شهادات من قلب الموصل المُحررة من داعش
بعد مُضي أكثر من ثلاث أعوام على تحرير مدينة الموصل العراقية من أيدي تنظيم داعش، تحدث أهالي المدينة مع منظمة أطباء بلا حدود عن ذكرياتهم وما عاشوه من أحداث صعبة وأليمة بعد استيلاء التنظيم الإرهابي على مدينتهم، ومن ثم تحريرها من براثن الإرهاب.
"العمود الفقري"
يتمنى محمد غانم ذو الأربعين عاماً لو أنه يعود بالزمن إلى الوراء كي يعيش عمر الشباب للمرة الأولى. فقد رمت الحياة ثقلها على كاهله في الحادية عشرة من عمره عندما أصاب المرض أباه واضطرّ لترك الدراسة وإعالة إخوته وأخواته السبعة. اتّخذ من حبه لاستكشاف التوصيلات الكهربائية مهنةً، وأصبح مع الوقت كهربائياً ماهراً. "كنتُ أودّ أن أتابع دراستي لأصبح طبيباً وربما أتخصص في الجراحة. لكنّي أصبحتُ طبيباً للكهرباء"، يقولها محمد ثم ترتسم الضحكة على وجهه.
يعمل محمد اليوم كعامل صيانة في الفريق اللوجستيّ في مستشفى نابلس الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود في الجانب الأيمن من الموصل. لكنها ليست وظيفته الأولى مع المنظمة، بل عمل في ما مجموعه تسعة مشاريع لها في الموصل منذ عام 2017. "عندما تقدّمت للعمل مع أطباء بلا حدود كان هدفي أن أجد مصدر رزقٍ طبعاً، لكنني اخترتُ البقاء مع المنظمة لأنني أتلقى الدعم والتقدير من فريق العمل، وذلك يشعرني أنّ وجودي مهمٌ لعمل أطباء بلا حدود".
إنّ أولى محفزات عمل محمد هي مساعدة الناس التي تبعث في نفسه فرحاً لا يوصف، فمن خلال إصلاحه عطلاً كهربائياً في المستشفى يضمن استمرارية عمل الأقسام، وبالتالي توفّر الرعاية الطبية لمن يحتاجها. يقول "صحيحٌ أنّ الفريق الطبيّ هو واجهة المستشفى، إلّا أنّ الفريق اللوجستيّ هو بمثابة العمود الفقريّ للأنشطة الطبية. فمن خلال عملي أقدم الخدمة مباشرةً للناس، ولذا سأفعل ما بوسعي دوماً لإنجاح المشروع".
وعندما يجد نفسه أمام ضائقةٍ أو مشكلة، يركب في سيارته ويقودها دون وجهةٍ محددة، فيغذّي بذلك حبّه للاستكشاف وسعيه لإيجاد الراحة النفسية. يعمد محمد إلى النأي بنفسه عن كلّ ما قد يشتت تركيزه، فيجلس وحيداً على ضفاف النهر ويفكّر ملياً في الحلول والقرارات. فعلى حدّ قوله، "أكثر ما يحتاجه الإنسان هو شيء من الهدوء في هذه الحياة الصاخبة والمتسارعة".
ثم يعود محمد إلى بيته مفعماً بالحيوية، يساعد أطفاله الستة في إتمام واجباتهم المدرسية ثمّ يلعب معهم ويمازحهم. يجلس بعد ذلك مع زوجته ليخبرها عن مجريات يومه ويسألها عن يومها. "أسعى دائماً أن أكون حسن المزاج مع أطفالي، ولا أدعهم يرون مني أي انزعاج أو غضب. أحبّ عائلتي حباً كبيراً، يهمّني كثيراً أن أراهم سعداء دائماً، وأتمنى أن أمنحهم مستقبلاً أفضل".
" الموصل هي حياتي"
في غرفة طوارئ مستشفى أطباء بلا حدود الميداني في حمام العليل امرأةٌ تجهش بالبكاء ما أن استعادت وعيها. تبدو كأنها تحاول الكلام، لكنّ لسانها لا يطاوعها من فرط الحزن. إلى جانبها تنتظر الطبيبة "هانا" والمترجم صهيب ماجد كي يستمعا إليها ويواسيانها، وبعد عشرة دقائق من اللوعة، قالت لصهيب، "ابني الذي توفي يشبهك بالضبط. اسمح لي أن أحضنك".
يتذكر صهيب المشهد وكأنه حصل البارحة، مع أنه مضى عليه أكثر من عامين. خسرت هذه الامرأة ابنها الوحيد -والذي انتظرت أن تنجبه عدة أعوام- عندما أصابت منزلهم قذيفة هاون خلال معارك استعادة الحكومة العراقية السيطرة على الموصل. بات صهيب يزورها يومياً، تمسك بيده وتقبّلها، فتترك مع كلّ قبلةٍ ندبة في قلبه.
لم يترك صهيب الموصل حتى عندما لم يسعفه الأمل على حبّها. لكنّها لم تعتقه، في الغالب لأن فكرة التحرّر من حبّ المدينة لم ولن تستميل موصليَّ الهوى. يقول صهيب، "فكّرت في مغادرة المدينة، لكني لا أعتقد أني سأجد نفسي خارجها لعدة أسباب تقليدية تجذرت على اي حال. الموصل هي حياتي. وها أنا اليوم متزوج من فتاة أعشقها ، ننتظر طفلنا الأول ، ونبني لنا مملكةً بسيطة، نشيدها الوطنيّ أغنية حبّ لا نملّ سماعها".
لقد ترك كلّ ما قاساه صهيب في نفسه "أشلاء أحلام مبعثرة" كما يصفها في إحدى كتاباته، يلملمها واحدة تلو الأخرى كلّما أسرف قلمه بالتعبير. "أرى أنّ الكتابة هي تصالح مع الذات واكتشافها بسطور منمّقة، بما أنّ المنابر التي تستمع لدواخل الإنسان قليلة جداً في مجتمعنا. أنا مقتنعٌ أنّ عمق الكتابة ينبع من الشدائد، لذا فأستشفّ من لسان حالي لكي أبدع فيها".
يعمل صهيب اليوم كمساعد منسقة المشروع في مرفق الرعاية الشاملة التالية للجراحة الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود في الجانب الأيسر من الموصل. من مسؤوليات صهيب تمثيل المنظمة لدى السلطات المحلية وكتابة تقارير دورية حول التطورات الأمنية المتعلقة بأنشطة المنظمة. "أكثر ما أحبّه في عملي أنه غير تقليدي، يجمع بين حبّي للاطلاع على مختلف المستجدات في المدينة وشغفي بالكتابة، كما وطوّر من شخصيتي ومهاراتي اللغوية".
يرى صهيب أن بيئة عمله مريحة لما فيها من المهنية والموضوعية وخصوصاً في عمليات اتخاذ القرارات، ما يشجّعه على التحلّي بالمرونة عبر الاستماع لوجهات النظر المختلفة. وهو يقول، "أريد أن يذكرني الناس بأني كنتُ شخصاً مسالماً يحترم حرياتهم الشخصية، لأني أؤمن أن ذلك هو مفتاح الأمان والسلام اللذان يحتاجهما مجتمعنا".
"نافذة للمساعدة"
لم يكن من الصعب على محمد أنور أن يختار تخصصه الجامعيّ، إذ كان يطمح بأن يصبح مهندساً منذ الصغر. "أردتُ أن أجمع بين حلم الطفولة ومتطلبات سوق العمل، فاتجهتُ إلى هندسة الأجهزة الطبية التي أجد فيها احتمالاً للتجدد بهدف مجاراة التطوّر في المجال الطبيّ".
بعد أن تخرّج محمد من الكلية، لم يجد فرص العمل في مجاله داخل الموصل، ففكّر أن يغادرها، إلّا أنه مع دخول داعش المدينة فضّل البقاء بجانب أمه وأخواته على بدء تنفيذ حلمه على أرض الواقع.
بعد استعادة الحكومة العراقية السيطرة على الموصل، بدأ أهل المدينة يشهدون دخول منظمات إنسانية ويتناقلون أخبار الوظائف الشاغرة في فرقها. أصبح محمد يتحقق من إعلانات الوظائف مع المنظمات على موقع إلكتروني مخصص لذلك، حتى لفتت انتباهه وظيفةٌ كانت من نصيبه. يعمل محمد منذ 3 سنوات كمشرف الأجهزة الطبية في مرافق الرعاية الشاملة التالية للجراحة الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود في الجانب الأيسر من الموصل.
يرى محمد أن ديمومة الأنشطة الطبية في المشروع تتوقف على حسن عمل الأجهزة الطبية، ما يشعره بأهمية عمله، لذا فيلتزم بخطة لصيانة جميع الاجهزة دورياً. لكنّ حبّه لعمله ينبع من جانبٍ آخر، فكما يشرح، " أحاول دائماً أن أساعد الآخرين قدر استطاعتي، لكن بعد المعارك ارتفعت احتياجات الناس في الموصل عن طاقاتنا الفردية للمساعدة. أعتقد أنّ عملي مع أطباء بلا حدود هو نافذتي لأساعد أكبر عدد من الناس".
محمد شخص اجتماعيّ بطبيعته، ويظهر ذلك في حياته المهنية والشخصية. يسعى لقضاء الوقت مع الأحبّة من الأقارب والأصدقاء، لأنه يجد في التجمعات الكبيرة فرحاً يعني له استمرارية الحياة على الرغم من كلّ ما مضى.
"أحبّ مدينتي الموصل، ولا أفكّر حالياً في أن أتركها. لكنّ واقعنا في هذه البقعة من الأرض غير ملموس، ولا يمكن أن نعرف ما يخبّئه لنا المستقبل".
"حادث أليم"
يتذكر معمّر الحيالي حادثاً أليماً في الموصل مضى عليه ثمانية أعوام، عندما وقع انفجارٌ قرب مطعم مزدحم أودى بحياة العشرات وأصيب على إثره عدد كبير من الناس، كان أخو زوجته واحداً منهم. بينما أصيب هو بثلاث شظايا في بطنه ونزف كثيراً، ولكنه أُسعف إلى المستشفى قبل فوات الأوان.
يتمنّى معمّر لو أنه درس الطبّ كي يساهم في إنقاذ حياة الناس، لكنّ ظروفه لم تسمح بذلك، يقول، لأطباء بلا حدود، "كان عليّ أن أجد مصدراً للرزق منذ مرحلة المراهقة، فكنتُ أدرس وأعمل في الوقت نفسه ولم أقدر أن أصبح طبيباً كما تمنيت. لم تعطنا الحياة فرصة أن نأخذ ما نريده".
ومع دخول تنظيم داعش الموصل، اضطرّ معمّر لمغادرة المدينة مع زوجته وأطفاله الأربعة، لكنّ حياته لم تكن سهلة خارجها، فتوجّب عليه بناء حياة من الصفر بينما كان مشغول البال على أقاربه في الموصل. وفي عام 2015، عمل في الفريق اللوجستيّ مع منظمة طبية في السليمانية لمدة عامين، لكنّ حبّه للموصل لم يخفت يوماً. "كان في أحد الأسواق رسمٌ جداريّ لطيور مهاجرة كُتب بجانبها عبارة: سنرجع في يومٍ ما. كلّما نظرتُ إليها زاد حنيني للموصل، إلى أن قررت العودة لمساعدة أهل مدينتي في أعقاب معارك استعادة السيطرة عليها".
يعمل معمّر اليوم كمسؤول السائقين في مرافق الرعاية الشاملة التالية للجراحة الذي تديره منظمة أطباء بلا حدود في الجانب الأيسر من الموصل. ينسّق تحركات سيارات المنظمة ومواعيدها، ويدير فريقاً من نحو 15 سائقٍ يعتبرهم أقرب لإخوةٍ أو أصدقاء، يمضي معهم كلّ صباح، قبل أن يذهب كلٌّ منهم إلى عمله.
يعتبر معمّر أن ثمرة عمله هو تحسّن المريض، لذا فينفّذ مهامه بخالصٍ من التفاني. يسعى إلى إخبار الناس حول الخدمات التي يقدمها مرفق المنظمة كي يستفيد منها مَن يحتاجها، كأحد معارفه الذي تعرّض لحادث سيرٍ وكانت رجله المصابة معرّضة للبتر، لكن أجرى له فريق أطباء بلا حدود العملية الجراحية اللازمة وتمكّن من إنقاذها. ويقول معمّر، "أكثر ما يحفّزني ويجعلني أحبّ عملي هو فرح المرضى بتحسّن حالهم، فنحن نرافقهم في رحلتهم نحو التعافي وننسى التعب عندما نراهم يمشون من جديد".
يملك معمّر مزرعة صغيرة في الموصل ورثها عن جدّه، يزورها يومياً للاهتمام بالأشجار والنباتات فيها، لكنّه لا يملك الوقت الكافي للتفرّغ لها. "أحلم أن أوسّع مزرع جدي عبر زراعة الخضار والفاكهة وتربية الماشية، فتصبح مكاناً تجتمع فيه العائلة ويلعب فيه أولادي وأولاد إخوتي. ربما يتحقّق الحلم يوماً ما".
فيديو قد يعجبك: