بالورق والأقلام الرصاص.. فنانة تشكيلية تجسد معاناة السوريات في سجون النظام
كتبت- هدى الشيمي:
يوجد في سجون الرئيس السوري بشار الأسد الآلاف من الرجال والنساء اللائي لا يعلمن ماذا ينتظرهن، منذ احتجازهم بالتزامن مع انطلاق الثورة السورية.
من بين النساء المحتجزات هيام، سيدة في الخامسة والستين من عمرها، تجلس على السرير في عنبر بأحد السجون السورية تُدخن السجائر وتشرب المتّة، وهو مشروب عشبي ساخن شهير في سوريا. وكانت تعيش لحظة انعزال في مكان سُحقت فيه الكثير من الأرواح والأنفس.
تقول نيويورك تايمز إن هيام قضت حوالي عامين ونصف العام في السجن، لسبب بسيط وهو مشاركتها في الثورة ضد الرئيس السوري بشار الأسد.
وكانت عزة أبو ربيعة، الفنانة التشكيلية التي رسمت صورتها، واحدة من بين 30 امرأة شاركوها الزنزانة في سجن عدرا في دمشق.
حسب نيويورك تايمز، فإن أبو ربيعة، 37 عامًا، خاضت رحلتها السريالية في النظام الأمن السوري، واُحتجزت بسبب نشاطها وفنها.
وتُشير الصحيفة إلى أن أعمال أبو ربيعة الفنية منذ بدء الثورة السورية كانت بمثابة مرآة للمجتمع الذي عانى من الاضطرابات والفوضى السياسية.
خاطرت الفنانة التشكيلية بكل شيء، ورغم امكانية اعتقالها، إلا أنها رسمت على الجدران في الشوارع، وبعد الحملة الشرسة التي شنها النظام على المعارضة في كل مكان، ساعدت أبو ربيعة على تهريب الطعام والدواء إلة النازحين بسبب اشتداد حدة القتال.
وجدت أبو ربيعة، وهي سيدة من الطبقة الوسطى المُتعلمة، نفسها مُحتجزة مع نساء أميات، معظمهن أُلقي القبض عليهن بشكل عشوائي، فأصبحت نوعًا ما المُتحدثة بأسمائهن، ونقلت احتياجاتهن وطلباتهن إلى الحراس، وساعدتهن على التحدث عن تجاربهم.
أُطلق سراح أبو ربيعة عام 2016، إلا أن قضيتها لا زالت مفتوحة، فسافرت إلى لبنان وعلقت هناك لأنها ما تزال مطلوبة في سوريا.
فازت أبو ربيعة العام الماضية بإقامة فنية في إسبانيا، لدراسة الرسم، إلا أن الحكومة الإسبانية رفضت منحها تأشيرة دخول.
إلا أن ذلك لم يمنعها من مواصلة رسم صور للنساء اللائي كنّ في الحجز معها، وقص حكاياتهن والتحدث عن معاناتهن.
تُعلق أبو ربيعة رسوماتها للسجينات في غرفة صغيرة في منزلها، وتقول للصحيفة الأمريكية، إنها رغبت في رسمهن حتى لا ينساهم الناس.
وتتابع: "هذه هي رسالتي.. ولن انسى أبدًا إني أصبحت حرة وهن لا".
تحدثت أبو ربيعة مع نيويورك تايمز عن تجربتها في السجن، وسردت عدة قصص للنساء اللواتي كن معها في الحجز، كما قدمت للصحيفة الأمريكية مجموعة من الصور التي رسمتها.
تُشير نيويورك تايمز إلى أن المتحف البريطاني اشترى 3 من أعمال أبو ربيعة قبل احتجازها، الأولى كانت بعنوان "حملوه.. العار"، استوحتها الفنانة السورية من مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لبعض قوات الأمن السوريين الذين ألبسوا أحد المتظاهرين ملابس امرأة وساروا به في شوارع حماة.
واللوحة الأخرى تحمل اسم "ما يزال الغناء"، وتصور أحد المعارضين والذي يهتف بعبارة "يلا ارحل يا بشار"، والذي أصبح رمز الثورة السورية.
وخلال الثورة السورية، كانت الاحتجاجات والهتافات كافية لاحتجاز المواطنين وإطلاق الرصاص عليهم فيقع من بينهم القتلى والجرحى.
اختفى آلاف السوريين منذ انطلاق الثورة وحتى الآن، ولا يعلم أهلهم أين هم أو ماذا حدث لهم، وتقول نيويورك تايمز إن البعض يرجح أنهم قُتلوا في السجون وتخلصت الحكومة منهم.
بعد القبض عليها، قضت أبو ربيعة حوالي 70 يومًا في زنزانة صغيرة كانت تابعة لأحد الأجهزة الأمنية السورية، ورغم ضيقها الشديد وقذارتها إلا أنها استوعبت حوالي 15 امرأة.
وأُصيبت السجينات بالقمل في شعورهن، وانتشرت الحشرات في الأغطية، ولم تكن الأوضاع أفضل في المراحيض، والتي امتلأت بالفضلات والصراصير.
وعندما علم المُحقق أنها رسامة أجبرها على الرسم، تقول أبو ربيعة لنيويورك تايمز إنه أعطاها قلم رصاص وورقة وأجبرها على الرسم.
وتتابع: "عيني كانت مُغطاة، ولكني رسمت رجلاً بشع المنظر بدون أسنان، يمسك بيديه عصفور صغير ويسحقه".
أذهلت الرسمة المُحقق، والذي غضب بشدة وقال لها: "أنتِ تقصدينا نحن، نحن من نفعل ذلك".
"السيدات في عنبر رقم 4"
تحسنت الأوضاع عندما نُقلت أبو ربيعة إلى سجن عدرا، وهو سجن رسمي، حيث تمكنت أخيرًا من إقناع الحرّاس بإحضار الورق وأقلام الرصاص لها، وهناك بدأت في رسم زميلاتها.
لم تكن هناك مرايا في السجن، تقول أبو ربيعة، لذلك كانت رسماتها بمثابة المرآة التي ترى فيها كل امرأة نفسها، وتعلم كيف تبدو.
وتقول: "كانت النساء أكثر جمالاً مما ظهرن عليه في اللوحات، لم يكن هناك أي شيء تستطيع الفتاة أو المرأة فعله، فكل ما كانت تفعله هو ضبط شعرها وتنظيف وجهها، وأحيانا كانت تتطلب بعض الفتيات من عائلتهن شراء مساحيق التجميل".
كانت رفقة أبو ربيعة في السجن فتيات صغيرات جدًا في السن، فكن تقضين أوقاتهن في الرقص طوال الليل، وكن يتنافسن من منهن سترقص أفضل من الأخرى، وأحيانا كن يبكين أثناء الرقص.
وفي ليلة رأس السنة، سمح الحراس لسجينات بإقامة حفل صغير، فرسمت أبو ربيعة بعض الخطوط على وجه الفتيات، فباتت إحداهن قطة، والأخرى فراشة.
وتقول أبوربيع: "واحتفالاً بهذه الليلة، كتبنا على ورقة (سيدات زنزانة رقم 4 تهنئكم بالعام الجديد)".
إلا أن الحراس لم يتعاملوا مع الأمر بصدر رحب، وشعروا بالغضب الشديد عندما رأوا كلمة "سيدات" على البطاقة. فقالوا لهن: "أنتن إرهابيات ولسن سيدات".
ومن بين القصص التي تتذكرها أبو ربيعة، التالي:
راما العيد، 18 عامًا
رغبت راما العيد أن تغدو كل امرأة تقابلها في السجن أمًا لها. تقول أبو ربيعة إنها كانت صغيرة فأطلقوا عليها جميعًا اسم "شيكولاتة".
كانت فتاة جميلة ذات عينين واسعتين، وكانت بطلة قومية في رياضة تنس الريشة.
وهي واحدة من أهالي درعا، حيث بدأت الثورة، أُلقي القبض عليها عندما كانت مراهقة، واُتهمت بمهاجمة النظام، وعندما بلغت الثمانية عشر، حُكم عليها بالسجن 6 أعوام و8 أشهر.
رئيفة، 22 عامًا
أما رئيفة، فكانت فتاة لطيفة جدًا من حمص. قضت حوالي 4 أعوام في السجن، حيث عملت كنادلة، إذ تركوها تعمل حتى تحصل على مصدر دخل.
تقول أبو ربيعة إنهم تعاملوا معها على إنها مُجرمة لأنها كانت من حمص، هذا السبب فقط.
وتتابع: "كانت متهمة بنقل أخبار إلى وسائل الإعلام عما يحدث في مدينتها، وكانت تنام وهي تحتضن دميتها المحشوة".
طل الملوحي
طل الملوحي، كانت مدونة اُحتجزت منذ عام 2009 وكانت في عامها التاسع عشر. تتصرف أنها أميرة.
وتقول أبو ربيعة: "ربما تكون فقدت صوابها، كانت جميلة جدًا، وتضع العطور دائمًا، وإذا نظرت عليها ستشعر بالشفقة".
مريم، 65 عامًا
أم لستة أطفال، قضت أشهر في سجن حكومي سري في حلب، اُستجوبت حول مكان وجود ابنائها في حي المتمردين، ثم اُرسلت إلى دمشق لمحاكمتها بتهمة الإرهاب.
وكانت محظوظة بما يكفي إذ أن القاضي تعاطف معاها، وأدرك على الفور إنها فقدت صوابها، وأصدر أمرًا بإطلاق صراحها.
إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة في سوريا، فيمكن لأحد فروع المخابرات إطلاق سراحك، لكي يقوم فرع آخر باعتقالك مرة أخرى، ومع القليل من التنسيق بين الفروع، يمكن للأسماء أن تبقى لفترة طويلة جدًا في قائمة المطلوبين، وهذا ما حدث لمريم، فقبل أن تعود إلى منزلها، أُلقي بها في سجن آخر في دمشق.
رسمتها أبو ربيعة من الذاكرة بعد خروجها من السجن، فرسمت سيدة شاحبة الوجه ذات عينين كبيرتين، بدا عليها الخوف والهلع.
وتقول الفنانة التشكيلية إن مريم فقدت صوابها بالفعل، فكانت تسألها كل أربع دقائق تقريبًا عن سبب وجودها في السجن.
زينة
تتذكر أبو ربيعة موقف لن تنساه أبدًا، تقول كانت معها في الزنزانة فتاة صغيرة تُدعى زينة، والتي طلبت من الحراس أن يدعوها تتنفس.
تقول: "تم احتجازنا في شهر سبتمبر وكنا نرتدي ملابس صيفية، وبحلول الشتاء، شعرنا بالبرد الشديد ولم يكن لدينا ملابس تدفئنا، صادر الحراس أموالنا، ورفضوا منحنا أي ملابس، ومنحونا أغطية مليئة بالحشرات، وكانت الفتاة تعاني من الربو، ولم تستطع تتنفس".
وتضيف: "طرقت الباب بشدة، وطلبت من الحراس الخروج لدقيقة واحدة حتى تتنفس، ثم جلست بجانب الباب، وأخذت نفسًا عميقًا، وبكت حتى غرقت الدموع ملابسها، مشهد لن أنساه أبدًا".
فيديو قد يعجبك: