم عيناها يوميا على صورة أختها رانيا. تطاردها ضحكاتها، عشقها للطعام، هزلهما سويا، هداياها المتناثرة في أرجاء المنزل، لهو ابنتيها فتحية وهانيا. يُرهقها التفكير، تدور روحها يمينا ويسارا بحثا عن الشقيقة، فيما يُدرك عقلها أنها تُوفيت. تُعيد تشغيل المقطع الحي الذي بثته رانيا في حريق برج "جرنفل" بلندن، فتدخل في نوبة بكاء، يعتصرها الألم كأن الحادث أمس، رغم مرور أكثر من 30 يوما.
رانيا ورشا ليستا مجرد شقيقتين "كنا صحاب.. انا أكبر منها بأربع سنين لكن شبه بعض في الشكل وطريقة الكلام". لم يمر يوم دون أن تتحدثا، لكن مكالمة الثالث عشر من يونيو الماضي كانت مختلفة؛ اتصلت الأخت الراحلة أكثر من أربع مرات "من الرصيد بتاعها مش الإنترنت وكان وقت المغرب"، في ذلك الحين انشغلت رشا بإعداد طعام الإفطار "بس رانيا فضلت ترغي معايا أكتر من نص ساعة وتوصيني على حاجات كتير". انقبض قلب الشابة المُقيمة في مصر، لكنها ظنّت فقط أن شقيقتها تفتقدها.
8 ساعات بالتمام فصلت تلك المكالمة عن الأحداث المُفزعة التي عايشتها رانيا. بالصدفة فتحت رشا موقع فيسبوك عقب تناول السحور "لقيت رانيا مسجلة فيديو لايف وبتقول إن برج جرنفل بيولّع". ألقت أم الطفلين مُعاذ وسدرة المنتهى هاتفها، هرعت لتتصل بأختها دون رد، وكذلك فعلت مع شقيقتها الأخرى سيدة إبراهيم، والتي تقيم على بُعد عدة شوارع من البرج المُحترق "بس سيدة كانت منهارة ومش عارفة تتكلم معانا.. نزلت تجري في الشوارع تشوف رانيا" حسبما تقول لـ"مصراوي".
هرجٌ وحركة سريعة في منزل عائلة الأم المحتجزة بالبرج "عيلتنا كلها في أسوان مكانوش عارفين يتصرفوا.. وانا لوحدي في القاهرة". كررت محاولاتها دون نتيجة، ثم اهتدت لمتابعة ما يحدث على التلفزيون. وقتها رأت ألسنة النيران تتصاعد لمنتصف العقار البالغ ارتفاعه 24 طابقا "حسيت بالنار في جسمي.. قعدت أخبط بإيدي على التليفزيون عشان أخرّج رانيا من جوة"، ولمّا أفاقت من هول المشهد، تقوقعت فوق سجادة الصلاة، انتظارا للفرج.
كان برج "جرنفل" يتكون من 129 شقة. سكنت رانيا في الدور الثالث والعشرين، فيما لم يتوفر بجانبها سُلم مؤدي لسطح العقار. بدأت الشرارة من ثلاجة بإحدى شقق الطابق الرابع ثم انتشرت النيران لأعلى، ورغم إنقاذ أكثر من 74 شخص، إلا أن الثمانين الذين قُتلوا، كانوا قد انصاعوا لمطلب المنقذين بالبقاء داخل البرج، على أمل إغاثتهم.
لم يكن بيد رشا حيلة سوى مشاهدة الحريق، ومع حلول الرابعة والنصف صباح الرابع عشر من يونيو الماضي، التهمت النيران البرج بأكمله، في ذلك الوقت كان حسن زوج رانيا، يستقل طائرة عائدة من مصر إلى لندن "جوزها كان هنا عشان أخوه عيان". وصل الأب الملهوف قبل العصر "مكنش حد عارف حاجة.. بدأ هو وسيدة يدوروا في المستشفيات عليها وعلى فتحية وهانيا".
عام 2009 ذهبت السيدة ذات الواحد وثلاثين عاما إلى لندن "عشان أختي سيدة كانت بتعمل عملية ولازم معاها حد". مازالت رشا تذكر بكاء الشقيقة الأصغر اعتراضا على السفر "كنت مفروض أروح أنا بس تأشيرتي اترفضت". عزمت رانيا أن تكون إقامتها مؤقتة، غير أنها تزوجت هناك ثم استقرت.
حينما وقّعت رانيا على عقد شقة "جرنفل" منذ عام ونصف "كان من بنود العقد إن المكان ضد النيران"، غير أن السيدة المصرية لم تشغل بالها بتلك التفاصيل "رانيا كانت متصالحة مع الحياة والموت".. تضحك رشا على مضض، راوية عن المرة الأخيرة التي حضرت فيها الأخت إلى مصر، في يناير 2017.
أثناء تلك الزيارة، مكثت الفقيدة وابنتاها شهرين، متنقلين بين القاهرة وأسوان "اتفسحت كتير كأنها عرفت إن دي أخر مرة". طلبت ضحية "جرنفل" من رشا أن تطبخ لها "محشي" وأصناف أخرى من الطعام "وكانت تقولي تعالي ننزل ناكل برة.. أقولها دة تلوث.. تقولي إحنا هنعيش كام مرة؟". كانت رشا تتعجب لشجاعة شقيقتها "رغم إني أكبر منها بأربع سنين بس أنا جبانة عنها"، لذا حين شاهدت المقطع الذي سجّلته رانيا وقت الحريق، لم يُفاجئها ثباتها.
دخان كثيف، أصوات لُهاث يقطعها جملة "لا إله إلا الله"، وهاتف يهتز في يد رانيا التي فتحت باب شقتها لتنادي على العالقين في الخارج، تدعوهم للاحتماء عندها، ثم تتحرك في اتجاه الشُرفة، تصرخ باستماتة لينقذها أحد، تُهدئ ابنتها، تطلب منها الجلوس، يلهج لسانها بالدعاء، وتسأل أصدقاء فيسبوك أن يصلوا من أجلها.
ظلت النيران مشتعلة في أماكن متفرقة من المبنى لـ60 ساعة متواصلة. وحين توقفت استحال كل شيء للأسود، أما الزوج المكلوم فذابت قدماه بصحبة الأخت سيدة بحثا عن أي أثر، بينما عانت رشا الأمرّين "لا قادرة أسافر لهم ولا عارفة أساعد من هنا"، لم يكن بيدها حيلة سوى الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي لعل أحدهم يستدل على أختها والصغيرتين فتحية وهانيا.
عقب يوم واحد من الحريق توافدت عدة اتصالات على رشا "واحدة قالتلي إديني اسمها انا جوزي عايش في لندن وهيدور"، وبعد ساعات بلغتها السيدة المجهولة أن رانيا تقبع بأحد المستشفيات القريبة من مكان الحادث ومعها ابنتها الأكبر "أختي سيدة طارت على هناك وملقيناش حاجة"، فيما تلقّت سيدة نفسها روايات متفاوتة "اللي يقولها شفناها في عربية إسعاف واللي يقول شفنا بنتها الصغيرة في الشارع بتبكي". تتبعت الأسرة كل خيط وقع في يدهم، حتى لو كان وهميا.
في الأيام الأولى للحادثة، لم ينفك الزوج يسأل الشرطة "كانوا بيقولوا له لسة ملقيناش حاجة"، لذا قررت الرفيقة المقيمة بمصر عمل هاشتاج لتحريك المياه الراكدة "لولا الدوشة بتاعة النت مكنش الإعلام عرف حاجة عن أختي ولا الرأي العام اتكلم". كانت تلك الأيام عجافا. لم يذق فيها حسن النوم إلا قليلا داخل مسجد قريب من المبنى، بينما رشا تُحادثه يوميا لتخفف عنه "بيقولي انا كنت بحلم إنهم هيسيبوني.. بس كنت فاكر إني انا اللي هموت مش هُمّا".
في لندن التقت رانيا بحسن صاحب الجنسية السودانية "جه خطبها من والدتي واتجوزوا هناك". عاشا حياتهما في سعادة تكللت بولادة فتحية وهانيا، وبعد أن كبرت الفتاتان قليلا عاودت رانيا دراسة الحقوق التي تركتها في مصر بالإضافة للإنجليزية تمهيدا للحصول على الجنسية. كانت الأم تُزجي الغُربة بالأنشطة، بين التطوع، ركوب العجل وتعلم السباحة يومي الاثنين والأربعاء، ورغم اندماجها هُناك، لكنها خططت دائما للعودة، فيما سخرت منها رشا "كنت بقولها حد يسيب لندن؟.. تقولي انا بحب القاهرة وأسوان أكتر".
ما أن اجتاحت الكارثة برج "جرنفل" حتى أعلنت الشرطة عن تعويضات للمتضررين. "شقة وفلوس".. تقولها رشا باستهتار، قبل أن تستطرد "هيرجّعوا رانيا يعني؟.. جوزها مرضيش يروح يستلم حاجة". في المقابل فكّرت الأخت الأكبر في الذهاب إلى سفارة بريطانيا بمصر "بس قالولي مش هتساعدك"، لا سيما وأن السفارة المصرية بإنجلترا اجتمعت بأهالي الضحايا لاطلاعهم على الوضع، دون الإدلاء بكثير من التفاصيل.
مازالت تحقيقات الشرطة الإنجليزية جارية. لن يتم حصد عدد الضحايا بشكل كامل إلا خلال أشهر. عقب الحادث بأسبوع ماتت آمال الزوج ورشا وسيدة في رؤية رانيا والطفلتين "الشرطة قالت لحسن إن درجة الحرارة كانت 1400.. محدش نجي غير اللي خرجوا في بداية الحريق"، بينما سقطت شقة المصرية الراحلة على الطابق الثاني والعشرين من الحرارة، وتحول كل أثر فيها لرماد.
منذ أيام أقُيم عزاء الأم وفتاتيها بأسوان. اجتمع شمل الأسرة وعادت سيدة إلى مصر تُجرجر أهوال ما رأته. أما حسن "قال هيصفّي شغله في لندن ويسافر ويسيبها.. ومش هيرجع هناك تاني". في بيت العائلة يحاول أخوة رانيا الستة التماسك، تحتضن السيدات بعضهن البعض، ويبلع الرجال دموعهم، بينما ذاكرة رشا تُعيد عليها تفاصيل الوصايا الأخيرة.
حين أنجبت رشا ابنتها ذات الـ6 أشهر، كانت رانيا أول من حملها بين ذراعيه، واقترحت اسم سدرة المنتهى "لكن أنا كنت عايزة أسمّيها رانيا". أصرت الأخت الأصغر على رأيها، فانصاعت الأم "لكن في المكالمة الأخيرة قالتلي اسم سدرة بينطقوه وحش عندنا في مصر.. غيريه أحسن"، ضحكت رشا وقتها من الطلب، مذكرةً رانيا أنها من رفضت تسمية الطفلة باسمها "فقالتلي انا كنت بتدلع عليكي.. كنتي اتحايلتي عليا شوية"، والآن وبعد أن أفاقت رشا من صدمة فقدان رفيقتها، فقد بدأت إجراءات تغيير الاسم، حتى أن العائلة صارت تُنادي الصغيرة باسم خالتها.
مرّ 32 يوما على انزواء جسد رانيا وطفلتيها. عانت رشا من انهيار تام لم تخف وطأته إلا "لما اكتشفت إن في ناس كتير بتحبها". تُعاودها الغُصّة كلما تتذكر أن أختها كانت تفيض بالحياة؛ فأصبح جسدها دون قبر يحتويه، وتبتسم رُغما عنها حين تستعيد كلمات فتحية ذات الخمس سنوات: "أنا بحبك أوي يا خلتو"، يختلط صوت الصغيرة في أذنها بجملة رانيا الدائمة "أنا وانتي روح واحدة يا رشا"، فيما تنجرف دمعة من عينيها إذ تُدرك أن جزءً من روحها ما عاد موجودا.
فيديو قد يعجبك: