البابا الجديد بين ''شنودة السياسي'' و ''كيرلس الروحاني''
كتب - أشرف بيومي:
تفصلنا أيام قليلة للإعلان عن الفائز بانتخابات البابوية والتي لاشك أنها ستمثل حدثًا فاصلًا في تاريخ مصر والكنيسة بشكل عام؛ فالكثير منا يتمنى حُسن اختيار البابا القادم لأنه سيواجه عبئًا ثقيلًا لوجوده في ضوء متغيرات سياسية وثقافية واجتماعية، في مقدمتها وصول الإخوان المسلمين لقمة الحكم، ومناخ ديمقراطي يختلف عما كان قبل 25 يناير.
فبعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات البابوية، والتي أسفرت عن فوز كل من الأنبا رافائيل - أسقف كنائس وسط البلد - والقمص رافائيل آفامينا - الراهب بدير مارمينا - والأنبا تواضروس - أسقف عام الجيزة - تستعد الكنيسة والأقباط للمرحلة الأخيرة من اختيار البطريرك وهي مرحلة ''القرعة الهيكلية''، التي ستختار واحدًا من الثلاثة ليكون خليفة البابا شنودة الثالث.
وأكثر سؤال يلح على أذهان المصريين جميعا سواء كانوا أقباط أو مسلمين فى هذا الوقت هو على أي نهج سوف يسير البابا الجديد.. هل سيتمسك بالدور الروحانى والديني أكثر مثل البابا "كيرلس السادس" ؟، أم أنه سيخلف البابا شنودة فى قيادته لأقباط مصر ويتبنى الدور السياسي والريادي ؟
روحانيات البابا كيرلس السادس
"كيرلس السادس" بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية 116 في الفترة ما بين 10 مايو 1959 حتى 9 مارس 1971؛ حيث ابتعد كيرلس طيلة حياته عن السياسة واكتفى بالدور الروحاني والديني؛ فكان يفتح بابه يومياً لاستقبال أبنائه فقيرهم قبل غنيهم، صغيرهم قبل كبيرهم ويخرج الجميع من عنده والبهجة تشع من وجوههم شاكرين غانمين تغمرهم راحة نفسية عميقة لما يلمسونه من سعة صدر تثير فيهم عاطفة الأبوة الحقيقية الصادقة التى حرموا منها زمن بعيد ولم يشعروا بها من قبل .
وكثيراً ما كان يزور الكنائس المختلفة فجر أي يوم؛ حيث يفاجئهم ويرى العاملين منهم فيكون هو القائد المحارب فى صفوفهم ليشدد الركب المرتخية؛ فكان معلماً صامتاً مقدماً نفسه في كل شيء قدوة، مقدماً في التعليم نقاوة ووقاراً.
سافر إلى أثيوبيا ليهتم بأبنائه من الشعب الأثيوبي عندما لبى دعوة إمبراطورها لزيارة أثيوبيا زيارة رعوية تعمل على تدعيم الصلات التاريخية ليجمع شمل الكرازة وأعطى أذناً صاغية لمطالبهم.
كانت لهذه اللفتة أثرها الكبير في تدعيم الروابط؛ حيث عالج تلك الأمور بروح الأبوة وروح المحبة والحكمة، فصفت النفوس وأخذت المحبة تسرى من جديد في عروق الكنيستين.
وتزايدت من روابط المحبة بين شعبي الكنيستين، وكانت فرحة الشعب الأثيوبي غامرة، فزار خلال رحلته القصيرة عام 1960 كثيراً من الكنائس والأديرة في معظم المقاطعات، وكان الشعب يخرج بأسره للقاء باباهم لأول مرة في تاريخ كنيستهم مستبشرين بقدومه ملتمسين بركته .
ساهم البابا "كيرلس" فى رجوع رفات "مارمرقس الكاروز" الذي مر على سرقة جسده ألف سنة، وأقبل مسرعاً في نفس العام يقطع آلاف الأميال عبر الجو ليعبر عن فرحته بأمانة خليفته المطلقة؛ حيث استقبله البابا بأعظم الترحاب، وربما كانت لحظة وصول هذا الرفات المقدس هي أشد المواقف التي تطلبت منه جهداً بالرغم من وهن صحته .
لم تشهد الكنيسة يوماً حافلاً مثل هذا اليوم، لاسيما في اللحظة المهيبة لوصول الطائرة التي كانت تحمل رفات "الكاروز"؛ حيث لم يعد هناك مجال لربط العواطف واتباع التقاليد فاكتسحت الجماهير أرض المطار وملأتها بالترانيم والدعوات.
كما عكف البابا "كيرلس" على تشييد الكاتدرائية المرقسية الجديدة؛ حيث تم وضع حجر الأساس يوم 24 يوليو 1965 بحضور رئيس الجمهورية آنذاك "جمال عبد الناصر"، وفي 25 يونيه 1968 احتفل رسميا بافتتاح الكاتدرائية بحضور الرئيس "عبد الناصر" والإمبراطور "هيلاسلاسي" - إمبراطور أثيوبيا - وممثلي مختلف الكنائس، وقد عبر الجميع عن مشاعر البهجة لهذا الحدث.
البابا شنودة الثالث ومواقفه السياسية
انتخب شنودة الثالث بابا للأقباط عام 1971 ليكون البابا الـ117 للكنيسة القبطية، وكانت كلمته مسموعة لدى أبناء هذه الطائفة، وخلال أربعة عقود اختلف وتصالح مرارا مع السلطة الحاكمة؛ فقد شهدت العلاقة بين البابا شنودة والسادات توتراً ملحوظاً بدءاً من أحداث "الخانكة" الطائفية وتعاظم دور التيار الديني وجماعات العنف المسلح.
ورفض "شنودة" زيارة الرئيس السادات للقدس واتفاقية "كامب ديفيد"، ومنع الأقباط من زيارة القدس، ووصل الصدام للذروة في سبتمبر عام 1981 عندما أبعد الرئيس السادات البابا من كرسي البابوية وحدد إقامته في الدير بقرار جمهوري.
وفي عهد حسني مبارك، صدر قرار جمهوري في عام 1985 بإعادة تعيين البابا شنودة، وطرأ تحسن ملحوظ في العلاقة بين الدولة والكنيسة، وفي أوضاع الأقباط في مصر، وبرغم كل هذا، فإن الأحداث الطائفية تزايدت، وأصبح للبابا دور سياسي في احتواء هذه الأحداث بجانب دوره الديني مما أثار الجدل والاستياء في بعض الأحيان.
ومن أبرز الأحداث الطائفية في عهد مبارك أحداث "الكشح" الأولى والثانية، وأزمة "الراهب المشلوح وجريدة النبأ"، وأزمة "وفاء قسطنطين" و"أحداث الإسكندرية" و"دير أبو فانا" بالمنيا، وكان من المعروف أن "البابا شنودة" كان يقوم بالاعتكاف في الدير عند اعتراضه على أي إجراء أمني.
لذلك كانت حكمته صمام أمان فى كثير من الفتن التي حاول البعض إشعالها للمساس بالوحدة الوطنية، ورفض البابا مشاركة الأقباط في احتجاجات الثورة التي أسقطت مبارك، لكنه بارك نجاح الثورة التي شارك فيها مسيحيون.
وفى الوقت نفسه، ساهم البابا شنودة الثالث فى حل أزمة مياه النيل؛ حيث اعتزم السفر إلى أثيوبيا للقاء "الانبا بولص" بطريرك الكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية، لبحث كيفية إعادة أثيوبيا إلى طاولة المفاوضات مع مصر .
وتأتي مبادرة "شنودة" بالتنسيق مع أجهزة الدولة المصرية التي تسعى إلى تفعيل كل أدواتها ومنها الكنيسة لمواجهة الأزمة، لذلك يمكن القول أن "البابا شنودة" خلق لنفسة منذ توليه الكنيسة المصرية شخصية قيادية سياسية تبلورت بعد العقد الأول من فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك التي استمرت طيلة الثلاثة عقود الماضية .
وفي النهاية، يستعد كلا من "القمص أفامينا" - الذي تتلمذ علي يد البابا الراحل كيرلس السادس، و"الأنبا رافائيل" - الذي لا يحبذ مشاركة رجال الدين في السياسة، و"الأنبا تواضروس" - الذي لم يظهر موقف واضح تجاه أي من الجانبين - لمرحلة القرعة الهيكلية فى غضون أيام قليلة؛ فأياً كان الفائز فما الطريق الذي سيسلكه هل "السياسي" أم "الروحي" ؟
فيديو قد يعجبك: