روسيا والصين.. من التنافس الإقليمي إلى تعزيز العلاقات بعد اندلاع الحرب الأوكرانية
موسكو - (ا ف ب)
تتسم العلاقات الصينية-الروسية بالتعقيد رغم سعي الطرفين إلى إظهار توافقهما بخصوص الملفات الدولية الكبرى خصوصا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو وسعي الغرب إلى تطويق الصين اقتصاديا. لكن حسب مراقبين، ما هذا التوافق في الواقع سوى ذر للرماد في الأعين، حيث إن العلاقات الثنائية بين العملاقين العالميين تتسم بالتباين في عدة ملفات، من مصالحهما الاقتصادية إلى صراع النفوذ في منطقة آسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا وأيضا في القارة الأفريقية.
قال الرئيس الصيني شي جينبينغ الثلاثاء إن بلاده ستستمر في منح الأولوية للعلاقات "الاستراتيجية" مع روسيا، واصفا البلدين بأنهما "قوتان كبريان"، معبرا بذلك عن توافقه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مواجهة الغرب وسط استمرار الحرب في أوكرانيا.
ويواصل شي زيارته إلى روسيا التي بدأت الإثنين وتستمر حتى الأربعاء، وهو يعتبر بأنها تنطوي على منطق تاريخي "لأننا أكبر قوتين كبريين جارتين ونحن شريكان استراتيجيان على كل المستويات".
لكن العلاقات الصينية-الروسية التي تبدو متينة بفضل حرص الجانبين على إظهار هذا الجانب، هي معقّدة ومتناقضة حسب مراقبين سلطوا الضوء على تاريخ هذه العلاقة ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وعلى التعاون الاقتصادي بين البلدين وهو أبرز ما يجمع الحليفين الإقليميين، لكن أيضا التنافس الإقليمي بينهما خصوصا في منطقة آسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة.
موقف غير واضح حيال أوكرانيا
يرى الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي عمر الرداد بأن "العلاقات بين بكين وموسكو معقّدة، وقد شهدت تقلبات عديدة خلال العشر سنوات الماضية". ويضيف: "مع ذلك تحاول بكين استثمار الوضع الجديد الناشئ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما ترتب عنه من عقوبات دولية، إذ أن العناوين الاقتصادية واضحة جدا أنها رئيسية في العلاقات بين البلدين، وبكين هي المستفيد الأول منها وهو ما تؤكده أرقام الميزان التجاري للجانبين وخاصة في ظل التعطش الصيني لمصادر الطاقة الروسية التي أصبحت تأخذها بأسعار تفضيلية بعد توقف أوروبا عن استيراد النفط والغاز والفحم من موسكو وقد كانت المستهلك الأول لمصادر الطاقة الروسية".
ويقول الدكتور عمر الرداد إن "العنوان الاقتصادي يتأكد اليوم عبر سلسلة واسعة جدا من اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية والمشاريع الضخمة في البنى التحتية وقطاعات النفط والطاقة. الصين تدرك أن هذا لا يثير كثيرا حفيظة الغرب، وكان الأمر سيختلف لو أنها ذهبت بعيدا عبر تطوير العلاقات العسكرية وتزويد روسيا بالأسلحة. الصين لن تندفع باتجاه تزويد روسيا بالأسلحة لكن قد تزودها ببعض التكنولوجيات وبعض المواد والمصادر المرتبطة بالصناعات العسكرية كالرقائق الإلكترونية".
ويشير الرداد أن "موقف بكين معقّد وغير واضح حيال الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن بكين لا تؤيد الغزو صراحة لأن ذلك سيضعها بموقف شبيه بموقف الدول التي أيدته مثل سوريا وكوريا الشمالية. وهي لا تريد أن تظهر كقوة دولية عالمية تتطلع للقيام بأدوار مناقضة للأدوار الأمريكية بتحقيق السلام سواء بالشرق الأوسط أو آسيا أو مناطق النزاع المختلفة. تريد الصين أن تحتفظ بمسافة واضحة جدا، لذلك كانت مواقفها تجاه الحرب في أوكرانيا ناعمة ووسطية وتمكنت من الاحتفاظ -رغم علاقتها الاستراتيجية التي نمت مع موسكو- بعلاقة أيضا مع أوساط في كييف، إذ يتردد أنه يمكن الاعتماد على المبادرة الصينية لتحقيق السلام في أوكرانيا وإنهاء الحرب، لكن بإجراء تعديلات عليها وهو ما يوحي بأن هناك ضغوط أمريكية وغربية بخصوص الموقف من المبادرة الصينية".
الصين منخرطة في سياسة المحاور الإقليمية
وتابع المحلل السياسي قائلا: "هناك قضية مفصلية ومركزية فيما يتعلق بضم روسيا لأراض أوكرانية، وهو الموضوع الذي تتطلع له الصين من زاوية قضيتها الداخلية والخاصة مع تايوان، إذ أنه رغم الاعتراف الدولي بكون تايوان جزءا من الفضاء الصيني ومن جمهورية الصين الشعبية، فإن هذا النظام المستقل لا تزال الصين تطرح استعادته وإعادته إلى الوطن الأم، وإذا ما نجحت فإن أي اتفاق سلام بين أوكرانيا وروسيا على قاعدة الاعتراف بالوضع القائم الحالي، وهو ضم روسيا لمقاطعات في شرق أوكرانيا، كل ذلك أعتقد أنه سيؤسس ويفتح شهية الصين ودول كثيرة في العالم لمزيد من النزاعات، إذ أن الصين تتطلع إلى هذه النقطة باهتمام كبير جدا وحتى إن مبادرتها للسلام أعتقد أنها تضمنت شيئا من هذا القبيل".
وأوضح الخبير الاستراتيجي أيضا بأن "الصين عمليا منخرطة في سياسة المحاور الإقليمية وإن كان بطريقة ناعمة عبر عناوين اقتصادية يبدو أنها الأكثر حضورا مقارنة بالعناوين السياسية والعسكرية. لكن دخولها على خط الأزمة الأوكرانية بوساطة وكذلك في الشرق الأوسط بين إيران والسعودية، وربما تطرح قريبا مبادرة جديدة بخصوص القضية الفلسطينية. كل هذا الدخول بهذه المحاور والقضايا الشائكة يظهر أن الصين بالفعل تطرح نفسها كقوة دولية موازية للولايات المتحدة، ليس ذلك فحسب، بل إن مبادراتها تتضمن طرح السلام في مناطق النزاعات ومحاولة تقريب المواقف ووجهات النظر المتناقضة، تدرك أنها بهذا الطرح تقدم بديلا موضوعيا لطروحات واشنطن التي تُتهم على الأقل من بكين وموسكو بأنها تزيد من التوتر في بؤر النزاع. هناك أيضا تنافس محموم في القارة الأفريقية حيث تقدم الصين نفسها باعتبارها وسيطا نزيها وقادرا على التوفيق بين الفرقاء والخصوم في مختلف المناطق".
الجمهوريات السوفياتية سابقا ميدان للصراع القادم
وقال الرداد أيضا: "ستكون آسيا الوسطى وتحديدا الجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقا أحد ميادين الصراع القادم. فقبل الحرب الأوكرانية يجب أن نتذكر بأن روسيا كانت بوضع تنافس فيه بكين وواشنطن في آن معا انطلاقا من مقاربة روسية تقول إن هذه الجمهوريات هي جزء من تركة الاتحاد السوفياتي وأنها مناطق نفوذ روسية خالصة، كانت تحاول تبعا للتطورات السياسية أن تقدم تنازلات هنا لبكين وتنازلات أخرى ربما لواشنطن وسط ظهور مناطق تنافس مختلفة. لكن بعد الحرب في أوكرانيا والضغوط التي تتعرض لها موسكو بشكل حاد جدا، أعتقد أن موسكو الآن مجبرة أن تقدم تنازلات لبكين في نفوذها بهذه الدول لإفشال الخطة الأمريكية التي تستهدف حصار روسيا والصين عبر هذه الجمهوريات من خلال عقد تحالفات مع بعض القيادات السياسية فيها. هذا التحول تدركه بكين وواشنطن وسيكون من نتائج الحرب في أوكرانيا تعزيز أدوار جديدة للصين. ستسعى موسكو أيضا للضغط على تلك الجمهوريات نحو مزيد من التعاون مع بكين لكن مع محاولة ألا تكون بعيدة عما يتم الاتفاق عليه، والضغط باتجاه الحصول على مكاسب عبر أي اتفاقات قادمة بما فيها طريق الحرير أو المشاريع الصينية الكبرى التي تقترب أو تمر من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة".
من جانبه، يرى الدكتور وائل عواد وهو كاتب صحافي مختص في الشؤون الآسيوية بأن "العلاقات بين روسيا والصين تعززت منذ عام 1997 بسبب حاجة الصين إلى الطاقة التي ضمنت روسيا توفيرها عبر مشاريع اقتصادية ضخمة، واستمرت العلاقات بالنمو حتى 2014 بعد الضغوط الغربية والأمريكية حيث شهدت العلاقات نقلة نوعية عقب قيام روسيا بضم جزيرة القرم وهذا ما أعطى زخما كبيرا للعلاقات الثنائية والتي توجت بعد الحرب الروسية الأوكرانية".
صراع النفوذ في آسيا الوسطى والخلافات الحدودية
يضيف عواد: "كانت العلاقات متأزمة بين الصين والاتحاد السوفياتي سابقا وقد ورثت روسيا هذه العلاقات والخلافات وما زالت قائمة بسبب النزاع على النفوذ في دول آسيا الوسطى والخلافات الحدودية. ووقّع الجانبان على اتفاقية حسن الجوار عام 2001 وجددت عام 2021. لكن بعد تزايد الضغوط على البلدين دفعتهما الظروف السياسية إلى تجاوز الخلافات وتعزيز التعاون الاستراتيجي بينهما. وعلى الرغم من التحفظات الصينية على الحرب في أوكرانيا إلا أنها لا تريد لروسيا الخسارة أو استنزاف قدراتها العسكرية ونفوذها باعتبار أن بكين تتخوف من التحالفات الإقليمية والدولية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية لتطويق دور الصين وتحجيم نفوذها ولذلك تبحث عن تسوية سلمية بين روسيا وأوكرانيا ووقف فوري للحرب الدائرة قبل أن تتوسع رقعتها".
كما قال الكاتب الصحافي المتخصص في الشؤون الآسيوية: "لا شك أن هناك رغبة من كلا الجانبين في إيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تلعب فيه مجموعة بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون دورا كبيرا وهذا ما تكرر في الكثير من المحافل الدولية. كذلك للصين برنامجها وسياستها المستقلة في التعامل مع جميع دول العالم وفق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وتستخدم الصين سياسة القوة الناعمة التي تعمل على مد نفوذها وزيادة استثماراتها في العديد من البلدان خاصة تلك التي تقع على طول خط الحرير الذي يحاول الزعيم الصيني شي جينبينغ أن يحييه (مبادرة حزام واحد طريق واحد). ثم إن التحالفات الصينية هي اقتصادية وسياسية على عكس التحالفات الأمريكية الموجهة ضدها ولذلك فهي تغير من مذهبها العسكري لإيجاد مراكز قوة لها في العالم للحفاظ على استثماراتها وحماية مصالحها ومواطنيها".
كذلك، يرى د. وائل عواد بأن "الصراع على النفوذ قائم خصوصا في آسيا الوسطى، والصين تعزز من نفوذها هناك على الرغم من مخاوف روسيا. كما تريد الصين أن تنهي قرنا من الذل وتستعيد أراضيها مثل تايوان والنزاع مع جيرانها على جزر سبراتلي وباراسيل أو زيشا وجزر ناتولا، ومع اليابان مثل جزر سينكاكو وريوكو، ومع الهند تعتبر ولاية أروناتشال براديش أراض صينية بالإضافة إلى النزاع الحدودي في جبال الهمالايا. هناك أيضا تنافس بين القوى العظمى على النفوذ في المنطقة لغناها الطبيعي وموقعها الجيوسياسي الاستراتيجي لذلك نجد أن الولايات المتحدة والهند وروسيا والصين تتنافس لدخول أسواق هذه الدول. الهند بدورها تتخوف من التمدد الصيني على حدودها في جبال الهمالايا والتي سببت نشوب نزاعات حدودية منذ 2018 وفقدت الجارتان الثقة ببعضهما البعض وتأزمت العلاقات. أعتقد أن من أحد الأسباب الرئيسية لحياد الهند في الحرب الروسية-الأوكرانية هو تخوفها من التنين الصيني والتقارب الصيني الروسي في حال انتقلت الهند إلى المعسكر الأمريكي".
المبادرة الصينية فتحت بابا للسلام في أوكرانيا
بدورها، توضّح الصحافية الصينية سعاد ياي شين هوا بأن العلاقات بين الصين وروسيا "تقوم على أساس عدم التحالف وعدم المواجهة وعدم استهداف الطرف الثالث، كما أن العلاقة بين البلدين لا تتأثر من الأطراف الأخرى. وتجمع الصين وروسيا صداقة تقليدية، وخلال السنوات الأخيرة، شهدت هذه العلاقة تطورا متواصلا. ومن حيث التبادلات رفيعة المستوى بين الجانبين، يحافظ زعيما البلدين دائما على تواصل وثيق. ومنذ 2013، هناك نحو أربعين لقاء بين رئيسي البلدين. فقد زار الرئيس الصيني شي روسيا ثماني مرات، وهذه هي المرة التاسعة التي يزور فيها موسكو. بعد 2013، جعل الرئيس شي من روسيا مرة أخرى محطته الأولى في زياراته الخارجية بعد إعادة انتخابه كرئيس للدولة، الأمر الذي يعكس اهتمامات الصين بتطوير علاقاتها مع روسيا. ومن الناحية الاقتصادية، يحتاج النمو الاقتصادي والتجاري الثنائي بين البلدين إلى المزيد من التوافقات بشكل أكبر. بحكم أن الصين وروسيا دولتان متجاورتان. كما تتناول التبادلات والتعاون بينهما مجالات النفط والغاز الطبيعي والفحم والمنتجات الزراعية وبالإضافة إلى التجارة المتبادلة العشبية المزدهرة على حدود البلدين والتبادلات الثقافية المتنوعة والمكثفة بين الشعبين. في 2022، بلغ إجمالي حجم التجارة المتبادلة بين البلدين أكثر من 190 مليار دولار بزيادة نحو 30 بالمئة مقارنة مع ما كان الحال عليه في نفس الفترة من العام السابق. كما يعمل البلدان على توسيع تعاونهما في مجالات تقنيات الجيل الخامس والتجارة الإلكترونية العابرة للحدود والاقتصاد الرقمي والاقتصاد المنخفض الكربون وغيرها من المجالات الجديدة".
وتضيف سعاد ياي شين هوا: "على صعيد آخر، وبصفتهما عضوان دائمان بمجلس الأمن الدولي، يساهم تعزيز التعاون والتواصل بين البلدين في بناء الهيكل المتعدد الأقطاب في العالم، حيث يلتزم كل منهما بالتعددية وديمقراطية العلاقات الدولية ويعارضان سياسة القوة والهيمنة والعقوبات أحادية الجانب على دول أخرى. فمثلما أكدته بكين، فإن تصاعد التوتر العالمي يدفع الصين وروسيا إلى تعزيز علاقاتهما لضمان السلم والاستقرار الإقليميين، وحماية التوازن السياسي في نطاق العالم".
كما قالت محدثتنا: "في الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، تلتزم الصين الحياد، فهي ليست طرفا يشارك في هذا النزاع ولم تقدم مساعدات عسكرية لأي جانب من الجانبين، في المقابل فهي تبذل جهودها لدعوة الأطراف لحل الأزمة عبر الطرق الدبلوماسية، وقدمت مساعدات إنسانية إلى الشعب الأوكراني، المبادرة الصينية فتحت بابا للسلام في أوكرانيا وقدمت مقترحات لتحقيقه".
هذا المحتوى من
فيديو قد يعجبك: