ثمرة الخوف.. صعود الشعبوية السياسية
برلين (دويتشه فيله)
يحظى ساسة شعبويون بإقبال متزايد، إذ إن عدد المؤيدين لهم في العالم في ارتفاع ويفوزون في الاستحقاقات الانتخابية. فما هي الأشياء التي تجعل الشعبوية جذابة؟ وما مدى جديتها؟ هنا تعقب لآثار الشعبويين في خمسة بلدان مهمة.
قبل مدة اعترف الصحفي الإيطالي إرنيستو غالو ديلا لوجيا، وهو كاتب في صحيفة "كوريير ديلا سيرا"، للقراء بقلق ينتابه: فهو وُلد كإيطالي، لكنه لا يعرف هل سيموت كإيطالي. فالبلاد تتغير بسرعة ـ وذلك نحو ما هو سلبي. وهذا التحول يربطه ديلا لوجيا بأشياء صغيرة، مثل عدم مشاركة أي فيلم إيطالي في مهرجان كان السينمائي في 2017، لأول مرة على الإطلاق في تاريخ المهرجان.
وهذا الغياب في كان، كما يكتب ديلا لوجيا يُضاف إلى سلسلة من الظواهر الجدية مثل اقتصاد راكد ومداخيل ضعيفة وشوارع في وضع سيء ووسائل نقل عمومي متردية وعدم كفاءة البيروقراطية، والقائمة طويلة.
وكل هذه الأمور تؤدي إلى انزعاج ينتشر بعشوائية ولا يجد الإيطاليون أجوبة عليه، حسب رأي عالم الاجتماع ماركو ريفللي، الذي يوضح أن الأحزاب الجماهيرية ذات المنهج القديم انحلت بعدما هزتها فضائح عديدة، وتركها الناخبون. ولم يعد هناك أحزاب جماهيرية بمعنى الكلمة. والعواقب وخيمة: "فالبلد يكاد لا يوجد به سياسيون، يسعون إلى تحقيق الرغبات المشروعة أو يحاولون التقرب من الذين يشعرون بأنهم متروكون وحدهم أو الطبقة المتوسطة التي لا تشعر بالأمان". وبدون لغة مناسبة يمكنهم من خلالها حكاية تاريخهم الذاتي يتم دفع المواطنين ليبقوا محاصرين بين الاستياء والحقد، وبالتالي تدق ساعة الشعبويين، حسب ريفللي.
انتقاد النخب
وهذه المشكلة لا تقتصر على إيطاليا. فألكسندر غاولاند، رئيس الكتلة النيابية لحزب البديل من أجل ألمانيا، اليمني الشعبوي، كتب مقالا بداية أكتوبر/ تشرين الأول في صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" وصف فيه المجموعات التي وجدت نفسها داخل حزبه فقال: "من جهة نجد الطبقة الوسطى، التي تنتمي إليها الطبقة الاقتصادية الوسطى، التي لا تنقل شركاتها ببساطة إلى الهند للإنتاج هناك بتكاليف رخيصة، ومن جهة أخرى نجد الناس البسطاء الذين يتقاضون في الغالب أجورا هزيلة أو لم تعد مواطن عملهم موجودة، والذين عملوا طوال حياتهم وهم مجبرون الآن على العيش من تقاعد ضعيف. وهم في آن واحد الأشخاص الذين يحنون إلى وطنهم الذي فقدوه، لأن المهاجرين يتدفقون بالتحديد على الوسط الذي يعيشون فيه".
مقال غاولاند قوبل بالانتقاد على نطاق واسع. ورأي بعض منتقديه أن ما وجهه غاولاند في مقاله من انتقادات للنخب هي صياغة جديدة معاصرة لدوافع سابقة معادية للسامية. و"فقدان الوطن" مفهوم سابق للتحريض ضد السامية، يظهر في حلة جديدة في مقال غاولاند، إلا أنه يُستخدم الآن ضد النخب المعولمة. كما انتقد البعض التصعيد الجدلي أو العدائي للأجانب في المقال، في الفقرات المخصصة للمهاجرين.
فرنسا من منظور هامشي
وعبر غاولاند في مقاله عن مشاكل يثيرها أيضا اليساريون. ففي فرنسا أجرى الإخصائي في علم الاجتماع، كريستوف غيلي، بحوثا عن انهيار الاشتراكيين الفرنسيين. "فرنسا الهامشية" هو عنوان كتابه المعروف، الذي يُعنى فيه بالطبقة الاجتماعية السفلى التي تهمشت اجتماعيا وجغرافيا. "ليس هناك حزب، لاسيما من اليسار يمثل مصالحها ويعتني بيأسها. والمنظمات المعنية بما في ذلك النقابات لم تعد تمثلها". وبالتالي فإن كثيرا من المواطنين يلتفتون إلى شخصيات سياسية جديدة، في هذه الحالة في اتجاه امرأة، هي مارين لوبين، رئيسة الجبهة الوطنية.
الخوف من الآخرين
ودراسة غيلي لا تقتصر على أوروبا فقط، فهي تنطبق في جزء كبير على الولايات المتحدة الأمريكية. فالطبقة الوسطى التي تشعر بالتهديد ساعدت هناك ترامب على إحراز فوزه الانتخابي، كما يلاحظ البروفيسور دانييل شتاين من جامعة زيغن الألمانية. "ليس الفقراء جدا هم من صوتوا لترامب، بل هي أصوات أشخاص من وسط المجتمع. وهؤلاء الأشخاص يشعرون في الغالب أنهم لم يعودوا يعرفون وطنهم. وبعضهم يخشى الانهيار الاجتماعي وآخرون يعارضون أمريكا المتنوعة والمفتوحة. ثم يأتي شخص مثل ترامب يتجاهل جميع القواعد القائمة ويعطي الانطباع بأنه يريد العمل في واشنطن والعالم من أجل فرض مصالح ناخبيه".
ويلاحظ دانييل شتاين أن ترامب يترك فارقا كبيرا بين وعوده السياسية وأجندته الحقيقية دون جني انتقادات من داخل صفوفه. "فإصلاح قطاع الصحة، الذي باشره أوباما، يعكس مثالا على إمكانية تخفيف مخاوف الانهيار. إلا أن هذا الاصلاح بالذات يريد الجمهوريون التخلص منه. وهنا يظهر التناقض بين الطلبات الشعبوية من الحملة الانتخابية وسياسة يمينية قاسية تستفيد منها بالأساس الطبقة العليا والشركات الكبرى"، حسب شتاين
البرازيليون يسئمون السياسة
في نهاية أكتوبر تمر الانتخابات الرئاسية في البرازيل من مرحلتها الثانية والحاسمة. والمؤهل للفوز هو الشعبوي اليميني أو حتى اليميني المتطرف جايير بولسونارو، الذي يجد دوما كلمات جميلة لوصف الديكتاتورية العسكرية في البرازيل في الستينيات والسبعينيات.
ويتوجه بولسونارو بصفة خاص إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، كما تقول كلاوديا زيلا، رئيسة فريق الأبحاث حول أمريكا بمؤسسة برلين للعلوم والسياسة. "لكن هؤلاء الناس لديهم الانطباع بأن الأحزاب الأخرى لا تختلف عن بعضها البعض وأن السياسة عمل فاسد"، توضح زيلا في حديث مع دويتشه فيله. وتضيف أن الناس بذلك غير مخطئين، فالبرازيليون كانوا فعلا شهودا في السنوات الأخيرة على الكثير من فضائح الرشوة في صفوف السياسيين.
ويعود جزء كبير من نجاح بولسونارو إلى المجموعات الإنجيلية شديدة التأثير، الذين دعا خطباؤهم علانية إلى انتخابه. وهذا ليس صدفة، لأن الشعبويين والإنجيليين يعتمدون أجندة محافظة متطابقة، حسب زيلا، التي تضيف: "يتعلق الأمر بالنظام والعائلة وبالقيم التقليدية وكلاهما (الشعبويون والإنجيليون) يبحثون عن التواصل المباشر مع الناس ويخاطبون العواطف قبل العقل".
الشعبوية ككفاح من أجل الكل
الشعبوية، كما يقول خبير الشؤون السياسية الأرجنتيني، لوريس زاناتا، تعكس خلافات سياسية في الكفاح من أجل الكل. "أفق الشعبوية هي البلد الموعود، ومحو الذنوب وعودة الشعب إلى نقائه الأصلي. الأمر لا يتعلق بشيء ضيق. من هذه المادة تتغذى حكايتها الكبيرة: الكفاح الأبدي للخير ضد الشر".
لكن زاناتا يحذر من أنه يجب ترقب ما سينبثق عن ذلك في النهاية. ففي عالم مدفوع بالخوف قدم الشعبويون الكثير من الوعود، لكن الآن يجب أن يبرهنوا على تنفيذها على أرض الواقع، حسب قوله.
فيديو قد يعجبك: