بلدان بدون حكومات: هل نحتاج إلى سياسيين؟
لندن (بي بي سي):
في صلب الديمقراطية المعاصرة تكمن الفكرة القائلة بأن القادة يُنتخبون ليمارسوا شؤون الحكم. لكن عام 2018 ابتدأ بدون وجود حكومتين أوروبيتين، والسؤال الذي قد يُطرح هو: هل نحتاج إلى سياسيين؟
قبل اثني عشر شهرا، كانت أيرلندا الشمالية بدون حكومة محلية خاصة بها بعدما تنحى نائب رئيس الوزراء المحلي، مارتن ماغينس، عن منصبه بسبب خلاف يتعلق بمشروع طاقة لم ينفذ بشكل جيد.
ولم يلح في الأفق ما يشير إلى أن انهيار الثقة بين الحزب القومي المنادي بالوحدة مع دولة إيرلندا والحزب الوحدوي الذي ينادي بوحدة أكبر مع المملكة المتحدة في الائتلاف الحاكم سيشهد حلا.
وأخذا في الاعتبار أن دعم المعسكرين مطلوب حتى تُمرر أي قوانين، فمعنى ذلك أن جمعية ستورمونت (البرلمان المحلي) تشكو من الشلل ولا تستطيع القيام بمهامها.
ولهذا تجد الحكومة المركزية في لندن نفسها مضطرة إلى فرض الميزانية وقرارات نقل السلطة اليومية التي يتخذها الموظفون المدنيون في الحكومة المركزية.
إن مثل هذا الوضع قد يبدو استثنائيا، لكن غياب القيادة السياسية لم يواكبه انهيار الخدمات العامة، كما أن أفراد الشعب يمارسون أعمالهم اليومية بشكل عادي.
وبالرغم من أن هذا الوضع يظل غير عادي، فإن موقف أيرلندا الشمالية ليس فريدا من نوعه إذ من شأنه أن يجعل المشككين يطرحون السؤال المتعلق بالجدوى من وجود حكومة على الإطلاق، إذا كنا قادرين كما يبدو أن نتدبر أمورنا بسهولة وبدونها.
لم تتشكل في ألمانيا حكومة جديدة، على سبيل المثال، منذ إجراء الانتخابات الاتحادية غير الحاسمة منذ أواخر شهر سبتمبر الماضي.
وبالرغم من استئناف المباحثات يوم الأحد، فإن تنصيب وزراء جدد في الحكومة قد لا يحدث إلا بعد شهور.
وفي بلجيكا، سُجِّلت أطول مدة لغياب حكومة منتخبة في ديمقراطية قائمة؛ وهذا رقم قياسي بعدما دب الخلاف في عامي 2010 و2011 بين شخصيات فلامانية ناطقة باللغة الهولندية وشخصيات الوالون الناطقة بالفرنسية، الأمر الذي قاد إلى فراغ حكومي استمر 589 يوما حتى الآن.
وعانت إسبانيا لمدة عشرة أشهر الأولى من عام 2016 من الوضع ذاته إذ ظلت بدون حكومة مركزية حتى صوت الاشتراكيون المعارضون عمليا بشأن السماح للمحافظين أي الحزب الشعبي بتشكيل حكومة أقلية.
وليس من الصعب العثور على أمثلة أخرى في غير أوروبا.
وعانت الصومال على مدى 15 عاما من غياب حكومة مركزية أي من التسعينيات من القرن العشرين وحتى الألفية الجديدة حيث حكمته ميليشيات قبلية وعصابات من القراصنة ومتشددون إسلاميون.
أما العراق، فإنه ظل بدون حكومة مركزية معظم شهور عام 2010، الأمر الذي قاد إلى مخاوف مفادها بأن المتمردين قد يستغلون الجمود في ظل تقليص القوات الأمريكية حضورها.
لكن ما الذي يعنيه غياب الحكومة في دولة لها مؤسسات راسخة حيث النتائج تكون أقل عمقا؟
وفي ألمانيا، فإن المشهد السياسي يمكن أن يستمر في أداء واجباته إذ بإمكان "الوزراء أن يقوموا بمهماتهم بالوكالة" أخذا في الاعتبار أن الميزانية المحلية والإقليمية المعتمدة تكون مسؤولة عن معظم تنفيذ السياسات ستستمر دون إعاقة تذكر.
وتستمر مؤسسات البلد في تمثيل ألمانيا في هياكل الاتحاد الأوروبي.
غير أن ثمة ثلاث نتائج سلبية عميقة على الأقل.
أولا، بدون رقابة برلمانية أو سياسية مناسبة، فإن ثمة خطر "خروج" القرارات غير المرحب بها "عن مسارها".
وأحدث تصويت وزير الزراعة بالوكالة، كريستيان شيميث، الصدمة عندما صوت في الاتحاد الأوروبي لصالح الاستمرار في استخدام مبيد حشرات مثير للجدل بدون دعم المستشارة الألمانية بالوكالة، أنغيلا ميركل.
ثانيا، البلد غير قادر على اتخاذ قرارات محلية ودولية تعطي صورة تليق بحجم ألمانيا
وكيف سيكون رد الحكومة الألمانية على خطط الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الطموحة بشأن إصلاح الاتحاد الأوروبي، مثلا؟ الجواب بكل بساطة أننا لا نعرف ولا يمكن أن نعرف لأنه لا توجد ثمة حكومة بإمكانها اتخاذ موقف معين.
وبالمثل، فإن ألمانيا، لا يمكن أن تطرح إصلاحات داخلية للتعامل مثلا مع التحديات الماثلة في قطاع العناية الاجتماعية، أو تشجيع قطاع بناء المنازل.
ثالثا، هذا الوضع يعني أن الوزراء بالوكالة لا يزالون يتعاملون مع القرارات التي اتخذها الناخبون في عام 2013 بدلا من التعامل مع القضايا المطروحة في عام 2017.
بيد أن الوضع ليس بالسوء الذي تعاني منه أشكال الفشل الديمقراطي الأخرى.
ففي الولايات المتحدة، يحدث إغلاق مقرات الحكومة بشكل دوري- عندما يفشل الكونجرس والرئيس في الاتفاق على تمويل عملياتها- وهو الأمر الذي يقود إلى إغلاق المتاحف، وإيقاف تسليم الجوازات لأصحابها، وتأجيل عمليات الموافقة على الرهن العقاري.
وتضطر البلدان أحيانا عند اندلاع أزمات وطنية إلى تنصيب "حكومات تكنوقراطية" مثل حكومة ماريو مونتي في إيطاليا ما بين 2011 و 2013.
وهكذا، عُيِّن خبراء بدلا من سياسيين بغية اتخاذ قرارات في أعقاب انهيار حكومة سيلفيو برلسكوني.
الأخبار الجيدة هي أنه ليس ثمة من سبب يجعلنا نعتقد أن المجتمع سينفجر في حالة أيرلندا الشمالية.
لكن أيرلندا الشمالية ستفقد وزنها وحضورها خارج حدودها.
ويطرح هذا الأمر إشكاليات في مفاوضات بريكست أو الخروج من الاتحاد الأوروبي وخصوصا بالنسبة إلى القوميين المنادين بالاتحاد مع دولة إيرلندا في ظل اتفاق الوحدويين مع حكومة الأقلية في ويستمنسر لدعم رئيسة الوزراء، تيريزا ماي.
ويعني ذلك أيضا أن التحديات الماثلة مثل خدمات الصحة العامة، وقلة الكفاءات، والمعدلات الضعيفة للأداء الاقتصادي لن تحظى بالاهتمام الكافي.
كما يعني ذلك أن القرارات المهمة قد ينتهي بها المطاف في يد الموظفين الحكوميين الذين لهم الحق في الوصول إلى 95% من الميزانية بدون أي إشراف برلماني.
وهناك أيضا تملل يتمثل في أن السياسيين في البرلمان المحلي لإيرلندا الشمالية يستلمون رواتبهم دون القيام بالأعمال الموكلة لهم.
لا جرم أن أيرلندا الشمالية ستتغلب على الفراغ السياسي الذي تعاني منه إذ إن الحكومة المحلية تقوم أيضا بعدة مهمات بينما تتولى الحكومة المركزية شؤون الأمن القومي، والعلاقات الخارجية، والدفاع.
لكن الخطر يتمثل في أن الحكومة المركزية في لندن ستختار فرض الحكم المباشر على أيرلندا الشمالية قبل الطعن جديا في الفراغ الحكومي الذي تعاني منه بلجيكا لمدة قياسية بلغت حتى الآن 589 يوما.
* الدكتور إيد تورنر، رئيس السياسة والعلاقات الخارجية بجامعة أستون
فيديو قد يعجبك: