غزة واحدة منه.. ماذا نعرف عن أثر البابا فرنسيس في الشرق الأوسط؟
ماذا نعرف عن أثر البابا فرنسيس في الشرق الأوسط؟
القاهرة- مصراوي
كانت حبريّة البابا فرنسيس، التي امتدت 12 عامًا، مثار جدل واسع في كثير من الأحيان، حيث كانت آراؤه السياسية واللاهوتية والطقسية موضوعًا لنقاشات حادة داخل الأوساط الكاثوليكية وخارجها. ويمكن القول إن حبريته عكست، بدلًا من أن تتجاوز، خطوط الصدع السياسية والاجتماعية التي تميز عصرنا. ومع ذلك، وبحكم منصبه، ظل شخصية موحِّدة وصوتًا بارزًا أثّر في الخطاب العالمي.
كثيرًا ما استخدم فرنسيس منبره العام ليعبر عن حبه العميق واهتمامه بالفقراء والمهمشين، خاصة اللاجئين والمسجونين ومن يعانون بسبب سعي الآخرين الأعمى وراء المال والسلطة. وربما يفسر هذا السبب في أن الشرق الأوسط كان حاضرًا باستمرار في ذهنه وأجندته. فقد شملت رحلاته إلى المنطقة دولًا مثل الأردن، وإسرائيل، وفلسطين، وتركيا، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والمغرب، والعراق، والبحرين.
ورغم أهمية هذه الزيارات، إلا أنها ليست ما سيشكل الإرث الدائم لفرنسيس في علاقته بالمنطقة.
سيُذكر البابا فرنسيس في الشرق الأوسط بالدرجة الأولى لتضامنه الخاص والعام مع سكان غزة. فبعد وفاته، وصف الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا — المكلّف من روما بتمثيل وخدمة الكنيسة في كل من إسرائيل وفلسطين (وكذلك الأردن) — غزة بأنها "واحدة من رموز حبريته".
فمنذ 7 أكتوبر 2023، وحتى عندما كان مريضًا بشدة في المستشفى، اعتاد البابا الاتصال كل ليلة تقريبًا بكنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في مدينة غزة للاطمئنان على الرعية وجيرانهم. وقال جورج أنطون، المتحدث باسم الرعية الكاثوليكية الوحيدة في غزة، لإذاعة NPR الأمريكية: "كان يسألنا: كيف حالكم؟ ماذا أكلتم؟ هل لديكم ماء نظيف؟ هل أُصيب أحد؟" وأضاف: "لم تكن اتصالات دبلوماسية أو واجبًا بروتوكوليًا، بل كانت أسئلة يطرحها أب على أبنائه".
لقد أثّرت هذه المكالمات العاطفية في فرنسيس ودفعته إلى التحدث بصراحة عن الجرائم الإسرائيلية في غزة. ففي خطابه بمناسبة عيد الميلاد العام الماضي أمام المسؤولين الفاتيكانيين، قال: "بالأمس قُصف الأطفال على يد إسرائيل. هذه وحشية وليست حربًا. أقول هذا لأنه يمس القلب". وخلال موسم الميلاد ذاته، صلى البابا أمام مشهد ميلادي من بيت لحم يظهر الطفل يسوع ملفوفًا بكوفية فلسطينية. كما أقر العام الماضي بتقارير موثوقة تفيد بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، ودعا إلى المزيد من التحقيقات بهذا الشأن.
وقبل وفاته بساعات، أطلق فرنسيس نداءً أخيرًا لشعب غزة عبر رسالته الفصحية المكتوبة للعالم، وقال: "فكروا بشعب غزة، وبالمجتمع المسيحي هناك على وجه الخصوص، حيث لا يزال الصراع الرهيب يسبب الموت والدمار ويخلق وضعًا إنسانيًا دراماتيكيًا ومؤسفًا. أناشد الأطراف المتحاربة: أوقفوا إطلاق النار، وأفرجوا عن الاسرى، وقدّموا المساعدة لشعب جائع يتوق إلى مستقبل من السلام!".
كان فرنسيس قد أثار الانتباه لأول مرة تجاه فلسطين في عام 2014 عندما غيّر مسار زيارته للأراضي المقدسة بشكل مفاجئ، ليصلي بجوار الجدار الذي بنته إسرائيل (ويُشار إليه كثيرًا بـ"جدار الفصل العنصري") والذي يفصل الفلسطينيين عن عائلاتهم وأراضيهم التقليدية. كانت تلك البادرة رمزية وعميقة الأثر لكثير من الفلسطينيين، وربما تركت انطباعًا دائمًا لدى فرنسيس.
ومن المهم الإشارة إلى أن دعم البابا القوي للفلسطينيين لم يكن على حساب تعاطفه مع الإسرائيليين. ففي رسالته المفتوحة في فبراير 2024 بعنوان "إلى إخوتي وأخواتي اليهود في إسرائيل"، كتب فرنسيس: "أريدكم أن تعرفوا أنكم قريبون إلى قلبي وقلب الكنيسة... أشعر برغبة في أن أؤكد لكم قربي ومحبتي. أحتضن كل واحد منكم، لا سيما أولئك الذين يستهلكهم القلق والألم والخوف وحتى الغضب". وأضاف في الرسالة ذاتها: "يجب ألا نفقد الأمل في إمكانية تحقيق السلام — وعلينا أن نفعل كل ما بوسعنا لتعزيزه، رافضين كل أشكال الهزيمة وانعدام الثقة... وباذلين كل الجهود لبناء علاقات تفتح آفاقًا جديدة من النور للجميع، إسرائيليين وفلسطينيين على حد سواء".
ورغم أن العديد من الناشطين والمراقبين المتعاطفين مع فلسطين قد يعتبرون مثل هذه العبارات من الماضي وتكرارًا مؤلمًا لوعود زائفة أطلقتها أطراف "عملية السلام"، إلا أن كلمات فرنسيس الصادقة تجسّد حبريته التي دعا فيها العالم للسعي نحو مثال أعلى مع الحفاظ على فضيلة الأمل — وهي فضيلة محورية في المسيحية.
لم يقتصر تحدي فرنسيس للقادة العالميين على قضايا الاحتلال والعدالة، بل وجّه انتقادات لاذعة لصناعة السلاح العالمية. ففي زيارته للأردن عام 2014 قال: "ليت الجميع يتجاوزون هذه الفكرة القائلة بأن المشاكل تُحل بالأسلحة. دعونا نصلي من أجل هؤلاء المجرمين الذين يبيعون الأسلحة ويغذون الكراهية".
وكرر نفس الرسالة في كلمته أمام الكونجرس الأمريكي في سبتمبر 2015 قائلاً: "لماذا تُباع الأسلحة الفتاكة لأولئك الذين يخططون لإلحاق معاناة لا توصف بالأفراد والمجتمعات؟ للأسف، الجواب كما نعلم جميعًا هو: من أجل المال، المال الملطخ بالدماء، غالبًا دماء الأبرياء. في مواجهة هذا الصمت المخزي والمشين، من واجبنا التصدي لهذه المشكلة ووقف تجارة الأسلحة".
وجدد هذا النداء مرة أخيرة في رسالته الفصحية لهذا العام: "ولا يمكن تحقيق السلام الحقيقي دون نزع حقيقي للسلاح! يجب ألا يتحول واجب الدفاع عن النفس إلى سباق نحو التسلح. أناشد جميع المسؤولين السياسيين في العالم ألا يستسلموا لمنطق الخوف الذي يؤدي فقط إلى العزلة، بل أن يستخدموا الموارد المتاحة لمساعدة المحتاجين، ومحاربة الجوع، وتشجيع المبادرات التي تعزز التنمية. هذه هي ’أسلحة‘ السلام: أسلحة تبني المستقبل بدلًا من زرع بذور الموت!".
ورغم تمسك بعض المثقفين الكاثوليك بـ"نظرية الحرب العادلة" كمبرر لكل حرب يرغبون فيها، كان فرنسيس يبشّر برؤية أكثر نبوءةً وتقدمًا: أن الأسلحة لا تحقق العدالة بل تكرس الظلم.
ويبدو أن رفضه العميق لصناعة الأسلحة نبع من تضامنه العميق مع اللاجئين، الذين نزح كثير منهم بسبب الحروب التي غذتها هذه الصناعة. فكانت أول زيارة رسمية له خارج روما إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، حيث التقى بمهاجرين وصلوا من ليبيا وأدان "عولمة اللامبالاة" تجاه معاناتهم. وفي عام 2016، زار جزيرة ليسبوس في اليونان، وأعاد معه 12 لاجئًا سوريًا إلى روما على متن طائرته الخاصة.
وقد تجلّى اهتمامه باللاجئين في زيارته التاريخية للعراق عام 2021، حيث أصبح أول بابا يزور البلاد. وقد جلبت رحلته عزاءً كبيرًا للمسيحيين العراقيين الذين عانوا من حروب مدمرة وغزو أمريكي مدمر أعقبته حملة إبادة نفذها تنظيم داعش.
واستخدم فرنسيس هذه الزيارة للتأكيد على رسالة الوحدة والأمل، قائلًا في مدينة قرقوش: "اجتماعنا هنا اليوم يظهر أن الإرهاب والموت لا تكون لهما الكلمة الأخيرة. الكلمة الأخيرة لله... حتى وسط أنقاض الإرهاب والحرب، نستطيع أن نرى، بعين الإيمان، انتصار الحياة على الموت".
ومن الجدير بالذكر أنه التقى أيضًا بالمرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق، آية الله العظمى علي السيستاني، في مدينة النجف، في خطوة أظهرت شغف فرنسيس بالحوار بين الأديان. وفي ذات الروح، وقع البابا على "وثيقة الأخوة الإنسانية" في الإمارات عام 2019 لتعزيز التعايش الديني، وجعل الحوار بين الأديان محور زياراته إلى البحرين ومصر والمغرب أيضًا.
وقد أعرب البعض عن قلقهم من أن بعض قادة الدول الاستبدادية استغلوا زياراته لتحسين صورتهم الدولية عبر الترويج لتسامح مزعوم. ومع ذلك، فإن فرنسيس، ورغم ندائه للسلام وحرية الدين، نادرًا ما وجه انتقادات علنية لمضيفيه خلال زياراته.
لقد كانت علاقة البابا فرنسيس بالشرق الأوسط مزيجًا من الواقعية والطموح: دعا إلى اتخاذ خطوات ملموسة لوقف الحروب والنزوح، وفي الوقت ذاته تخيل مستقبلًا تتلاشى فيه الكراهية والعنف بفعل الحوار والتضامن.
فيديو قد يعجبك: