إعلان

"النوشو".. تعرف على اللغة "السرية" التي لا يتحدثها سوى النساء في الصين

03:42 م الأربعاء 07 أكتوبر 2020

أسهمت الفصول التي تقدمها وريثات اللغة في المتحف في

بكين- (بي بي سي):

تشكل مقاطعة هونان جنوب شرقي الصين لوحة فريدة تجمع بين القمم الجيرية الشاهقة والأودية التي تشقها الأنهار وحقول الأرز المغمورة التي يغشاها الضباب. وتغطي الجبال أكثر من 80 في المئة من المنطقة، تتخللها قرى صغيرة نشأت على سفوح الجبال بمعزل عن بعضها البعض.

وفي هذه المقاطعة، بين أحضان المنحدرات الوعرة والقرى الصغيرة، خرجت إلى النور لغة النوشو، والتي تعد الكتابة الوحيدة في العالم التي ابتكرتها النساء ولا يستخدمها سواهن.

وازدهرت كتابة النوشو، التي تعني باللغة الصينية "كتابة النساء"، في القرن التاسع عشر في إقليم جيانغيونغ بمقاطعة هونان، لتمكين النساء من قوميات هان وياو ومياو، في هذه المنطقة، من ممارسة حقوقهن في حرية التعبير، التي كانت غائبة في الكثير من هذه المجتمعات آنذاك.

ويرى بعض الخبراء أن جذور هذه الكتابة، التي كانت حكرا على النساء، تعود إلى عهد أسرة سونغ من عام 960 إلى عام 1279، وبعضهم يرى أنها تعود لعهد أسرة شانغ الحاكمة قبل أكثر من 3000 عام. وكانت الفتيات يتعلمن كتابة النوشو عن أمهاتهن القرويات ويمارسنها مع أخواتهن وصديقاتهن في المجتمع الصيني الإقطاعي في وقت كانت تُحرم فيه النساء من فرص التعليم.

وكانت الكثيرات من هؤلاء النساء أميات. ولكي يتعلمن النوشو، كان عليهن التدرب على نقل النص المكتوب كما يرونه. ومع الوقت مهدت النوشو الطريق لظهور ثقافة نسائية مميزة لا تزال باقية حتى الآن.

واللافت أن هذه الكتابة غير المنطوقة، لم يعرفها أحد من خارج إقليم جيانغيونغ لمئات أو ربما لآلاف السنين، ولم يصل صداها إلى مسامع العالم الخارجي إلا في الثمانينيات من القرن الماضي.

وبعد مرور 16 عاما على وفاة يانغ هواني، آخر "متحدثة" تتقن هذه الشفرة القديمة، تستعيد هذه اللغة المكتوبة التي لا يعرفها إلا القليلون بعضا من مكانتها وأهميتها. وتتركز جهود إحياة اللغة في قرية بواي الصغيرة، المحاطة بنهر سياو ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر جسر معلق صغير.

وتقول سين هو، إحدى ساكنات قرية باوي، إن النوشو كانت واسعة الانتشار في المقاطعات الأربعة والبلدات الـ18 المتاخمة لقرية بواي. وأصبحت بواي مركزا لأبحاث النوشو بعد أن عثر الخبراء على ثلاث كاتبات للغة النوشو في هذه البلدة التي لا يتجاوز عدد سكانها 200 نسمة، في الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي عام 2006، أدرج مجلس شئون الدولة الصيني كتابة النوشو ضمن قائمة التراث الثقافي الوطني غير المادي، وبعدها بعام، شُيد متحف في جزيرة بواي، حيث تعمل سين كواحدة من المترجمات أو "الوارثات" السبعة للغة، وتعلمت القراءة والكتابة والغناء والتطريز بلغة النوشو.

وتمثل كتابة النوشو، التي تُقرأ من اليمين إلى اليسار، مزيجا من اللهجات الأربعة التي يتحدثها سكان جيانغيونغ. ويمثل كل رمز مقطعا من كلمة، وكانت تُكتب باستخدام عصي الخيزران الحادة وحبر كن يصنعنه من البقايا المحروقة في أواني القلي.

ورغم أنها مستوحاة من الحروف الصينية، إلا أن رموز النوشو تبدو أكثر منها طولا، وتعتمد على خطوط منحنية أشبه بالخيوط تميل إلى أسفل، وكان سكان المنطقة يطلقون عليها أحيانا اسم "كتابة البعوض" بسبب مظهرها الطويل والنحيل.

واتخذت النساء من كتابة النوشو وسيلة للتأقلم مع الصعوبات الاجتماعية والمنزلية وساعدتهن على توطيد أواصر الصداقة مع النساء في القرى المجاورة. وطرزت النساء على المحارم وأغطية الرأس والمراوح والأحزمة القطنية كلمات مبهجة عن السعادة والصداقة بلغة النوشو، وكن يتبادلنها معا.

ورغم أن النساء لم يتحدثن النوشو، إلا أنهن كن في مجالسهن ينشدن أغاني أو يلقين أشعارا متنوعة تراوحت من أشعار الأطفال إلى معايدات أعياد الميلاد أو أشعار عن الندم والأسف، أو الشكوى من الزواج باستخدام عبارات وتعبيرات من النوشو.

وكانت النساء الأكبر سنا يؤلفن أغاني يحكين فيها لصديقاتهن عن تجاربهن البائسة أو ينشرن من خلالها قيما أخلاقية ويعلمن الأخريات كيف يصبحن زوجات صالحات بالتحلي بالعفة والورع والاحترام.

وبينما يرى الباحثون الآن أن النوشو كانت وسيلة للتواصل بين النساء اللائي لم تتح لهن الفرصة لتعلم القراءة والكتابة باللغة الصينية، فإنها كانت قديما توصف بأنها شفرة خاصة بالنساء للتمرد على المجتمع الأبوي في هذا الوقت.

إذ لم يكن مقبولا آنذاك أن تعبر النساء على الملأ عن الندم على تجارب خاصة أو عن مشاعر الحزن أو الأسى أو أن تشتكي علانية من صعوبات الحياة. وأصبحت النوشو بمثابة متنفس للنساء وساعدتهن على إقامة روابط صداقة فيما بينهن يساندن من خلالها بعضهن بعضا في مجتمع يهيمن عليه الذكور.

وكانت هذه الروابط تعرف باسم مجموعات "الأخوات المُحلفات"، التي كانت كل منها تتألف عادة من ثلاث أو أربع شابات لا تربطهن صلة قرابة، وكن يتعهدن بالحفاظ على الصداقة بكتابة خطابات أو إنشاد أغان بلغة النوشو لبعضهن بعضا. ورغم أن هؤلاء الشابات كن يرغمن على طاعة الذكور في عائلاتهن، إلا أنهن كن يجدن عزاءهن في التحدث إلى رفيقاتهن المقربات.

وفي عام 2000، دُشنت مدرسة نوشو في جزيرة بواي، وقررت سين أن تلتحق بها أسوة بأمها وأختها. وتدرّس سين الآن للطلاب كتابة النوشو، وتصطحب الزوار في جولات حول المتحف، وأصبحت سين وجها للغة نوشو، وتجوب أنحاء آسيا وأوروبا في رحلات ترويجية للغة.

وتقول سين إن بعض الوريثات تعلمن اللغة عن جداتهن منذ الصغر، مثل هي يانسين، أكبر وريثة للغة، التي تجاوزت الثمانين الآن. ويعشق الناس اللغة لأنهم يعتقدون أن هذه الثقافة فريدة من نوعها ويرغبون في تعلمها وفهمها.

لكن أسباب نشأة هذه الكتابة وازدهارها في هذا الجزء القصي من الصين لا تزال سرا محيرا.

وتعزو كاثي سيلبر، أستاذة اللغة الصينية وآدابها بكلية سكيدمور بولاية نيويورك، وتجري أبحاثا عن النوشو منذ عام 1986، ذلك إلى عدة عوامل تختص بمناطق عديدة جنوبي الصين، مثل وجود قوميات أخرى غير الهان، وعملية الذوبان الثقافي، أي انصهار المجتمعات العرقية غير الصينية في الثقافة الصينية، والعزلة.

وأمضت سيلبر شهورا مع يي نيانهوا، واحدة من آخر كاتبات النوشو، وترجمت أعمالها إلى الصينية الرسمية.

لكن الكثير من المعلومات عن النوشو لم نكن لنعرفها لولا جهود الباحث زاو شيوي، الذي تعرف على كتابة النوشو في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن تزوجت عمته من رجل يعيش في قرية يلم بعض سكانها بكتابة النوشو.

وأجرى زاو أبحاثا عن هذه اللغة السرية لصالح مكتب جيانغيونغ الثقافي منذ عام 1954، لكن عندما اندلعت ثورة ماو تسي تونغ الثقافية في الستينيات من القرن الماضي، عدت الدولة أبحاث زاو مصدر خطر.

ويقول زاو: "اتهموني بأنني يميني، بسبب أبحاثي عن اللغة، وحرقوا جميع ملفات أبحاثي وأُرسلت إلى معسكرات الاعتقال ولم يطلقوا سراحي إلا في عام 1979، بعد أن أمضيت فيها 21 عاما".

وبعد اندلاع الثورة، حرص الزعماء الشيوعيون على طي صفحة الماضي الإقطاعي، وحظر استخدام لغة النوشو باعتبارها جزءا من هذا الماضي. ومع التحاق الفتيات بركب التعليم الرسمي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، تراجع استخدام النوشو.

لكن زاو بعد إطلاق سراحه واصل بلا كلل ترجمة لغة النوشو إلى الصينية. وفي عام 2003، قبل وفاته بعام، نشر زاو أول قاموس بلغة النوشو للترويج للغة النوشو حول العالم. ولا يزال زاو الرجل الوحيد الذي أتقن كتابة النوشو التي تقتصر على النساء.

وعلى ضفاف نهر سياو، تقع حديقة ومتحف النوشو الذي يضم قاعات عرض وفصلا دراسيا، وتزين جدرانه لوحات ومقاطع فيديو ومعروضات ثقافية. وتتيح فصول التطريز والكتابة فرصا للترابط الثقافي. ويحتضن المتحف مهرجانا سنويا للأغاني والأشعار بلغة النوشو.

وتقام في المتحف، دروات تدريبية مجانية كل صيف للتعريف بتاريخ النوشو واستعراض كتابة النوشو. لكن سين تقول "إن ثمة عوائق أمام تعلم النوشو، على رأسها أن حروفها تختلف عن الحروف الصينية التي نستخدمها، فضلا عن أن نطقها ليس سهلا. فإذا لم تكن من متحدثي اللهجة المحلية، ستجد صعوبة في القراءة أو الغناء بلغة النوشو".

وكان الزواج سببا في ظهور أهم استخدامات النوشو، إذ كانت العروس عادة بعد الزفاف تغادر منزل والديها وتنتقل إلى منزل زوجها. وكثيرا ما كانت العروس تشعر بالعزلة في بيتها الجديد. ومن ثم باتت النوشو الوسيلة التي تعبر بها النساء عن حزنهن وحسرتهن على فراق صديقاتهن.

وكانت العروس تتسلم "دفتر اليوم الثالث" المصنوع من القماش بعد ثلاثة أيام من الزفاف، تسجل فيه أمها وصديقاتها المقربات مشاعر الحزن التي تعتريهن لفراق العروس ويسجلن أمنياتهن بمستقبل مشرق للعروس في الصحفات القليلة الأولى. وتُترك سائر الصفحات خالية لتسجيل الأفكار وتدوين اليوميات مستقبلا.

ورغم ندرة آثار النوشو اليوم، بعد أن دُمر الكثير منها أثناء الثورة، فقد جسدت أعمال فنية مؤخرا لغة النوشو، سواء في صورة أفلام أو مقطوعات موسيقية أو أعمال أدبية. وزاد إقبال الشابات من إقليم جيانغيونغ على تعلم النوشو في المتحف، وشرعت الوريثات، مثل سين، في تدريس اللغة عبر تطبيقات صينية شهيرة مثل "ويتشات".

وتقول ليمينغ زاو، إحدى الباحثات في كتابة النوشو: "إن لغة النوشو منذ وفاة يانغ هوياني، دخلت مرحلة ما بعد كتابة النساء، إذ أصبحت تدرس وتستخدم لأغراض التجارة والسياحة. وهذا بالطبع يعد نوعا من جهود الحفاظ عليها".

وترى ليمينغ أن النوشو لا تزال وسيلة لتقدير جمال النساء وقوتهن.

وتقول ليمينغ: "إن النوشو أدت مهمتها التاريخية كأداة ثقافية لمساعدة النساء من الطبقة العاملة اللائي حرمن من حقوقهن في التعليم، على الكتابة. وقد خلفت أعمالا رائعة تنضح بالحكمة والشجاعة للأجيال القادمة".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان