من السلام إلى الاستنفار: أوروبا تُجهّز مواطنيها لخطر الحرب المحتملة
تدريبات عسكرية للناتو
وكالات
أجبرت الحرب في أوكرانيا، الأوروبيين على التخلي عن مفهوم "الأمان المطلق"، فالتقدم الذي تحرزه موسكو في ميدان المعركة، أثار مخاوف قادة القارة العجوز من مطامع روسية قد تنذر بحرب محتملة، ما دفع دولًا أوروبية إلى اتخاذ إجراءات في إطار التأهب لأي عدوان محتمل.
وعلى ضوء الأحداث المتسارعة والتوترات المتزايدة مع العدو الأزلي للأوروبيين والغرب عموما "روسيا"، بدأت نغمة جديدة تتردد في الأفق "صوت التحذير من حرب محتملة قد تصل إلى عتبات المنازل".
وفي إطار ذلك، بدأت دول أوروبا، من الشمال إلى الجنوب، في تأهيل مواطنيها لمواجهة خطر يلوح في الأفق، عبر توزيع إرشادات دقيقة وجدية، وتنظيم تدريبات لتخزين المواد الأساسية والإخلاء الجماعي.
الإجراءات التي تدعو إليها الحكومات الأوروبية، تهدف إلى تحويل أماكن مثل مرائب السيارات ومحطات المترو لملاجئ آمنة، فضلا عن التركيز على تعزيز القدرة النفسية للأفراد لتحمل الضغوط، من أجل تجهيز السكان عقليًا لمواجهة أي صراع محتمل.
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، مارك روته، أكد في كلمة ألقاها أمام خبراء الأمن في العاصمة البلجيكية بروكسل في ديسمبر الماضي، أن الوقت قد حان لتبنّي "عقلية الحرب".
وفي الوقت الراهن، يبني القادة الأوروبيون مخاوفهم على سببين رئيسيين: القلق من التقدم الذي يحرزه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا والذي قد يغريه لتوسيع نفوذه إلى أبعد من ذلك داخل التكتل الأوروبي، وكذلك الشكوك حول مدى التزام الحليف الأبرز "الولايات المتحدة" بالدفاع عن القارة، في ظل تبنّي الإدارة الأمريكية نهجًا يبدو أكثر ترددًا تجاه أمن أوروبا.
وتثير هذه الشكوك تساؤلات القادة الأوروبيين بشأن ما إذا كانت أمريكا ستتدخل عسكريا إذا تعرضت إحدى دول حلف الناتو للغزو "وفق الميثاق الخامس للحلف" الذي يعتبر أي هجوم على أحد أعضائه هجومًا على جميع الدول الأعضاء، يستوجب التدخل عسكريًا.
ومع ذلك، لا تزال أسئلة كثيرة تدور حول مدى فعالية خطط الطوارئ الأوروبية وما إذا كان مواطنو التكتل سيأخذونها على محمل جدي أم سيتجاهلونها.
إرشادات من أجل البقاء
في مارس الماضي، أصدرت المفوضية الأوروبية توجيهات لجميع المواطنين، بتخزين كميات كافية من الطعام والإمدادات الأساسية التي تكفي لمدة 72 ساعة على الأقل في حال وقوع أزمة، مؤكدة على ضرورة تعزيز ثقافة "التأهب" و"المرونة" بين الأوروبيين لمواجهة التحديات المحتملة.
واستجابة لتوجيهات المفوضية، بدأت الدول الأوروبية بوضع خططها الخاصة للتعامل مع حالات الطوارئ، بما في ذلك الصراعات المسلحة.
وفي هذا السياق، قامت الحكومة الألمانية في يونيو الماضي، بتحديث خطتها الوطنية للدفاع الشامل، إذ أصدرت إرشادات مفصلة توضح كيفية التصرف في حال اندلاع نزاع في أوروبا.
وقدّمت الوثيقة الألمانية، تصورًا يتضمن تغييرًا كليًا في حياة المواطنين الألمان اليومية في حال نشوب حرب، مع التركيز على الاستعدادات العملية لضمان السلامة.
أمّا السويد، فقد زوّدت الحكومة ملايين الأسر في نوفمبر الماضي، بكُتيّب بعنوان "في حال نشوب أزمة أو حرب"، بعدما تم تحديثه لأول مرة منذ 6 سنوات بسبب تصاعد التهديدات العسكرية.
وفي مضمون الكُتيب، تقدم الحكومة السويدية توجيهات واضحة لمواطنيها بشأن كيفية التصرف إذا اندلعت الحرب، تشمل توجيه المواطنين بالدخول إلى منازلهم، وإغلاق جميع النوافذ والأبواب، وإيقاف أنظمة التهوية إن أمكن، فضلا عن الاستماع إلى إذاعة السويد العامة، القناة (بي 4)، للاطلاع على آخر المستجدات.
لم يكتف الكُتيّب الحكومي بذلك؛ إذ يوضح أماكن الاختباء المناسبة أثناء الغارات الجوية، مثل أقبية المنازل، ومرائب السيارات، ومحطات المترو، كما حددت كيفية تعامل الأفراد في حال كانوا خارج منازلهم أو بعيدين عن الأماكن الآمنة، ناصحة إياهم بالاستلقاء على الأرض، ويفضل أن يكون ذلك في حفرة صغيرة أو خندق لحماية نفسه.
إلى جانب ذلك، تناول الكتيب نصائح خاصة للتعامل مع هجمات بأسلحة نووية، موضحا أن ملاجئ الدفاع المدني توفر أفضل حماية، وأن مستويات الإشعاع ستنخفض بشكل كبير بعد يومين فقط، فضلًا عن توجيهات حول تنظيم عمليات الإخلاء، وكيفية إيقاف النزيف في حالة الإصابات، والتعامل مع القلق النفسي، بالإضافة إلى نصائح حول كيفية شرح الأزمات والحروب للأطفال بطريقة تساعدهم على فهم الوضع دون إثارة الخوف.
بالنسبة لدولة فنلندا، لم تسبب التحذيرات الجديدة تأثيرًا كبيرًا في سياساتها المتبعة في ما يخص التعرض لهجوم عسكري، إذ يعتبر الدفاع عن سيادة البلاد ضد موسكو جزءًا لا يتجزأ من هوية البلاد منذ عقود، حيث تربطها حدود مشتركة بطول 1340 كيلومتر مع روسيا، لذا، أصبح إلزاميا على المواطنين الفنلنديين بناء ملاجئ تحت الأبنية السكنية والمكاتب.
وبعد انضمام فنلندا إلى حلف الناتو عام 2023، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، عززت الدولة استعداداتها بشكل أكبر؛ إذ أجرت الحكومة قبل عامين تقييمًا شاملًا لملاجئ الطوارئ المتاحة، وأحصت 50500 ملجأً قادرًا على إيواء 4.8 مليون شخص، من بين 5.6 مليون فنلندي، عدد سكان البلاد.
وأصدرت حكومة هلسنكي، في نوفمبر الماضي، إرشادات جديدة للأزمات تتضمن نصائح عملية بشأن كيفية الاستعداد لانقطاع الخدمات لفترات طويلة، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات، وكذلك توجيهات للتعامل مع الظواهر الجوية القاسية والصراعات العسكرية، بهدف ضمان بقاء مواطنيها آمنين ومستعدين لأي سيناريو.
هل يستجيب الأوروبيون للتحذيرات؟
لكن على الرغم من الجهود الحكومية الأوروبية لتحديث إرشادات الحماية في ظل التهديدات المحتملة، لا تزال هناك شكوك حول مدى التزام المواطنين باتباعها.
تشدد كلوديا ميجور، نائبة الرئيس الأولى للأمن عبر الأطلسي في صندوق مارشال الألماني، على ضرورة التعامل مع هذه النصائح بجدية كبيرة، موضحة ان الاستعداد لا يقتصر على مواجهة تهديد عسكري من روسيا لكنه يشمل ما أسمته بـ"المنطقة الرمادية" وهي حالة (اللا حرب واللا سِلم) تشمل أشكالًا أقل وضوحا من العدوان المباشر، مثل الحروب الهجينة.
ومع ذلك، تشير ميجور، في تصريحات لشبكة "سي إن إن" الأمريكية، إلى أن تلك الإرشادات تهدف إلى تعزيز الوعي دون إثارة الذعر بين المواطنين الأوروبيين، قائلة: "نسعى لأن يكون الناس على اطلاع بالأحداث.. لكننا لا نريدهم أن يُصابوا بالهلع".
وفي ظل هذه الإرشادات، يتباين شعور الناس بالتهديد من بلد إلى آخر؛ فدول مثل فنلندا ودول البلطيق، تملك تاريخا طويلا من التوتر مع روسيا، ما يجعل احتمال المواجهة أكثر تأصلًا في ذاكرة مواطني تلك الدول.
وخلال حرب الشتاء بين عامي 1939 و1940، خسرت فنلندا مساحات من أراضيها لصالح روسيا، فيما تعيش دول البلطيق التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفيتي بين عامي 1940 و1991، شعورًا دائمًا بالخطر الوجودي.
تقول ميجور، إن مواطني هذه الدول لديهم شهور متأصل بأن بلادهم قد تكون في خطر الاختفاء من الخريطة، ويتساءلون عن أسباب عدم شعور دول أوروبية أخرى بنفس القلق.
تضيف ميجور: "ظل الفنلنديون على وجه الخصوص، يأخذون الدفاع على محمل جدي طوال فترة الحرب الباردة؛ لذلك فإننا جميعًا نذهب إلى فنلندا لنطّلع على كيفية إدارتهم لنظام الملاجئ ومخزونهم من الأدوية ونظامهم الاحتياطي.. لقد استشفّوا من التاريخ أنه لا يمكنهم الاعتماد إلا على أنفسهم".
على النقيض من ذلك، لا يحتل التهديد الروسي مكانة متقدمة في وعي شعوب دول مثل البرتغال، إيطاليا، والمملكة المتحدة.
على سبيل المثال، يتخوف الإيطاليون بشكل أكبر من الإرهاب أو عدم الاستقرار في الدول المجاورة جنوب البحر المتوسط؛ كونها قضايا أقرب إلى واقعهم اليومي. بينما المملكة المتحدة قد تواجه صعوبة في إقناع مواطنيها بأن الحرب تمثل خطرا حقيقيا؛ فالدولة الجزرية لم تتعرض لغزو منذ عام 1066.
لكن في دول أوروبا الغربية، التي تعرضت للغزو خلال الحرب العالمية الثانية، يبدو مواطنوها أقل استعدادًا لاتباع الإرشادات الحكومية، لأن الأجيال الحالية لم تعايش تجربة مباشرة مع أحداث مشابهة.
وفي ما يخص هذه الشعوب، تتساءل ميجور عن كيفية تغيير طريقة تفكير "شعب بأكلمه.. هذا هو التحدي الأكبر".
هل خطط الحماية فعّالة؟
برغم ترويج الحكومات الاوربية لإرشادات الحماية والبقاء التي تصدرها، فإن فعاليتها لا تزال غير مُثبتة أو مؤكدة؛ إذ قُوبلت هذه الجهود في الماضي بانتقادات وسخرية.
وخلال الحرب الباردة، أطلقت الحكومة البريطانية حملة "الحماية والنجاة" بين عامي 1974 و1980، أوضحت من خلالها كيفية تعامل المواطنين تهديد نووي سوفيتي محتمل، وشملت إرشادات بشأن التعامل مع الغبار النووي، وكذلك تعليمات للأيام التالية للهجوم النووي، وخططا للبقاء على قيد الحياة.
كذلك، نشرت الحكومة البريطانية في عام 1980 كتيبا يوضح طريقة بناء ملجأ مؤقت داخل المنزل لحماية الأسر من الغبار النووي، فيما أطلقت عليه "الملجأ الداخلي"، غير أن تلك الحملة واجهت انتقادات واسعة، إذ اعتبر كثيرون النصائح غير واقعية وتعطي أملًا زائفًا في مواجهة كارثة نووية.
يوضح الباحث البريطاني تاراس يونج، مؤلف كتاب "الحرب النووية في المملكة المتحدة"، أن حملة "الحماية والنجاة" كانت مصممة في الأساس كحملة إعلامية متعددة الوسائط، لم يكن من المفترض نشرها إلى في حال اقتراب الحرب النووية فعليًا.
يُبيّن يونج، أن الحملة نُشرت بناء على طلب من رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر بعد توليها السلطة في عام 1979، إذ أمرت صحيفة "التايمز" بنشر الكتيبات. يقول الباحث البريطاني: "لذا، تم نشرها في وقت لا يوجد فيه تهديد نووي فعلي مما جعل الناس ينظرون إليها بعين ساخرة، حيث تناولتها برامج كوميدية كمادة للضحك".
يشير يونج، في تصريحات لـ"سي إن إن"، إلى أن من بين إرشادات الحكومة البريطانية آنذاك، كان طلاء النوافذ باللون الأبيض، باستخدام طلاء مستحلب مخفف لصد الحرارة الناتجة عن الانفجار النووي، "هذه الفكرة بدت غريبة للكثيرين، خاصة أن الانفجارات النووية ستحطم النوافذ على أي حال، مما جعل النصيحة تبدو غير منطقية".
رغم مرور عقود طويلة، لا يزال إقناع المواطنين يشكّل عائقا أما الحكومات الأوربية، فكيف بمقدورها أن تقنع مواطنيها أن إرشاداتها جديرة بالثقة؟، وفي وقت تواصل فيه الحكومات الأوروبية بناء الملاجئ وتحديث خططها للطوارئ، تظل التساؤلات تدور حول ما إذا كانت ستنجح في تغيير سلوك مواطنيها وتجهيزهم لمواجهة مستقبلية غير مؤكدة.
فيديو قد يعجبك: