فيروس كورونا: الغناء "سلاح" الإيطاليين لمواجهة الوباء
لندن (بي بي سي)
كانت الشمس قد أوشكت على المغيب، ونظرتُ مع ابنتي من نافذة غرفة الجلوس التي تشرف على الميدان الذي كان بالأمس يغص بالرائحين والغادين من السياح إلى الأزواج والعائلات والراهبات والعشاق، في قلب العاصمة الإيطالية روما.
لكن الميدان اليوم خلا من المارة، وكان يلفه صمت مطبق، لم يقطعه سوى وقع أقدام شخص يرتدي كمامة وقفازات يهرع لقضاء حاجاته. هذا هو المشهد في روما الجديدة وإيطاليا الجديدة.
عندما نظرتُ إلى نوافذ جيراني المزدانة بلوحات قوس قزح ومصحوبة بتعليق "كل شيء سيكون على ما يرام"، تذكرت أننا سنتخطى هذه الأزمة وستتحسن الأمور. هذه العبارة البسيطة تجسد مشاعر الأمل والتضامن التي وحدت الشعب الإيطالي على مدار الأسابيع القليلة الماضية، ويمكنني القول إنني لم يغمرني الفخر بأنني إيطالية كما يغمرني الآن.
وفي ظل حالة الحجر الصحي المفروضة على عموم البلاد، أعلنت الحكومة إغلاق كل شيء باستثناء متاجر السلع الغذائية والصيدليات ومنعت التجمعات بجميع أشكالها من أجل احتواء فيروس كورونا الذي اجتاح منطقة لومبارديا الشمالية وانتشر كالنار في الهشيم في المجتمعات المجاورة.
وبين عشية وضحاها، أُرغمنا على البقاء في منازلنا مع أفراد أسرتنا المقربين لأجل غير معلوم. ولا يسمح لنا بالخروج إلا للضرورة القصوى، مثل العمل الذي يقتضي الحضور أو إحضار الطعام أو الخروج لأسباب صحية، شريطة الحصول على إذن مسبق من السلطات المعنية.
ورغم أن هذه الإجراءات كانت توصف خارج إيطاليا بأنها شديدة القسوة، إلا أن دولا في أوروبا وخارجها شرعت في تطبيق إجراءات مشابهة بعد أن أدرك العالم ضرورة التباعد الاجتماعي لإبطاء انتشار الفيروس.
غير أن رد فعل الحكومة بوضع صحة الشعب في المقدمة وكذلك رد فعل المواطنين حيال الأزمة كانا مدعاة للفخر. فمنذ عهد قريب، كانت ثقة المواطنين في السلطة والقوانين معدومة أو شبه معدومة. وتعاقبت 61 حكومة على البلاد منذ عام 1948، وظلت إيطاليا مقسمة إلى مدن متفرقة تشبه الدويلات، ينتمي سكانها لمدينتهم أكثر من انتمائهم لإيطاليا نفسها.
لكن حركة "سأبقى بالمنزل" أسهمت في تعزيز أواصر الوحدة الوطنية، وجسدت مفردات الثقافة الإيطالية وتجلياتها الإبداعية، وأيقظت لدى الكثيرين مشاعر التقدير لشجاعة الإيطاليين وكرمهم وإقبالهم على الحياة.
وطالما أتقن الشعب الإيطالي فن الإبداع، وتحويل الفوضى والغموض إلى تعبيرات جمالية، بدءا من رواد عصر النهضة إلى الطهاة المعاصرين. وكان شعار الرومان قديما في الحياة "ما دام هناك حياة، فهناك أمل".
وكل يوم، عندما تدق الساعة السادسة في منطقتنا، نفتح النوافذ ونغني جميعا أناشيد حماسية إيطالية قديمة، تحمل بين ثناياها السعادة والأمل. ونشغل مكبرات الصوت ليتردد صدى الأغاني في أرجاء الحي، ونرقص في النوافذ ونلوح لجيراننا في الميدان.
وبعد أسبوعين فقط، أصبح الغناء في الساعة السادسة عادة يومية أساسية في حياتنا، وانتشر في مختلف أنحاء أيطاليا، كوسيلة لنشر الأمل ورفع الروح المعنوية.
وانتشرت مقاطع فيديو لجيران يغنون معا من النوافذ والشرفات النشيد الوطني في مختلف بلدات إيطاليا ومدنها. وصدحت مغنية أوبرا مؤخرا بالغناء من شرفتها في مدينة تورينو بمرافقة عازف كمان. وتداول الناس مقطعا آخر لزوجين يتراقصان في غرفة الجلوس بينما كان مشهد من فيلم استعراضي يعرض على جدار المبنى بجهاز الإسقاط الضوئي.
وانتشر مقطع فيديو للمطرب موريزيو مارتينا وهو يغني من شرفته لجيرانه في فلورنسا، ومقطع فيديو آخر لعازف بوق يعزف من وراء بوابة حديدية في شرفته، ويتجاوب معه السكان والمارة الذين يرتدون الكمامات.
وحقق مقطع فيديو آخر يظهر سكان أحد الأحياء في مدينة سيينا بإقليم توسكانا يغنون معا في الظلام الدامس أثناء الحجر الصحي، انتشارا واسعا. وكل ليلة في سيينا في تمام الساعة التاسعة يبدأ برنامج "سيينا تغني"، إذ يغني جميع سكان المدينة من نوافذهم لجمع تبرعات لطواقم الطوارئ ومستشفى سيينا.
وأطلق العزل المنزلي الإجباري مع العائلة العنان لابداعات الإيطاليين وأثبت مدى بسالتهم في مواجهة المحن. وحتى الآن، لم ينتابنا الملل قط.
ويتوجه السكان يوميا في تمام الساعة 12 ظهرا للنوافذ والشرفات للتصفيق تقديرا لجهود الفرق الطبية التي تعمل لمكافحة هذا الفيروس. وانتقلت هذه العادة، كشأن لوحات قوس قزح، من إيطاليا إلى إسبانيا وغيرها من الدول.
وابتكر الإيطاليون حلولا للتأقلم مع توقف الحياة الاجتماعية. وبينما منعهم الحجر من الذهاب للمطاعم وحفلات العشاء، فقد حافظوا على تقليد "الساعة السعيدة"، بإقامة حفلات مع الأصدقاء وأفراد العائلة واحتساء المشروبات وتناول العشاء معا عبر الإنترنت.
وبعد إغلاق المطاعم، تفجرت مواهب الإيطاليين في فنون الطهي، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالوصفات القديمة التي أعاد الإيطاليون تحت الحجر الصحي اكتشافها من جداتهم. ولاقت هذه الحركة صدى واسعا، إلى درجة أن الصحف الإيطالية طلبت من الإيطاليين إرسال وصفات وصور لأطباقهم المفضلة التي اشتهرت بها أقاليمهم لتنشرها على صفحاتها احتفاء بثراء المطبخ الإيطالي.
ودشن ماسيمو بوتورا، الذي يعد واحدا من أفضل الطهاة في العالم، برنامجا يوميا من مطبخه في مدينة مودينا على موقع إنستغرام. ويحضر بوتورا أطباقا من المكونات المتاحة في خزانة المواد الغذائية أو الثلاجة، لإبراز براعة الإيطاليين في استخدام المواد المتوفرة في المنزل بدلا من الذهاب للسوق كل يومين لشراء سلع جديدة.
ويعرض باتورا أفكارا بسيطة للطهي مع العائلة في الحجر الصحي. ويقول: "كل ما نريده هو أن نثبت للعالم أننا من الممكن أن نستمتع بأشياء بسيطة مثل طاولة طعام وبعض المكونات القليلة وتجمع العائلة".
ورغم العزلة، لم يتوان السكان عن مساعدة جيرانهم الذين يحتاجون للعون. وبحكم الترابط العائلي في المجتمع الإيطالي، تربى الشباب على سماع القصص من أجدادهم عن أهوال الحرب العالمية الثانية ومآلاتها من نقص الطعام والدمار، وغرست لديهم حس الإيثار وواجب مساعدة الغير.
ويتواصل الشباب من أبناء جيل الألفية في روما وميلانو مع كبار السن من خلال تطبيق "الجار"، ويجلبون لهم الطعام والدواء. ويتعاون أعضاء فرق رياضة "كالتشيو فيورنتينو" في فلورنسا، التي تعود جذورها لنحو 500 عام مضى، من أجل توصيل الطلبات وتسديد الفواتير والإيصالات لكل من لا يستطيع الخروج من منزله.
ولاشك أنه من الصعب أن تحافظ على رباطة جأشك في وقت يخيم فيه الغموض والحيرة على العالم بأكمله. إذ سُجلت في إيطاليا أعلى حصيلة وفيات في العالم تأثرا بفيروس كورونا حتى الآن، وأصبحت بؤرة تفشي الوباء في العالم.
وامتلأت الكنائس شمالي إيطاليا بالجثث التي تنتظر من يدفنها، ونقل الجنود جثث ضحايا فيروس كورونا في شاحنات بعد أن عجزت ثلاجات المستشفيات عن استيعابها.
وتلاحقني ابنتي بالأسئلة يوميا: متى ستتراجع حالات الإصابات؟ ومتى ستُفتح المدارس من جديد؟ وهل سيصل الوباء إلى منازلنا؟ لكني لا أجد إجابة سوى: علينا التحلي بالصبر وأن نكون على قدر المسؤولية وأن نساعد من يحتاج العون من جيراننا.
ثم أذكّر ابنتي بأن الوقت قد حان لنفتح النوافذ ونضع مكبرات الصوت ليتردد صدى أغنية "كل شيء سيكون على ما يرام" في الحي بأكمله.
فيديو قد يعجبك: