في كنائس المنيا.. الأمن "شاهد مشافش حاجة"
كتبت - علياء رفعت:
لا يذكرونه بيوم فض ميدانيَّ رابعة والنهضة، ولكنه بالنسبة لهم "أسود" يوم في تاريخ المنيا كما يلقبونه. حالة من الذعر والفوضى عمت المحافظة، الأهالي يختبئون كُلٍ في منزله، بينما تجوب الشوارع جماعات تحمل الأسلحة البيضاء لتقتحم الكنائس، وتحرق كل ما يعلوه "صليب" أو يحمل دلالة على أن أصحاب المكان ينتمون للديانة المسيحية، في ظِل غيابٍ تام للأمن رغم استغاثات الأهالي المتكررة.
هكذا مَرّ الرابع عشر من أغسطس على محافظة المنيا منذ ثلاث سنواتٍ مضت. حرائق أُضرِمت في دور العبادة المسيحية، المحلات، بعض المدارس ودار للأيتام. "مصراوي" انتقل إلى المنيا ليرصد الأوضاع التأمينية للكنائس التى أصابتها آفة الإرهاب هناك بعد مرور سنواتٍ على الحادث.
في الناحية الغربية من حي أبو هلال تقع كنيسة "مارمينا" وهى واحدة من أشهر الكنائس التى تم إحراقها أثناء أحداث المنيا. بالقرب من الباب الرئيسي المغلق، يجلس فردان من الأمن في "كشك" صغير من الخشب. لا يعرفون عن أهل المنطقة الكثير ولا يملكون أرقام العاملين بحراسة الكنيسة من الداخل لأن تعينهم في الخدمة تم قبل شهرين فقط، وسوف يتم نقلهم من حراسة هذة الكنيسة بحلول الشهر القادم فينوب عنهم آخرين وفق ما ذكره الأهالي، ليستمر العمل بدائرة الحراسة من حُراس لا يحفظون المترددين على الكنيسة ولا يعرفون عن طبيعة المنطقة شيء.
"من ساعة الحريق والباب بيتقفل دايمًا ويتفتح وقت الصلاة بس" قالها أحد أهالي المنطقة وهو يطرق الباب الحديدي بقوة آملِلًا بأن يجيبه الرجل العجوز الذي يعمل بحراسة الكنيسة من الداخل. بعد عشر دقائق من الانتظار والطَرق المتواصل، فُتِح الباب ليستقبلنا رجلٌ ستيني، لم يسمح لنا سوى بتجاوز الباب الحديدي دون الدخول إلى الكنيسة مُرددًا "أبونا مش هنا دلوقتي"، ولكنه لم يقوم بتفتيشنا أو بمطالبة التحقق من الهوية الشخصية.
مدخل الكنيسة اللاحق للباب الحديدي الكبير لا يحتوى على البوابة الالكترونية، بينما حراسة الكنيسة من الداخل يقوم عليها 6 أفراد بمناوبات للنهار، وأخرى لليل. تتراوح أعمار هؤلاء الحراس ما بين الأربعين والستين غير أن أصغرهم وأفقههم لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد. خلفياتهم العلمية مختلفة فبعضهم أُميّ، ومنهم من يجيد الكتابة والقراءة فقط، والمتعلم بينهم حصل فقط على الدبلوم. فيما يشترك جميعهم في انعدام الخبرة الأمنية، أوشغل أى أعمال تتعلق بالحماية والتأمين من قبل.
على مقربة من كنيسة مارمينا، وتحديدًا بشارع التنظيم والإدارة، تقع كنيسة "الأنبا موسى". أجمل كنائس المنيا كما يطلق عليها بعض الأهالي اللذين أكدوا بأنها كانت وجهتهم الأولى لإقامة الأكاليل (الأفراح) لجمال معمارها الداخلي، غير أن تلك الكنيسة أحرقت بالكامل في الأحداث عقب تجديدها بعامين -كما يؤكد حارسها- فصدر قرار بإزالتها ثم إعادة بنائها مرة أخرى.
أمام الكنيسة تتناثر أكياس الرمال، والأسياخ الحديدية، بينما ينقلهم بعض العمال للداخل، ويباشر البعض الآخرأعمال البناء بهِمة. في الداخل بدا المكان خَرِب تمامًا لا يحوي سوى بعض العُمال، غرفة صغيرة لم تُهدم يسكنها الحارس، وقاعة بين أنقاضِ الهدم تراصت فيها الكراسي وبعض الصُلبان ليصلي فيها الأهالى في انتظار انتهاء أعمال البناء.
ثلاث كاميرات تم تركيبهم حديثًا هُم قوام حراسة الكنيسة إلى جانب الحارس الذي يقيم بها. قبل الحريق كانت الكنيسة تحتوى على بوابة إلكترونية يتم تثبيتها عند الباب فقط أيام الأعياد نظرًا للتجمعات، فيما تُزال لدى انتهاء الاحتفالات والصلوات لأن الكنيسة التى تكفلت بشرائها عقب حادثة "القديسين" لن تستطيع شراء أخرى إذا أُتلِفت، حبسما يقول عطية الحارس.
عشر سنين هى عُمر الخدمة التى قضاها عطية الخمسيني بالمكان قبل حرقه، تلك السنوات لم تشهد حراسة داخلية للكنيسة سوى من جانبه بالإضافة إلى بعض أفراد الكشافة من أبناء الكنيسة اللذين يتولون هذة المهمة في الأعياد فقط نظرًا للازدحام، بينما يقف فردًا واحدًا من الأمن الذي تُعينه وزارة الداخلية لدى البوابة الرئيسية، وتبقى البوابة الخلفية دون أى حراسة تذكر. "بعد حادثة البطرسية زودوا الحراسة فبقوا 2 عساكر" قالها عطية مؤكدًا أن دور العساكر يقتصر فقط على الجلوس أمام الكنيسة لمراقبتها ومُتابعة عملية الترميم والبناء.
أما عن عملية التأمين الداخلي التى يقوم بها الحارس، فالتفتيش ليس رُكنًا أساسيًا من أركانها، كما أنه ليس أمرًا معتادًا في الأيام العادية كما يوضح عطية "مبنفتش غير اللي منعرفوش وفي الأعياد والمناسبات، لكن ولاد الكنيسة معروفين وبيدخلوا عادي". ورغم ذلك فإن الرجل الخمسيني البسيط يحاول إعمال ذكائه الفطري وحدسه في مراقبة المكان فإذا لاحظ وجهًا غريبة ليس من أبناء المنطقة أو الكنيسة فإنه يطالبه إما برؤية الصليب أوالهوية الشخصية، غير مُدرِكًا أن الصليب يمكن دقه بأى مكان ولا يدل بالضرورة على أن الشخص الماثل أمامه من أصحاب الديانة المسيحية.
في أكبر الميادين الرئيسية لمحافظة المنيا، وبالقرب من مديرية الأمن تقف كنيسة "الأمير تادروس" شامخة بعد بنائها مرة أخرى وافتتاحها منذ عامٍ واحد فقط. قبل عام 2015 كانت الكنيسة كما يصفها العاملين بها "كوم تراب" وذلك بعد أن أحرِقت تمامًا لتعيد القوات المسلحة بنائها وافتتاحها مرة أخرى.
توجهنا لزيارة الكنيسة واستكشاف الأوضاع الأمنية هناك، فكان الميدان الذي تقع فيه هادئ تمامًا قرابة الثالثة عصرًا. في الشارع المجاور للكنيسة ينتشر عددًا من أفراد الأمن يزداد بالمُضى قُدمًا في اتجاه المديرية، وفي أول الشارع الملاصق لها يجلس فردان من الأمن عِند "دوشمة" للحراسة لا يتغير موقعها. بكاميرا الموبايل حاولنا التقاط بعض الصورمن مختلف الاتجاهات وكان ذلك على مرئى من الأمن الذي يحرسها ولكنه لم يثير ريبة أو تساؤل الحُراس اللذين لم يستوقفونا أيضًا أثناء توجهنا للكنيسة للاطلاع على الهوية الشخصية، أو تفتيش الحقيبة التى كنا نحملها عمدًا.
عِند باب الكنيسة، استقبلنا حارسها السيتيني "فوزي نخلة". لا توجد بوابة إلكترونية يمر منها من يدلفون إلى الكنيسة ولكن الكاهن أكد لنا -لاحقًا- أنهم يقومون بتثبيتها عند البوابة في الأعياد فقط، وبأن الكنيسة هى التى تحملت تكلفة شرائها الباهظة الثمن. قبل الدخول طلب منا الرجل الستيني الاطلاع على الهوية الشخصية، ومعرفة سبب الزيارة مؤكدًا أنه لن يستطيع التحدث إلينا إلا بوجود الكاهن أو بإذنٍ منه، مُضيفًا "دي تعليمات أبونا ومقدرش أخالفها أبدًا"، ولكنه رغم ذلك لم يقوم بتفتيش الحقيبة التى كنا نحملها أيضًا.
بعد مرور بعض الوقت، استقبلنا القمص "بيمن لويس" كاهن الكنيسة، والذي حضر إليها -في غير وقت الصلاة- لملاقاتنا عقب اتصالٍ هاتفي من الحارس. "الكنيسة بتعين مجموعة من الأفراد يقوموا على حراستها من الداخل لزيادة الحماية" قالها الكاهن شارحًا عملية التأمين الداخلي التى تقوم بها الكنيسة عن طريق تعيين أربعة أفراد يتناوبون مع بعضهم البعض على الحراسة. فيما تتراوح أعمارهم من الخامسة والعشرين وحتى الستين. يملك اثنان منهم فقط شهادات متوسطة، ولكن بقيتهم لا يجيدون القراءة والكتابة. جميعهم ليس لديه أى خبرة أمنية تُذكر، ولهذا تسعى الكنيسة لتزويدهم بها عن طريق إرسالهم في دورات تابعة لوزارة الداخلية لزيادة الحِس الأمني لديهم.
تفاصيل الوضع الأمني قبل حادث الحريق، لم تختلف كثيرًا عن بعده فالكنيسة هى التي تكفلت قبل ثلاث سنوات بشراء أربعة كاميرات لتُثبتهم في مختلف الأنحاء، ورغم ذلك لم تمنع هذة الكاميرات الحشود من اقتحام المكان وإحراقه وسط غيابِ كامل للأمن كما يقول الكاهن "يومها عملنا بلاغات كتير للمديرية بس ولا حياة لمن تنادي".
"لو حراس الكنيسة اشتبهوا في حد بينادوا ع الأمن برة وساعتها بيتدخلوا" هكذا يفسر الكاهن دور الحراسة الخارجية للكنيسة المعينة من قِبل وزارة الداخلية، بينما يؤكد على أنها تشتد فقط في أيام الأعياد والمناسبات الخاصة.
ورغم مرور ثلاث سنواتٍ على الحادث وتثبيت نحو 6 كاميرات خارج الكنيسة و10 داخلها عقب الترميم إلا أن الهلع الذي سببه الحريق عاد ليستقر مرة أخرى بنفوس أبناء المنيا من المسيحين خاصة عقب حادثة البطرسية ليستشعر الجميع مرة أخرى انعدام الأمن والأمان كما يوضح الكاهن "الحامي هو ربنا، بس تكرار الحوادث دي بشكل ممنهج وبدون رادع لازم هيخلى الناس تحس بالخوف".
اقرا الملف..
على أبواب كنائس مصر.. ''للبيتِ ربٌ يحميه'' – (ملف خاص)
''البطرسية'' تتشح بالسواد.. والأمن لا يحكم قبضته رغم الأحزان
في محيط ''القديسين''.. الأمن يمضي حضور وانصراف وأجراس الوجع تدق
في كنيسة ''كفر حكيم''.. دخان الغياب الأمني يُسوّد جدران بيت الرب
فيديو قد يعجبك: