"حكيم الجزم العيانة".. عم علي وحكاية 60 سنة في مهنة الإسكافي (صور)
البحيرة - أحمد نصرة:
أسفل مظلة متواضعة، بأحد أزقة مدينة دمنهور، امتدت يد عم "علي" تعرف طريقها وسط كومة فوضوية من النعال المتربة والبالية، لتخرج منها بحذاء أتى صاحبه للاستفسار عنه، بعد تفحصه لثوان معدودة، بدأ على الفور في التعامل معه وإصلاحه.
لم تعط ذراعان نحيلتان لشيخ هزيل مثله في عقده الثامن، إيحاءً مبشرًا بعمل جيد، ولكن ما أن أمسكت أنامله بمخرازه، وبدأ في ثقب جوانب النعل المتهالك بسرعة ومهارة ليخيطه ويجمع شتات أجزاءه، تلاشت كل هذه التوقعات المسبقة، لتبقى حقيقة واحدة هي أنك أمام إسكافي بارع.
"بدأت في الشغلانة دي وأنا عندي ١٢ سنة، طلعت من المدرسة عشانها ومن ساعتها بقت رزقي وأكل عيشي لأكتر من ٦٠ سنة".. قالها عم "علي" وهو يمسح بيده على شعره الأسود المصبوغ، والذي صنع تباينًا غريبًا مع ذقنه المشتعلة شيبًا.
تحدث عم "علي" بزهوٍ عن مهنته: "أغلب الناس بتخيط بالمكنة، خياطة اليد صعبة ومش أي حد يعرف يمسك الإبرة، لكنها بتطلع الشغل أحسن في الشكل و أمتن، كأنك لسه جايب الجزمة جديدة، إحنا بعون الله بنصلح اللي الزمن بهدله، وبنرجع الجزم لشبابها، وزي ما المريض بيروح للدكتور أنا حكيم الجزم العيانة، ودواها عندي".
واستكمل المسن، "معادش ناس عاوزة تتعلم الصنعة، أنا متجوز ومعايا ٧ عيال أكبرهم ٤٠ سنة وأصغرهم ١٨ سنة، مفيش حد منهم وقف يشتغل معايا أو حب يتعلم الشغلانة دي، الجيل الجديد معندوش صبر ولا قدرة على التحمل زينا" بأسف أوضح عم "علي" سبب تراجع أعداد العاملين بالمهنة.
وعن سبب عمله في مكان متواضع: "الدخل يدوب بيقضيني أكل وشرب أنا وبيتي، ومفيش فائض لا اشتري ولا آخد محل إيجار، عشان كده بشتغل في المكان ده، والناس وسكان المنطقة سايبيني ومراعيين ظروفي".
ويشرح عم "علي": "بشتغل من الظهر حتى المغرب، في الصيف بيبقى الشغل مريح شوية، وبتبدأ الدنيا تتحرك مع دخول المدارس، العيال بتبقى عاوزة تصلح جزمها وشنطها والهالك بيبقى أكتر".
ويكمل عم "علي": "شغلي مش بس تصليح الجزم، بعمل أكثر من حاجة تانية، تلميع وتصليح شنط، وببيع فرش وأربطة، أي قرش زيادة بييجي بيسند، الحياة مبقتش سهلة زي زمان ".
بالنسبة للأدوات التي يستخدمها، قال عم "علي": عدة الشغل بسيطة أهمها المخراز اللي بنخرم بيه الجلد عشان ندخل وراه بالإبرة، والمقص، والشاكوش، والمسامير، والكتر، واللصق" كل حاجة على حسب الشغل اللي بيتعمل سواء خياطة أو لصق، أوتغيير نعل أو تركيب كعب.
ويقول عم "علي": "الدنيا اتغيرت في الكام سنة الأخيرة، وفيه طبقات مكنتش بشوفها بقت بتجيلي عشان أصلح لها الجزم القديمة، الأسعار بقت غالية وشراء جزمة جديدة مش أمر سهل، ومحدش بقى بيرمي حاجة غير لو خلاص معادش ينفع فيها تصليح" .
"أكتر حاجة بتزعلني إن الناس خلقها ضاق في تعاملاتها، ومفيش حد بيستحمل حد، صحيح الحياة بقت صعبة والضغوط زادت على الناس، بس المعاملة الطيبة هي اللي بتدوم".. بهذه الكلمات اختتم عم "علي" حديثه معلقًا على لافتة تزين أحد جدران المحل كتب عليها: "نعم للقيم والأخلاق" .
فيديو قد يعجبك: