تحليل: أوراق ثقيلة في انتخابات تونس تفتقد مرشحين من العيار الثقيل
برلين (دويتشه فيله)
ما تشهده تونس من أحداث مثيرة وغير مسبوقة في الحياة العامة يبعث على كثير من الفضول والترقب لمجريات حملات الانتخابات الرئاسية، وهو أمر ينطلق منه محللون لترقب مفاجآت قد تظهر في اقتراع الأحد 15 سبتمر.
المراقبون لحملات الانتخابات الرئاسية في تونس، تهيمن في معظم الحالات على قراءاتهم النظرة الإيجابية لتجربة الانتقال الديمقراطي في بلد يشكل استثناء في بلدان الربيع العربي. بيد أن الصورة قد تبدو متفاوتة في أوساط التونسيين بشكل واسع.
فالمنافسة المحتدمة بين 26 مرشحا للانتخابات الرئاسية، في أجواء حرية بما فيها من مناظرات تلفزيونية على نمط الديمقراطيات الغربية، كلها مشاهد تُرى بمقاييس مختلفة تماما في عيون التونسيين الحذرة إزاء وعود المرشحين، حذر تعززه خيبات أمل لا يخفيها كثير منهم بسبب سنوات صعبة عاشوها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والأمني بعد الثورة، حيث تراجعت المقدرة الشرائية لفئات واسعة من المجتمع، ولم يستفد مئات الآلاف من الشبان العاطلين عن العمل من وعود الحكومات المتعاقبة، ويموت سنويا مئات المهاجرين إلى أوروبا غرقا في سواحل البحر المتوسط.
لكن يبعث على كثير من الفضول والترقب لمجريات حملات انتخابات 15 سبتمبر، ما تشهده الحياة العامة التونسية من أحداث مثيرة وغير مسبوقة، الأمر الذي ينطلق منه محللون لترقب مفاجآت من صناديق الاقتراع.
أولا: استخدام "أسلحة ثقيلة"
من أشد المشاهد إثارة في حملات الإنتخابات التونسية، الخرجة الإعلامية للمرشح المستقل عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع، حينما كشف بأنه كان يفكر في إصدار أمر للجيش بمحاصرة البرلمان و"إغلاق بابه بدبابتين" لمنع ما وصفه بـ"محاولة إنقلابية على الشرعية" متهما نوابا برلمانيين بأنهم كانوا يخططون للإنقلاب على الرئيس الشرعي الباجي قايد السبسي عندما كان مريضا.
وفيما يبدو "ضربة تحت الحزام" لمنافسه رئيس الحكومة يوسف الشاهد مرشح حزب "تحيا تونس"، قال الزبيدي إنه أخبر رئيس الوزراء بذلك وإن هذا الأخير أبدى تأييده للخطوة وأضاف بأن الشاهد استدرك قائلا: "أتمنى أن لا نصل لهذا الوضع".
كلام الزبيدي تخللته برأي المراقبين رسائل عديدة، إحداها أنه يحاول استمالة قطاع واسع من التونسيين الذين سئموا الصراعات السياسوية للنخب الحاكمة والمعارضة، وخصوصا في جلسات البرلمان. فكثير من التونسيين لا يخفون رغبتهم اليوم في ظهور "رجل قوي" يمسك بزمام السلطة في البلاد ويقودها نحو إصلاحات إقتصادية وإجتماعية. و يركز الزبيدي في حملته الإنتخابية على "ضرورة تعديل الدستور" باتجاه تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية.
وليس الزبيدي وحده من يلعب في حملته الإنتخابية على وتر "الرجل القوي" بل هنالك من يذهب إلى حد التعبير عن حنينه لزمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مثلما تفعل مرشحة الحزب الدستوري الحر عبير موسي.
الاشتباك الانتخابي بين الشاهد والزبيدي، أثار ردود فعل كثيرة في تونس، وهنالك من رأى فيه خروجا عن المألوف من طرف كبار المسؤولين في الدولة عندما يدفعهم السباق نحو قصر قرطاج إلى "نشر الغسيل" أمام أنظار الرأي العام، حتى ولو كان ذلك يعرّض الديمقراطية الناشئة لمخاطر وتجاوز "الخطوط الحمراء" كما يقول الخبير التونسي في تحليل الخطاب الإنتخابي منصور عيوني، مثلا عبر "الزج بالجيش والمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية".
بيد أن محللين يعتقدون أن هذا المنعطف في حملة الرجلين الذين يوجدان في كوكبة المرشحين الأكثر حظوظا كما تقدمهم بعض استطلاعات رأي محلية (أجريت قبل أسابيع)، يؤشر ايضا وجود انقسامات داخل مؤسسات الدولة العميقة وجماعات سياسية ومالية، وهي انقسامات نجمت عن الفراغ التي خلفه رحيل الباجي قايد السبسي وتشتت حزبه "نداء تونس" الذي كسب الانتخابات السابقة بنجاحه في تكتيل القوى الليبرالية وبقايا النظام السابق في مواجهة قوى الثورة المنقسمة بدورها على نفسها بين حزب النهضة وحزب الرئيس السابق منصف المرزوقي. بينما تبدو في انتخابات الرئاسة الحالية حالةُ فراغ في زعامة القوى الليبرالية، ما يفتح الباب على مفاجآت.
ثانيا: سطوة المال الفاسد
من اللافت أن عبارة "الحرب على الفساد" لا تكاد تخلو منها حملة مرشح للانتخابات الرئاسية. فرئيس الحكومة يوسف الشاهد ذهب إلى الحديث عن "مافيا" تخترق النظام المالي والإعلام والحقل السياسي.
ورغم أنّ الشاهد بنى جانبا من شعبيته على حملة شنتها حكومته قبل عامين على بعض رموز الفاسد، إلا أن خصومه وخصوصا في المعارضة مثل مرشح إئتلاف الجبهة الشعبية حمه الهمامي، يتهمونه بالفساد.
ويبدو ملف الفساد من أعقد القضايا التي تواجه، ليس فقط انتخابات الرئاسة التونسية، بل الحياة السياسية والإقتصادية برمتها. ويبدأ الحديث عن الفساد في تونس من ملف التهريب (الإقتصاد الوازي أو غير المهيكل).
وتتراوح نسبة الإقتصاد الموازي إلى حوالي 34 في المائة مثلا في المناطق الحدودية مع ليبيا أو المعاملات المالية غير المهيكلة، بحسب دراسة للبنك الدولي، وإلى نسبة 52 في المائة بحسب خبراء، كما يقول الخبير الإقتصادي التونسي الدكتور رضا الشكندالي.
و تبدو الاتهامات لقسم من الطبقة السياسية ورجال الأعمال بالتواطؤ والاستفادة من أموال التهريب، أمرا مألوفا ليس فقط في شكل اتهامات متبادلة بين المرشحين للانتخابات الرئاسية، بل في الخطاب الإعلامي والسياسي اليومي بتونس.
وتواجه الهيئة العليا المستقلة المشرفة على الإنتخابات صعوبات ملحوظة في رصد التجاوزات المالية في حملات المرشحين، رغم ما يلاحظه كثير من المراقبين لحجم الأموال التي يتم انفاقها في حملات عدد من المرشحين، وهي تبدو متجاوزة بشكل ملحوظ للسقف الذي وضعته هيئة الانتخابات ويبلغ 1,8 مليون دينار تونسي (اليورو يعادل 3,15 دينار تونسي).
وأظهرت مجريات الإنتخابات الحالية أن الهيئة المشرفة على الإنتخابات واجهتها تحديات وصعوبات كبيرة في مراقبة المال الفاسد. اذ تكشف تقارير منظمات مدافعة عن الشفافية عن أموال ضخمة تنفق عبر قنوات موازية للتأثير على الناخبين، تستخدم فيها أساليب متعددة منها قنوات قانونية مثل الجمعيات. كما تشير بعض التقارير إلى أن دولا خليجية تتدخل بأموالها للتأثير على الانتخابات التونسية.
ومن أعقد الاشكاليات التي تواجهها هيئة الانتخابات، وجود مرشح في السجن اعتقل قبيل بدء حملة الانتخابات، للاشتباه في تورطه في قضايا تهرب ضريبي وغسيل أموال. إذ يخوض نبيل القروي زعيم حزب "قلب تونس" حديث النشأة، حملته الانتخابية من داخل زنزانته في ضاحية مورناق شرق العاصمة تونس. وتقدم بعض استطلاعات الرأي القروي كأحد الشخصيات الأوفر حظا في الانتخابات. وانتقدت منظمات حقوقية وكذلك الاتحاد الأوروبي اعتقال القروي، بينما ترد الحكومة بأن الأمر "يعود إلى سلطة القضاء المستقل".
والقروي هو صاحب قناة "نسمة" والذي يعتبر ايضا من مؤسسي "نداء تونس"حزب الرئيس الراحل السبسي، ينافس كلا من يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي ورئيس الحكومة السابق مهدي جمعة مرشح حزب البديل التونسي ومحسن مرزوق مرشح حزب "مشروع تونس"، على "خزان انتخابي" يتشكل من منظومة واسعة من جماعات المصالح والقوى الليبرالية وبقايا النظام السابق ومؤسسات الدولة العميقة.
وليست قصة المرشح نبيل القروي وحدها ما يؤرق الهيئة العليا للانتخابات، بل هنالك أيضا ملف مرشح آخر يقود حملته من سان تروبي بفرنسا، وهو المرشح سليم الرياحي، مرشح حزب "حركة الوطن الجديد" حديث النشأة، رجل الأعمال المحكوم عليه بالسجن وتم تجميد أمواله تحت طائلة اتهامات بتبييض الأموال. ويدلي المرشح الغائب الحاضر في وسائل الإعلام التونسية بقوة، بدلوه يوميا في الحملات الانتخابية ويرد على متهميه بالفساد بأنه أبرم صفقات مع رجال سياسة وضمنهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
ويرى محللون بأن هيمنة ملف الفساد في حملات الانتخابات، قد تساهم في ظهور ميول لدى الناخبين بتصويت عقابي ضد الطبقة السياسية، ويمكن أن يستفيد من ذلك مرشحون يوصفون بالشعبويين أو الذين يتقنون استخدام تقنيات التواصل الإجتماعي والخطابات المباشرة، على غرار المرشح لطفي المرايحي مرشح حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، وهو أستاذ جامعي ولفت الأنظار بأسلوبه في استقطاب فئات من الشباب ومن الطبقة الوسطى لحملته.
ثالثا: الورقة الدينية
يرصد المتابعون لحملات الانتخابات الرئاسية الحالية ومقارنتها بالانتخابات السابقة، تراجعاً ملحوظاً في الاستقطاب حول قضايا الدين والهوية. ورغم أن حزب النهضة الإسلامي قدم للمرة الأولى مرشحا للرئاسة هو الرئيس المؤقت للبرلمان، الشيخ عبد الفتاح مورو، فانّ أسلوب الرجل المعروف باعتداله وكذلك السياق الحالي للأوضاع في تونس وضمنها أن حزب النهضة شريك في الحكم، جعلت قضايا حساسة عديدة ترتبط بالدين تتراجع في السجالات الإنتخابية، إلا أنها لم تختف تماما.
فرغم تشديد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على استبعاد توظيف الدين في الحملات الإنتخابية، فان بعض المرشحين يستخدمون الورقة الدينية في صلب حملاتهم الإنتخابية، ومن أبرزهم مرشح حزب "تيار المحبة" محمد الهاشمي الحامدي صاحب قناة "المستقلة" التي تبث من بريطانيا. وهو يطرح في حملته تعديل الدستور لينص على بند يضع "الإسلام كمصدر أول للتشريع" كما يطالب برفض مشروع قانون كان الرئيس الراحل السبسي قد عرضه لتحقيق المساواة في الميراث بين المرأة والرجل.
كما أعادت حملات الانتخابات الجدل حول قضايا المرأة وتعدد الزوجات وفصل الدين عن الدولة، ورغم الرفض الواسع من معظم المرشحين وخصوصا الليبراليين واليساريين للأصوات التي تثير هذه القضايا، إلا أن استخدامها من بعض المرشحين الآخرين قد يساهم في التأثير على بعض الناخبين الذين يحملون رؤية محافظة للمجتمع.
و ينأى مرشح حزب النهضة الإسلامي بنفسه عن الخوض في هذه القضايا، إلا أنّ هناك من يعتقد أن القاعدة الناخبة لحزب النهضة قد تتعرض لامتحان كبير في الانتخابات الحالية، بسبب وجود "أزمة هوية" في صلب الحزب، بحسب وصف صحيفة لوموند الفرنسية، فالحزب الإسلامي المعروف بإلتزام قاعدته الديني وتوفره على خزان انتخابي يقارب 15 في المائة من الناخبين، قد يجد أنصاره أنفسهم مشتتين بين خيارات سياسية ثورية وبراغماتية وبين خيارات ثقافية ليبرالية ودينية محافظة.
ويرى محللون بأن "الحيرة" أو "أزمة الهوية" داخل أنصار حزب النهضة قد تغذيها شخصية مرشح الحزب الشيخ مورو المعروف بنهجه البراغماتي والليبرالي وووسطيته من الناحية الدينية.
رابعا: أصوات النساء ورقة غامضة
تشكل النساء نسبة 54 في المائة من الناخبين المسجلين في الانتخابات الحالية، ولعبت أصوات النساء في انتخابات 2014 دوراً حاسماً في صعود الرئيس الراحل السبسي إلى قصر قرطاج، بفضل كسبه لأكثر من مليون صوت نسائي، في مواجهة منافسه آنذاك الرئيس السابق منصف المرزوقي.
وكان السبسي يعتبر نفسه وريثا للزعيم التاريخي لتونس المستقلة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الذي تدين له النساء التونسيات بسنّ قانون الأحوال الشخصية الأكثر ليبرالية في العالم العربي.
لكن تراجع الاستقطاب حول قضايا الدين والمرأة في الانتخابات الحالية، وتعدد المرشحين في المعسكر الليبرالي والعلماني، والعدد القليل من المرشحات للرئاسة ( مرشحتان فقط، هما عبير موسي وسلمى اللومي مرشحة حزب أمل)، كلّ هذه العوامل قد تجعل أصوات النساء مشتتة في الدور الأول على الأقل، وربما يظهر دور الأصوات النسائية حاسما بشكل أكبر في حال بقاء مرشح محافظ في مواجهة مرشح ليبرالي للدور الثاني من الانتخابات.
فيديو قد يعجبك: