آيا صوفيا: إعراب الماضي والحاضر والمستقبل في سطر واحد
أنقرة- (بي بي سي):
قد تكون القصة أبعد بكثير من قرار تحويل كنيسة أو متحف لجامع. فالقرار جزء من استراتيجية بعيدة المدى لم تنطلق اليوم، وهي نتيجة تحول في الخيارات السياسية والاستراتيجية على مدى العقود الماضية، ونتيجة نقاش فكري تركي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية واستمر على مدى القرن الماضي.
فماذا تريد تركيا من نفسها وأي وجه تريد أن تلبس، الغرب أم الشرق؟ هذا هو السؤال. لكن يبدو أن إردوغان حسم أمره وقرر إقفال هذا الباب.
أزمة الجغرافيا والهوية
كثيرة هي القرى والمدن الحدودية التي تعاني أزمة انتماء، فهي بعيدة عن المركز في الدولة الأم ولكنها تملك قواسم مشتركة مع قرى الدول المجاورة.
هذا الواقع ينطبق على الدول أحيانا، فلطالما وقف الكتاب والمفكرون الأتراك على ضفاف مضيق البوسفور الذي يفصل آسيا عن أوروبا وطرحوا السؤال: إلى أين يجب أن ننظر إلى الشرق أم الغرب؟
وكُثر هم الساسة والمفكرون الأتراك الذي كتبوا عن أزمة الهوية التركية. فالسلطنة العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا وشمال إفريقيا على مدى نحو 400 سنة أنشأت خلافة إسلامية تصلي بالنص القرآني العربي وتتحدث بلغة عثمانية تكتب بحروف عربية وفارسية وتحاول نشر ثقافة غريبة عن عدد من دول المنطقة. وهذه معادلة معقدة قد نحتاج إلى قراءتها أكثر من مرة كي نفهمها ولكنها تختصر كل الحكاية.
وشكلت العلمنة التي أرسى جذورها مصطفى كمال أتاتورك محاولة لوضع أسس لنظام مستقر متصالح مع محيطه ويدير ظهره إلى تاريخ جلب إلى هذه الأمة الكثير من عدم الاستقرار والاضطرابات، كما ظن عدد كبير من المفكرين. وكانت معاهدة لوزان عام 1923 نقطة انطلاق لفتح صفحة جديدة تصالح تركيا مع أوروبا ومع جاراتها تحت شعار الجمهورية الجديدة وذلك بعد اللبس الناتج عن معاهدة سيفر 1920 التي قلصت حدود الدولة التركية القائمة على أنقاض السلطنة.
ومنذ ذلك التاريخ تخوض تركيا معركة ثقافية مع نفسها جعلتها تركز كل طاقاتها ومناحي التطور فيها باتجاه داخلي وضمن دائرة ضيقة. فتحدي العلمنة شكل نقطة محورية للحركة السياسية في الجمهورية التركية وأدى برأي كثيرين إلى قطيعة مع الإسلام وإرث الإمبراطورية العثمانية، وأعاد تعريف الهوية التركية المعاصرة على قاعدة الأفكار القومية والعلمانية.
لكن هذا التحول لم يحسم مسألة الخيارات القومية والدينية بشكل واضح، ومن هنا كان دور الجيش حاسما في حماية النظام الجديد ونجح إلى حد بعيد في السيطرة على محاولات التغيير التي كانت تقع من وقت لآخر في شكل انقلابات. فكان الجيش الحامي الأساسي لإرث أتاتورك والعلمنة ونجح في كسب ثقة الغرب الذي كان يخوض حربا باردة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. ونجحت تركيا في دورها كخط دفاع أول عن حلف شمال الأطلسي ومنحت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية أساسية في إنجرليك وتعاونا أمنيا وعسكريا مع إسرائيل.
لكن ذلك كان موضع تساؤل وانتقادات من قبل عدد من الخبراء والسياسيين الأتراك الذين رأوا أن كل الاستراتيجيات التي ترسمها وتتبعها القيادة العسكرية تشكل جزءا من استراتيجيات الآخرين وقد لا تلتقي بالضرورة مع المصالح التركية بعيدة المدى.
ي كتابه "العمق الاستراتيجي" ركز وزير الخارجية السابق، أحمد داود أوغلو، على هذه المسألة وشرحها في بعدها التاريخي: "لا يمكن لتركيا، الدولة التي ظهرت على الأرضية التاريخية والجيوسياسية للدولة العثمانية، والتي كان لها نصيب الأسد من ميراثها، أن تقصر مجال تخطيطها أو تفكيرها الدفاعي داخل حدودها القانونية فحسب. ويفرض هذا الإرث التاريخي الذي تملكه تركيا ضرورة التدخل وفي أي وقت، في قضايا متعددة خارج حدودها".
ورغم الخلاف السياسي القائم الآن بين داود أوغلو والرئيس رجب طيب إردوغان فهناك تقارب واضح بين هذه المقاربة وما يحصل الآن على الأرض يؤكد أن أنقرة بدأت في الأعوام الماضية البحث عن مصالحها بعيدا وخارج حدودها.
الأهداف البعيدة
كانت تركيا جادة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لما كان سيوفره لها من إطار سياسي ثابت وواضح، ينطلق من مصلحة الاقتصاد ويذهب بعيدا في حسم مسألة الهوية القومية للجمهورية التركية.
لكنّ سقوط هذا الخيار أظهر للبعض أنه ربما كان سباحة في عكس تيار الهوية الحقيقية للشعب التركي ولإرثه الثقافي. فنسبة الرافضين للانضمام الى الاتحاد الأوروبي كانت ترتفع سنة بعد سنة وكانت تتقاطع مع كثير من الأزمات السياسية الداخلية التي دفعت الناخبين إلى البحث عن خيارات جديدة.
من هنا كان قرار إردوغان بالمضي في خط يعرفه جيدا، يضرب عميقا في الدور الذي لعبته تركيا في الإطار التاريخي والديني للمنطقة المحيطة ويسمح أيضا بالانتقال الى رقعة تحرك أوسع من منطلقات دينية.
فتركيز الاستراتيجية التركية الجديدة على الريادة الدينية مسألة وجدت لها كثيرا من المصفقين في منطقة تواجه تحديات وانقسامات على كل المستويات. والخطوة الأولى كانت رعاية خط سياسي إسلامي تاريخي في المنطقة يفتح لتركيا الباب واسعا للعبور الى قضايا المنطقة من زوايا كثيرة، كما يتيح له منافسة ومواجهة المرجعيات الاسلامية مثل مصر والمملكة العربية السعودية. طبعا المقصود هنا حركة الإخوان المسلمين التي تخوض مواجهة مفتوحة مع هذه المرجعيات وتتخذ من عدد من دول المنطقة منصات انطلاق لحركتها، وفي مقدمها تركيا.
التحول التدريجي
عمل إردوغان على التغيير ببطء وبحذر. ففي الماضي وفي عدد من المناسبات، بدا كأنه لا يعارض جوهر العلمانية من زاوية الفصلً بين الدين والدولة، منطلقا في الوقت نفسه من فلسفة ترى أن البشر لا يمكن أن يكونوا علمانيين، ومركزا على أن الناس يجب أن يمنحوا حرية الممارسات الدينية التي يرونها مناسبة.
لكن إردوغان اليوم مختلف ويبدو من خلال كثير من المؤشرات، وليس آخرها قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد والدخول على خط الصراع في ليبيا، أنه مؤمن أكثر بأن دور تركيا المستقبلي لا بد أن يرتكز إلى تحقيق موقع قيادي وقوي في العالم الإسلامي. فذلك سيعطيه مساحة استراتيجية أوسع والظروف الإقليمية الآن مناسبة أكثر من أي وقت مضى للتركيز على هذه النواحي.
وهكذا فإن قضية آية صوفيا ليست مجرد نزاع على بناء تاريخي وهل يحق له أم لا، فهذا القرار يتخطى هذا النقاش بمسافات ويهدف إلى تثبيت الوجهة وإبرام صك انفصال مع الخيارات الماضية وتأكيد للنهج الذي بدأ منذ سنوات وتتكشف فصوله في دول المنطقة.
فيديو قد يعجبك: