اللاجئون السوريون: كيف أصبحت ويلز البريطانية موطنا جديدا لأسرة فرت من الحرب؟
لندن- (بي بي سي):
لم يكد خالد موها يصدق أن منزل الأحلام الذي استغرق بناؤه 15 عاما طُمس تماما بفعل هجوم صاروخي بعد مرور شهرين فقط على استكمال تشييده.
تلى ذلك خمس سنوات عصيبة قضاها هو وأسرته في مخيم للاجئين السوريين في العراق، ثم رحلة قطعوا خلاها 3000 ميل صوب حياة جديدة مجهولة في مكان ما بالمملكة المتحدة.
وفي أعقاب رحلة استغرقت ثلاث ساعات على متن حافلة صغيرة بعد الوصول إلى بريطانيا، وجدت الأسرة نفسها أمام منزل مكون من ثلاث غرف في غرب ويلز. وبعد مرور أربع سنوات، تفخر الأسرة باعتبار ويلز وطنها الجديد.
يجد خالد وزوجته فاطمة، وهما أبوان لثلاثة أبناء، صعوبة بالغة في متابعة المشاهد المؤلمة للاجئين الفارين من أوكرانيا، لأنهما كانا في نفس الموقف قبل عشر سنوات - خلال حرب مختلفة - وكانت الأسرة تتوق إلى الوصول إلى بر الأمان بعيدا عن وابل القنابل المتساقط حولها.
فبعد أن أنهكتها المعاناة على مدى عقد من الزمان، من الممكن تفهم رغبة الأسرة في أن تستمتع أخيرا بحياة هادئة في مقاطعة كمارذينشير بويلز.
ولكن بعد فراره من الحرب الأهلية السورية، يشعر خالد البالغ من العمر 47 عاما بالامتنان لحصوله على فرصة للبدء من جديد، ويرغب في تعويض ما فاته من وقت.
لم يكن أي من أفراد الأسرة يتحدث الإنكليزية عندما وصلوا إلى المملكة المتحدة عام 2018، ولكن بينما يذهب أولادهم الثلاثة إلى المدارس، يتلقى خالد وفاطمة دروسا في اللغة ويتطوعان للعمل في متجر تابع لمؤسسة أوكسفام الخيرية.
لكن خالد - وهو مدرس ابتدائي - لا يريد الاكتفاء بذلك، بل يرغب في أن يتدرب ليصبح ممرضا في كمارذينشير لكي يرد الجميل للمجتمع الذي رحب به وبأسرته.
يقول خالد ببطء، بينما يحاول استخدام الكلمات الصحيحة بلغة لا يزال يحاول أن يتعلمها: "إننا بحاجة إلى البقاء في ويلز. أهل ويلز أناس هادئون وودودون للغاية ونحن مرتاحون هنا جدا".
ويضيف: "مستوى المدارس مرتفع جدا، والمدرسون ممتازون. بالنسبة لي، أعتقد أنه مكان جيد".
ومع استعداد المملكة المتحدة لاستقبال لاجئين فارين من أوكرانيا، استرجعت الأسرة الكثير من الذكريات. كما أنها تحرص على إظهار كيف أن مجتمعا متحابا بإمكانه أن يساعد الناس خلال الأزمات، وأيضا كيف يستطيع اللاجئون إثراء المجتمعات التي يعيشون فيها.
المنزل الذي استأجره المجلس المحلي للأسرة في غاية النظافة والترتيب، وبمجرد عودة الأبناء من مدارسهم، تقدم لهم فاطمة الشاي وما أعدته في مطبخها من بقلاوة وهريسة.
تستطيع الآن أسرة خالد أن تستمتع بتناول الشاي في سلام
أحلام المنزل دمرت في دمشق
ينحدر خالد من المنطقة ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا، وقد انتقل إلى دمشق في التسعينيات للدراسة والعمل.
لم يكن ثريا، ولكنه كان يعمل في عدة وظائف ليتمكن من إعالة أسرته المتنامية.صدر الصورة، GETTY IMAGES
كان خالد يعمل بالأساس في الفلاحة، حيث كان يزرع أشجار التفاح والزيتون وغيرها. كما عمل مدرسا في إحدى المدارس الابتدائية في المدينة.
لكن خالد كان يحلم بحياة أفضل. بعد أن تزوج فاطمة، التحق بكلية الحقوق بجامعة دمشق كأحد الطلبة الأكبر سنا ودرس لأربعة أعوام قبل تفجر الحرب.
أنفق المال الذي كسبه بشق الأنفس على بناء منزل على قطعة أرض، وكان يأمل أن يصبح ذلك المنزل بيتا له ولزوجته وأبنائه لسنوات عديدة.
كلفه بناء المنزل 15 سنة من العمل الشاق والادخار قبل أن يصبح جاهزا للسكن.
لكن الأسرة لم تعش فيه سوى شهرين قبل أن تجبرهم الحرب إلى الفرار من المدينة، وتعرض المنزل للقصف الصاروخي والسلب. لقد فقدوا كل شيء كانوا يمتلكونه.
تحطم المنزل الذي عكفوا على بنائه لسنين طويلة، وتحطمت معه خططهم للمستقبل.
من العاصمة السورية إلى مخيم للاجئين
بعد مغادرة دمشق، توجه خالد وأسرته إلى القامشلي في المنطقة ذات الغالبية الكردية من شمال سوريا حيث نشأ.
أنفق خالد كل ما لديه من مال على بناء منزله في دمشق، ولكنه دمر في قصف صاروخي بعد شهرين من العيش فيه
لم يمكثوا هناك سوى ستة أشهر، إذ ازداد القصف كثافة، فاضطروا إلى الرحيل مرة أخرى، حيث عبروا الحدود الشرقية إلى العراق مع آلاف اللاجئين المشردين الآخرين.
أقامت حكومة كردستان العراق مخيم كوركوسك للاجئين في أربيل بشمال العراق، والذي ضم 18 ألف شخص.
عاشت أسرة موها خمسة أعوام في مخيم كوركوسك للاجئين، الذي ضم عددا من السكان مماثلا لعدد سكان بلدة أباريستويث الساحلية في ويلز
تقول فاطمة إنه كان من الصعب رعاية ثلاثة أطفال صغار في ظروف تتسم بالاكتظاظ والقذارة، حيث كانت الأسرة تعيش في خيمة من غرفة واحدة، وكانت فاطمة تقوم بالطبخ وغسيل الملابس وتغيير حفاضات الأطفال في نفس المساحة الصغيرة التي كانت الأسر تنام فيها.
كانت تخشى أيضا على سلامتهم.
تقول فاطمة البالغة من العمر 46 عاما في حوار مع بي بي سي ويلز لايف (BBC Wales Live): " عندما كنا في المخيم، كنت دائما أشعر بالقلق على أطفالي ".
تضيف: "كانوا صغارا جدا، وكنت أحرسهم طوال الوقت. كنت أطلب منهم توخي الحذر وعدم الكلام، لأننا كنا نعيش وسط ثلاثة آلاف أسرة، بعضها لطيف وودود، والبعض الآخر ليس كذلك".
يقول خالد إنهم كانوا يعيشون في بؤس هناك، رغم مساعي وكالات الإغاثة الرامية إلى توفير بعض الاحتياجات الأساسية.
"المخيم لم يكن جيدا أو نظيفا".
يتابع خالد: "حاولنا بناء مجتمع صغير مع جيراننا عن اليمين وعن اليسار. كانت حياة صعبة، وكنا نلتقي ونطبخ معا ونتحدث في كل شيء".
"كانت النساء تبكي لأنهن عندما كن يغادرن سوريا، كن يتركن كل شيء - المنزل والذكريات".
"العيش داخل خيمة لخمس سنوات كان صعبا للغاية. كان الشتاء مطيرا، وكانت مياه الأمطار تتسرب دائما إلى الخيمة".
رغم أنهم كونوا صداقات في مخيم اللاجئين، شعرت فاطمة بالسعادة عندما غادرته هي وأسرتها
"أتذكر عندما كانت تهب الرياح على المخيم في بعض الأحيان. كان شيئا فظيعا بالنسبة للأطفال، فقد كانوا يصابون بالذعر، ولم يكن للخيمة سوى عمود واحد مثبت في الأرض. كنا نحاول التشبث به لكي لا تعصف به الريح".
كانت وكالات الإغاثة تساعد في تزويد المخيم بالاحتياجات الأساسية، بما في ذلك تعليم الأطفال، رغم أن خالد يقول إن أولاده لم يتعلموا شيئا طوال السنوات الخمس التي قضوها هناك.
لكن خالد تطوع للعمل مع منظمة أطباء بلا حدود الخيرية للمساعدة في توفير الاحتياجات الطبية الأساسية.
لكن بدون إمكانية العودة إلى سوريا، ومع رغبته في ألا يمكث في المخيم أكثر مما يجب ولو ليوم واحد فقط، بدأ خالد في البحث عن خيارات الانتقال إلى بلد آخر.
رحلة إلى المجهول
لكن حتى اللحظة الأخيرة، لم يكن يعرف أن هذا البلد سيكون ويلز.
"اتصل بي أحدهم على الهاتف وسألني عن اسمي، وأسماء أفراد أسرتي، وما إذا كنت أرغب في الذهاب إلى كندا، فقلت نعم، لا مشكلة".
ظن خالد أن المستقبل كان ينتظره هناك، لكن رغم هذه المكالمة، لم يتم الاتفاق على خطط مؤكدة.
من دولة مزقتها الحرب في الشرق الأوسط إلى غرب ويلز، حيث وجدت أسرة موها موطنا جديدا في منطقة كَمارذين الريفية
ثم ظهر خيار آخر من حيث لا يحتسب.
"سألوني إذا ما كنت أرغب في السفر إلى المملكة المتحدة فقلت نعم، سأكون شاكرا".
في هذه المرة، اكتملت الخطة، وكانت عملية نقل الأسرة إلى المملكة المتحدة منظمة بدقة شديدة.
في 15 مارس عام 2018، صعدوا على متن رحلة جوية من العراق إلى بريستول، واستقبلهم مسؤولون بريطانيون في المطار واصطحبوهم في حافلة صغيرة إلى غرب ويلز.
اصطُحبت الأسرة إلى بيت مؤجر على أطراف كَمارذين حيث لا تزال تعيش إلى اليوم.
للمرة الأولى منذ سنوات شعروا بالأمان والحرية.
يقول خالد: "عندما وصلنا إلى هنا، ظننا أننا ربما سنقيم في فندق".
"لم أكن أعلم أننا سنمكث في منزل. كان ذلك شيئا جديدا بالنسبة لنا بعد قضاء خمسة أعوام في خيمة".
شعرنا بالأمان. عندما يكون لديك منزل، تشعر بالراحة، وتنام جيدا، وتستطيع أن تطبخ وتغتسل".
كانت حياة مختلفة أيما اختلاف عن الفترة التي قضتها الأسرة في مخيم اللاجئين.
تشير أحدث الأرقام إلى أن كَمارذينشير استقبلت العدد الأكبر من اللاجئين مقارنة بأي سلطة محلية أخرى في ويلز.
وتوضح بيانات وزارة الداخلية أنه في الفترة من يناير عام 2014 إلى يناير/كانون الثاني عام 2021، استقر في المملكة المتحدة 20319 شخص بموجب "برنامج إعادة توطين الفئات الضعيفة" المصمم لمساعدة اللاجئين الفارين من الحرب في سوريا.
من بين هؤلاء، أتى 1331 شخص، أي 6.6 في المئة، إلى ويلز، واستقبلت كَمارذينشير 163 لاجئا.
وساعد موظفون بالبرنامج في مدينة سوانزي الأسرة من خلال تزويدها بالمعلومات الأساسية حول أقرب المستشفيات والمدارس. لكنهم شعروا بأنهم غرباء في بلد غريب، إذ لم يكن لديهم أصدقاء أو أي دراية بالمنطقة المحيطة بهم، ولم يعرفوا الكثير من الكلمات الإنكليزية.
تعترف فاطمة بأنها كانت قلقة.
"قلت: عندما نذهب، ربما سيقول لنا الناس هناك إننا لسنا مرحبا بنا".
"لكن عندما وصلنا، كان الأمر مختلفا تماما. أتذكر أن أشخاصا جاءوا لزيارتنا. زارتنا سيدة تدعى هيلين وطلبت منا أن نتصل بها إذا احتجنا إلى أي شيء".
"لم تستطع أن تأتي كل يوم، فكانت ترسل صديقتها برونوين وزوجها لزيارتنا. قالت إنها ستأتي كل أسبوع. لقد كانت ودودة للغاية. جلبوا معهم دراجات للأطفال. وقد أصبحت الآن فردا من أفراد أسرتي".
"أقول الحمد لله أنني جئت إلى هنا".
"لم أكن أدرك ذلك عندما انتقلت إلى هنا، لأن بلدا مختلفا ولغة مختلفة شيء صعب. لكن الناس هنا لا يخافون منا. لقد أتينا إلى هنا ومدوا لنا يد العون".
يرى خالد أن التواصل مع السكان المحليين العاديين أحدث الفرق الأكبر.
يقول: "إنهم يزودوننا بالمعلومات عن كَمارذين والريف، ويعطوننا أشياء".
"يتحدثون دائما بالإنكليزية ونتعلم منهم. عندما تتحدث إلى أي شخص في الشارع، تجده ودودا وخدوما. يقول لك: مرحبا، مرحبا، ويبتسم. تستطيع أن تطلب المساعدة من أي شخص. ولهذا السبب، نشعر بالسكينة والطمأنينة".
ترى أسرة موها مستقبلها في كَمارذين، وتود في أن تبدي امتنانها للبلدة التي احتضنتها.
خالد، الذي عمقت تجربته في مخيم اللاجئين اهتمامه بالمجال الطبي، تطوع في مركز قريب للتلقيح ضد فيروس كورنا خلال فترة تفشي الوباء.
ويتطلع الزوجان إلى "مستقبل عظيم" مع أبنائهما.
تقول فاطمة: "إذا أرادوا دراسة المحاماة أو الطب أو التدريس فإن بإمكانهم ذلك".
وليد، 18 عاما، هو الابن الأكبر، ويدرس تصفيف الشعر في معهد "كوليغ سيرغار" في بلدة لينيللي، في حين يريد سَردار البالغ من العمر 15 عاما أن يصبح مهندسا، ويدرس في المدرسة الثانوية المحلية، حيث لمس اهتماما من قبل أصدقائه بمعرفة مجريات حياته.
يقول: "إنهم يرون أن حياتي صعبة جدا، إذ أنهم يشاهدون الأخبار. يقولون لي أهلا بالعربية والكردية، ويعلمونني الإنكليزية بينما أعلمهم أنا العربية والكردية".
"عندما كنت في المخيم، كانت الحياة صعبة وكنت تعيسا. وعندما جئت إلى هنا، تغيرت حياتي".
"الحياة في كَمارذين جيدة جدا. لدي جيران وأصدقاء، وآتي إلى هنا في أوقات فراغي لألعب كرة القدم معهم".
الابن الأصغر، حسن، يبلغ من العمر 11 عاما، وفي عامه الأخير بالمدرسة الابتدائية، ويلعب ضمن فريق تاوي تايغرز المحلي لكرة القدم.
يقول حسن: "لدي الكثير من الأصدقاء، ونلعب معا. الحياة هنا لطيفة جدا، فمن السهل تكوين صداقات والتحدث مع الناس".
لا يبدو أن لدى الأسرة أي شعور بالمرارة، رغم المعاناة الكبيرة التي مروا بها وشهدوها. أكثر شيء يكرره خالد هو العرفان والامتنان، والرغبة في رد الجميل لويلز، هذا البلد الذي يعتبره الآن وطنه.
يقول خالد "شكرا للحكومة وللشعب، شكرا على المعونات المالية. إنهم يساعدوننا في كل شيء. شكرا للجميع".
يقول خالد إنه قابل أسرا لاجئة أخرى في كَمارذين مرت بتجارب مماثلة لتجربة أسرته.
"عندما نتحدث، دائما ما يبدون سعداء".
"يقولون دائما إن هذا المكان يوفر حياة كريمة. وهم راضون بوظائفهم وبمدارس أبنائهم. لم أر شخصا واحدا لم تعجبه ويلز".
فيديو قد يعجبك: