فيروس كورونا: كيف يؤدي كوفيد-19 إلى تلف خلايا الدماغ؟
لندن- (بي بي سي):
يجري فنيون أبحاثا عن فيروس كورونا المستجد في معمل في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيريس، في وقت أكدت أكثر من 300 دراسة إصابة مرضى كورونا المستجد باضطرابات عصبية
في مستهل مارس 2020، نُقل إلى قسم العناية المركزة بمستشفى جامعة ستراسبورغ شمال شرقي فرنسا بضعة مرضى، وفي غضون أيام قليلة أصيب جميع المرضى في غرفة العناية المركزة بفيروس كورونا المستجد.
لكن أبرز الأعراض التي أثارت مخاوف جولي هيلمز، الطبيبة بقسم العناية المركزة، لم تكن صعوبات التنفس فحسب، بل كان هؤلاء المرضى، بحسب وصفها، في حالة هياج شديد، وكان الكثير منهم يعانون من أعراض اضطرابات عصبية، مثل التشوش والارتباك والهذيان.
وتقول هيلمز: "اعتدنا أن نرى بعض المرضى في غرفة العناية المركزة تعتريهم نوبات انفعالية شديدة ويحتاجون لمهدئات، لكن هؤلاء المرضى كانوا في حالة هياج مرعب، لم نر لها مثيلا من قبل، وكان أكثرهم شبابا في الثلاثينيات أو الأربعينيات من العمر وكان أحدهم عمره 18 عاما".
ونشرت هيلمز وزملاؤها دراسة في دورية "نيو إنغلاند" الطبية توثق الأعراض العصبية لمرضى كورونا المستجد، التي تراوحت بين اضطرابات معرفية وتشوش وارتباك، وكلها أعراض للاعتلال الدماغي، أو تلف الدماغ. ولاحظ أيضا باحثون في ووهان نفس الأعراض لدى مرضى فيروس كورونا المستجد.
ونُشرت الآن أكثر من 300 دراسة حول العالم، تشير إلى شيوع أعراض الاضطرابات العصبية بين مرضى فيروس كورونا المستجد، بما فيها الأعراض الطفيفة مثل الصداع وفقدان حاسة الشم والوخز الخفيف، والأعراض الحادة مثل احتباس الكلام أو فقدان القدرة على النطق، والسكتة الدماغية والنوبات التشنجية.
وأشارت دراسات أيضا إلى أن الفيروس، الذي يعد تنفسيا، قد يؤدي إلى خلل في وظائف الكلى والقلب والكبد وفشل جميع أجهزة الجسم تقريبا.
وتقول طبيبة الأعصاب إليسا فوري، من مؤسسة هنري فورد بمدينة ديترويت: "بعد أن زادت حالات الإصابة بالاعتلال الدماغي، لم نعد نرى الأعراض المعتادة فحسب، بل صادفنا أيضا أعراضا غير مألوفة للمرض، وقد تظهر جميعها في آن واحد".
وتشير التقديرات حتى الآن إلى أن نحو 50 في المئة من المصابين بفيروس كورونا المستجد يعانون من اضطرابات عصبية.
لكن حتى الآن لا يمكن تحديد مدى شيوع الاضطرابات العصبية بين مرضى فيروس كورونا المستجد، فمن الصعب التعرف على الاضطراب العصبي في بدايته، وقد يصعب ربط أعراض الاضطرابات العصبية بالفيروس.
والمشكلة أن الكثير من الأشخاص الذي أصيبوا بفيروس كورونا المستجد ولا يزالون يعانون من آثاره، لم يجروا الفحوص اللازمة للكشف عن الفيروس، ولا سيما إن لم يصابوا بالسعال أو الحمى. وقد يعاني هؤلاء من أعراض عصبية، ولن ينتبه أحد إلى أنها ناتجة عن الفيروس.
ويقول روبرت ستيفنز، أستاذ التخدير المساعد بكلية الطب بجامعة جونز هوبكنز في ولاية مريلاند، إن نسبة كبيرة من مرضى فيروس كورونا المستجد لم تظهر عليهم أي أعراض بخلاف الارتباك والتشوش، ولا يصابون بسعال أو تعب وإرهاق.
ويضيف: "نحن نواجه وباء لاضطرابات عصبية من تبعات وباء كورونا".
مرض مختلف
ومنذ بداية الجائحة، اتضح تدريجيا أن فيروس كورونا المستجد ليس سلالة أكثر ضراوة من الفيروس المسبب لنزلات البرد فحسب، بل يتميز أيضا بخصائص غريبة وأحيانا مرعبة.
ولا يسبب فيروس كورونا المستجد، على سبيل المثال، إلا أعراضا خفيفة للأطفال، لكنه أشد تأثيرا على الرجال، إذ يمثل الرجال 70 في المئة من إجمالي مرضى الفيروس الذين نقلوا إلى غرف العناية المركزة حول العالم.
وثمة لغز آخر حير الأطباء، وهو ظاهرة "نقص الأكسجين الصامت". إذ تبلغ نسبة الأكسجين في الدم لدى الشخص الطبيعي 98 في المئة، وعندما تقل عن 85 في المئة تؤدي إلى فقدان الوعي والغيبوبة أو حتى الموت. لكن العجيب أن الكثير من مرضى فيروس كورونا المستجد كانت نسبة الأكسجين لديهم أقل من 70 في المئة أو حتى 60 في المئة، ومع ذلك كانوا في كامل وعيهم ولم تتأثر وظائفهم المعرفية.
وعلى عكس الفيروسات الأخرى، هناك نسبة كبيرة من المصابين بفيروس كورونا المستجد لا تظهر عليهم أي أعراض. وأشارت دراسة من أيسلندا إلى أن 50 في المئة من السكان الحاملين للفيروس لم تظهر عليهم أعراض.
وبينما يتعافى 80 في المئة من مرضى فيروس كورونا المستجد من المرض بسهولة، فإن نسبة طفيفة من المرضى تتدهور حالتهم ويموتون في غضون أيام من أثر صعوبات التنفس أو فشل أجهزة الجسم المتعددة، ولم يكن جميع هؤلاء المرضى من كبار السن أو يعانون من أمراض أخرى مزمنة.
ويقول ستيفنز إن هذا المرض، كما اتضح على مدى الشهرين الماضيين، يتفاوت تأثيره على المرضى، من حيث شدة الأعراض، تفاوتا شاسعا. فقد يموت بعضهم من الفشل التنفسي أو الفشل الكلوي أو الجلطات أو الفشل الكبدي أو اضطرابات عصبية. وقد يتعافى بعضهم بعد يومين أو ثلاثة من دخول غرفة العناية المركزة، بينما يتلقى آخرون العلاج في المستشفى منذ شهور.
ويلفت ستيفنز أيضا إلى أن مرضى فيروس كورونا المستجد أقل استجابة للعقاقير، إلى حد أنهم قد يحتاجون لجرعات من المسكنات أكبر بخمس أو عشر مرات من الجرعات التي يكتبها الأطباء عادة للمرضى.
وعلى الرغم من أن الباحثين يدرسون هذا الفيروس وضحاياه منذ ستة أشهر، وينشرون دراسات علمية عن المرض بوتيرة غير مسبوقة، لا تزال هناك أسئلة عديدة لم نجد لها إجابات بعد، ولعل آخرها مدى تأثيره على الدماغ.
تأثير الفيروس على الدماغ
يرى معظم الباحثين أن تأثير الفيروس على الجهاز العصبي يعود إما إلى نقص الأكسجين في الدماغ أو إلى الاستجابة المناعية المفرطة، أو ما يسمى بـ "عاصفة السيتوكين"، التي تلعب دورا مهما في الاستجابة المناعية العادية.
لكن أدلة جديدة ظهرت تدل على أن الفيروس يغزو الدماغ نفسه. ويقول ستيفنز إن هناك الكثير من التقارير التي نشرت مؤخرا تؤكد أن فيروس كورونا المستجد يمكنه اختراق الحاجز الدموي الدماغي.
وأشار باحثون من اليابان إلى حالة مريض عثر عليه فاقدا للوعي بعد أن تقيأ كثيرا، وأصيب بعدة نوبات تشنجية أثناء نقله للمستشفى. وكشفت صور الرنين المغناطيسي عن إصابته بالحمى الشوكية (التهاب السحايا) الفيروسية، وبتحليل السائل الدماغي النخاعي، اكتشفت آثار فيروس كورونا المستجد.
ورصد باحثون صينيون آثار الفيروس في السائل الدماغي النخاعي لمريض عمره 56 عاما كان يعاني من التهاب شديد في الدماغ. وفي إيطاليا، اكتشف باحثون بعد تشريح جثة أحد ضحايا فيروس كورونا المستجد وجود جسيمات فيروسية في الخلايا المبطنة للأوعية الدموية للدماغ.
وقد دعا ذلك بعض العلماء للاعتقاد أن الفيروس يسبب الفشل التنفسي والموت لا بسبب تلف الرئتين، بل بسبب تلف جذع الدماغ، أي مركز التحكم الذي يضمن أننا لا نتوقف عن التنفس حتى لو فقدنا الوعي.
ويتكون الحاجز الدموي الدماغي، الذي يحمي الدماغ عادة من الأمراض المعدية، من خلايا خاصة تبطن الأوعية الدموية في الدماغ والنخاع الشوكي. ويحول هذا الحاجز دون دخول الجراثيم وغيرها من المواد السامة إلى الدماغ.
وإذا اخترق فيروس كورونا المستجد هذا الحاجز، فإنه لن يدخل إلى الجهاز العصبي المركزي فحسب، بل أيضا قد يمكث فيه، ويعاود الظهور بعد سنوات.
وهذا النمط ليس غريبا بين الفيروسات، إذ أن فيروس فاريسيلا زوستر الذي يسبب الجدري المائي للأطفال، على سبيل المثال، قد يعاود الظهور في مرحلة البلوغ في صورة الهربس النطاقي أو الحزام الناري.
وقد تسببت فيروسات أخرى في تبعات جسيمة طويلة الأمد، كان أشهرها فيروس الإنفلونزا الذي تحول إلى جائحة في عام 1918، واكتشف أنه تسبب في تلف الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين والجهاز العصبي المركزي.
وقد تزامن وباء الإنفلونزا الإسبانية مع انتشار مرض التهاب الدماغ النوامي الذي قدر عدد المصابين به بخمسة ملايين شخص. وظل الكثير من الناجين من المرض في حالة تشبه الحياة المعلقة، وصفوا بأنهم كانوا كالأشباح في شبه غيبوبة لعشرات السنوات، حتى اكتشف عقار ليفودوبا، الذي ساهم في رفع مستويات الدوبامين.
ويقول ديفيد نات، أستاذ علم الأدوية النفسية والعصبية بجامعة إمبريال كوليدج لندن، إنه عالج بنفسة مرضى في السبعينيات والثمانينيات كانوا يعانون من اكتئاب سريري حاد منذ انتشار جائحة الإنفلونزا في المملكة المتحدة في عام 1957.
ويصف نات حالتهم بالقول: "كأنما أغلقت جميع الدوائر المسؤولة عن الانفعالات في الدماغ". ويحذر نات من أننا قد نشهد مرة أخرى انتشار حالات الاكتئاب الحاد لكن على نطاق أوسع. وينصح بمتابعة مرضى فيروس كورونا المستجد بعد خروجهم من غرف العناية المركزة لرصد أي علامات لاضطرابات عصبية وتوفير العلاج اللازم لهم، مثل الأدوية المضادة للاكتئاب، لمنع حدوث آثار طويلة الأمد.
ويعتزم نات إجراء دراسة على 20 مريضا بفيروس كورونا المستجد أصيبوا بأعراض الاكتئاب أو غيره من الأمراض النفسية العصبية للبحث عن علامات التهاب الدماغ أو اختلال مستويات النواقل العصبية، كالسيروتونين.
ويستعد ستيفنز أيضا لإجراء دراسة على مرضى فيروس كورونا المستجد الذين خرجوا من غرف العناية المركزة باستخدام أجهزة مسح الدماغ لاختبار الوظائف المعرفية.
وتتعاون شيري شو، طبيبة أعصاب من جامعة بيتسبرغ، مع علماء من 17 دولة لمراقبة أعراض الاضطرابات العصبية لدى مرضى كورونا المستجد باستخدام أجهزة مسح الدماغ.
وتقول شو، إن تأثير الفيروس على الجهاز العصبي قد يكون أشد ضررا وأوسع نطاقا من تأثيره على الرئتين.
ورغم أن أعراض الاضطرابات العصبية أقل شيوعا بين مرضى فيروس كورونا المستجد مقارنة بالأعراض التنفسية، تقول شو إن التعافي منها قد يستغرق وقتا أطول، مقارنة بالأمراض التي تصيب أجهزة الجسم الأخرى، وقد تؤدي إلى الإصابة بالإعاقة وربما أيضا الموت.
وفي فرنسا، اضطررنا لتأجيل حوار كان من المقرر إجراؤه مع هيلمز، بعد أن أبدت إحدى مريضات فيروس كورونا المستجد التي تعاني من اكتئاب حاد وتعب شديد منذ خروجها من المستشفى قبل شهرين، رغبتها في الانتحار، وكانت تحتاج استشارة عاجلة.
وتصف هيلمز حالة المريضة بأنها: "مرتبكة ولا يمكنها المشي، ولا تريد شيئا سوى الموت. ورغم أنها لم تتجاوز الستين من العمر فإنها قالت لي 'لقد قضى علي فيروس كورونا'، تقصد أنه قتل دماغها".
ولم تكن هذه الحالة فريدة، بل صادفت هيلمز الكثير من المرضى الذين يعانون من نفس الحالة من اليأس. لكن المشكلة الآن أن الأطباء ليس لديهم علاجات لمنع تلف الدماغ.
ورغم خطورة فشل الرئتين والكلى، يمكن وضع المرضى على أجهزة التنفس الاصطناعي أو الغسيل الكلوي، لكن لا يوجد حتى الآن أجهزة لتنقية الدم من السموم في الدماغ.
فيديو قد يعجبك: