''منيل شيحة''.. ملتقى ''القصور والعشش'' على ضفاف النيل !
كتبت - علياء أبو شهبة:
على بعد 11 كيلو متر من القاهرة، بعد أن تنتهي من متابعة ضفاف النيل بجماله الساحر، فجأة يختفى جماله عن الأعين لتلمح قصورا فخمة على مساحات شاسعة، تدخل إليها السيارات الفارهة، وعلى الجانب الآخر من الطريق تجد مشهدا معاكسا تماما، فهو النقيض من المشهد الأول، فعلى بعد أمتار قليلة هي عرض الطريق الزراعي تجد منازل مبنية بالطوب الأحمر لا تعرف للصرف الصحي ولا لنقطة المياه النظيفة سبيل، هذه المشاهد المتضادة تجتمع في قرية ''منيل شيحة'' بمحافظة الجيزة.
بمجرد أن تطأ قدميك ''منيل شيحة'' ستلتقي بسكانها الأصليين، الذين لم تطالع أعينهم جمال النيل منذ زمن طويل، وعلى بعد أمتار من ورشة الخراطة التي ورثها عن والده جلس ''علي'' ينتظر الفرج، وهو ما يعني له وصول أي زبون؛ فقد بدأ يومه في لجنته الانتخابية، ثم فتح أبواب ورشته في العاشرة صباحا، واستقبل اثنين من زبائنه، إلا أن موعد آذان العصر اقترب لتقترب معه نهاية يوم آخر يضيف إلى همومه، لضيق ذات اليد.
''قلت لا''.. قالها ''علي الخراط'' كما هو معروف في المنطقة، والسبب لخصه ببساطة في كلمة واحدة ''الاستحواذ''، وقال إنه رفض الحزب الوطني وكره قياداته لأنهم استحوذوا على كل المناصب القيادية، ويكره آداء الإخوان المسلمين الآن لأنه يماثل آدائهم، وكل ما يحلم به هو وصول أصحاب الكفاءات إلى المناصب العليا، نظرا لكفاءتهم وليس من أجل تبعيتهم إلى ''فلان أو علان''.
يرفض ''علي'' تمرير الدستور والذي ربما يكون لم يقرأه ولكنه يرفضه لأن ''حزب واحد هو الذي وضعه''، ربما يكون لم يحظى بقدر وافر من التعليم، فبعد حصوله على الدبلوم توفي عنه والده، ثم ورث عنه ورشته، لكنه يحلم بمستقبل أفضل، يشعر خلاله بالاستقرار الذي يتحدثون عنه، ونقطة الماء النظيفة التي تعتبر حلما صعب المنال بالنسبة له.
وعلى باب محل ''بقالة'' بسيط جلس ينتظر شقيقه الذي ذهب لشراء الخبز مع آذان الظهر، ولكن طال غيابه مثلما هو الحال كل يوم، لكن ذلك لم يمنع الابتسامة من ملازمة ملامح وجهه حين جاء طفل صغير حاملا معه عملة معدنية، وقال له ''عمو أديني أي حاجة حلوة''، ليعود له بعد قليل ليسأله عن ''الباقي''، والذي ليس له وجود، ليرد عليه باسما ''وكمان عايز باقي.. مفيش يا دوب على أد فلوسك''.
''عم محمد'' اختار الموافقة على الدستور، واعتبرها الفرصة الأخيرة للنظام الحالي لكي ينتشل البلد من الضياع، وفقا لقوله، فهو كما يقول ليس له أي انتماء سياسي، ''مالهم الإخوان مش وحشين والله دول حتى عندنا في البلد طيبين قوي ما شفناش منهم حاجة وحشه''.
الانفلات الأمني هو أكثر ما يزعج ''عم محمد'' ويثير غضبه، فهو غير راضى عن أداء الشرطة قبل الثورة، والتي كانت تسيئ التعامل مع الناس، فقد كان يمتلك سيارة أجرة عرضته للكثير من الذل والمعاملة السيئة، والتوصيلات التي كانت مجانية رغما عنه دون أن ينطق كلمة واحدة، وبعد الثورة تسبب ضعف الشرطة وغيابها في فقدانه لسيارته التي سرقت منه، ويتمنى أن ينجح الرئيس في عودة الشرطة ولكن بطريقة مهذبة وإنسانية.
ينظر ''عم محمد'' للقصر الفاخر الذي يقابل محله البسيط، ويقول :'' اللهم لا اعتراض.. احنا ربنا خلقنا طبقات.. أنا عمري ما احقد على حد بس الناس دي استفادت قبل وبعد الثورة''، وظل بعدها يذكر عدد الشركات والمصانع التي يملكها صاحب القصر، ثم أنهى حديثه متمنيا الحصول على أنبوبة البوتاجاز بسعر مناسب.
فوق صندوق المياه الغازية جلست ''أم ميرفت'' تتحدث إلى ابنتها التي جاءت لتصحبها معها إلي اللجنة الانتخابية، بينما تصر هي على تأخير المشوار حتى يقل الزحام على اللجنة، وأملا منها في بيع ما تعرضه من حلوى ومشروبات غازية.
لكن حوار الأم و الابنة زادت حدته عندما تناقشا حول الاستفتاء، لتقول ''أم ميرفت'' أنها ستوافق على الدستور ''عشان الاستقرار خلي البلد تمشي بقي''، وترد عليها ابنتها بأن الإخوان المسلمين أخذوا فرصتهم بالفعل وأثبتوا فشلهم خلال الشهور الماضية، لترد الأم بغضب '' اخدوا فرصتهم إزاي.. إذا كان الناس بتعمل إضراب.. ده أنا حتى مش لاقية سجاير أبيعها بسبب الإضراب''، ثم بادرت لتوضح أن السجائر اختفت من السوق بسبب إضراب عمال المصنع، مما كان له إثر سيء على قوت يومها، وخاصة أنها تعتمد على إيراد المحل إلى جانب معاش زوجها البسيط، والذي تمنعه ظروفه الصحية من العمل.
''عمري ما حقدت على حد.. لكن نفسي يبقى عندي صرف صحي يشيل عنى مصاريف الشفط''.. عبارة قالتها ''أم ميرفت'' وهي تتحدث عن مصروفاتها الشهرية؛ حيث تقتطع 70 جنيها من دخلها الشهري لكي تتخلص من مياه الصرف الصحي، التي تملأ ''البير'' الموجود في منزلها، ولذلك تستأجر سيارة تقوم بشفط هذا الماء، فهي لا تجد بديلا عن نظام ''الطرنشات'' .
وتقول ''أم ميرفت'' أنها لو كانت تسكن قريبا من النيل ''كانت صرفت فيه''، وهو ما تعتقد أن سكان القصور المواجهة للنيل يفعلونه، لتقول بعد ذلك ''ربنا يسهلهم.. أنا عايزة أعيش عيشه حلوه كفاية بقى''، وتقول إن الناس كانت جائعة قبل الثورة وأصبحت الآن أكثر جوعا، وما يزعجها أن كيلو ''اللحمة العجوزة'' ثمنه 45 جنيها، بينما ''اللحمة الحلوة'' ثمنه 60 جنيها، وهو ما يعني فقدانها الأمل في تقديم ''أكلة حلوة'' لأسرتها المكونة من خمسة أفراد.
وأمام ''تروسيكل'' يغطيه ملصق مكتوب عليه باللون الأخضر ''نعم للدستور''، وقف ''فتحى'' و ''هاني'' يتفقان على تفاصيل العمل في السيارة التي تقف أمام الورشة وتغطيها نفس البوسترات، فأحدهما ''سمكري'' والآخر ''حداد''، الأول مقيم في جزيرة الدهب وحرص في الصباح الباكر على الإدلاء بصوته في اللجنة الانتخابية القريبة من منزله، ليوافق على الدستور، من أجل الخروج من المأزق الحالي، كما نصح زوجته و والدته بالتصويت والموافقة على الدستور.
لم يختلف الحال كثيرا بالنسبة لزميله ''هاني'' الذي يرى أن جبهة الإنقاذ الوطنى لم تقدم للبلد سوى المزيد من التوهان والضياع، وقال إن كل أعضائها لا يبحثون سوى عن تحقيق مصالحهم الشخصية، ولا يعرفون شيئا عن هموم الغلابة ومشاكلهم، ويعتبرها جبهة التفتيت الوطني وليست الإنقاذ، كما أنه متحمس للموافقة على الدستور الذي يعطي حق الرعاية الصحية لكل المصريين، وهو ما حرم منه لأنه ''أعمال حرة''، وغير مشترك في أي نظام تأميني '' ده غير إن الواحد مننا بيدوخ السبع دوخات عشان يتعالج على نفقة الدولة''.
فيديو قد يعجبك: