روسيا وتركيا.. قرون من العداء والاقتصاد يرفض النزاع
كتب - محمود أحمد:
مخطئ من ظن أن العلاقات الروسية التركية قد تنتهي بإسقاط طائرة أو بارتفاع وتيرة التصريحات، فتاريخ العداء بين البلدين واضح لا غبار عليه، منذ خمسة قرون ولا يعرف العدوان اللدودان إلا لغة "المصالح المشتركة" التي دائمًا ما تقضي على الأزمات بينهما، وجهات نظر موسكو وأنقرة في السياسة الدولية كانت في الأغلب متباينة، وستظل كذلك بدءا من المسألة القبرصية، ومرورا بالوضع في القرم، وشرق أوكرانيا، وأخيرًا بالأزمة السورية وضرب "تركمان سوريا".
مسلسل مستمر من الرفض والشجب، لكن سرعان ما ينتهي بتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية وزيادة حجم العلاقات التجارية بين البلدين، وهو ما دفع تركيا دائما للحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع "الدب الروسي"، كان أبرز معالمها الامتناع عن الانضمام إلى العقوبات الغربية على موسكو.
تصريحات مختلفة من الجانبين عقب إسقاط أنقرة لطائرة "سوخوي- 24" الروسية، بصاروخ (جو - جو) من قبل مقاتلات تركية من طراز "إف- 16"، قال الأتراك أنهم أقبلوا على الفعل ردًا على اختراق الطائرة لمجالهم الجوي خاصةً بعدما رفضت الإنذارات التي وجهت لها، أمس الثلاثاء، انتهت الواقعة بإعلان "الكرملين"، قطع العلاقات العسكرية مع دولة أردوغان، والتعهد بنشر منظومة "فورت" للدفاع الجوي قرب اللاذقية على متن الطراد لتدمير أي أهداف تمثل خطرا على القوات الروسية خاصةً إذا كانت تركية.
الصراع قديم الأزل
الصراع بين القوتين قديم قدم الاحتكاك بين القبائل التركية والسلافية، فقد كان البحر الأسود وجبال القوقاز حدودًا طبيعية فاصلة بين الشعبين، إلى أن أسس الأتراك الدولة العثمانية في الأناضول عام 1299، وتناظرها دوقية موسكو الكبرى عام 1340، ومع توسع الطرفين التقى الطرفان في صراعات لم تنته حتى اليوم، وإن أخذت أشكالاً مختلفة على مدار التاريخ، فمنذ عهد القياصرة والعثمانيين، بعد محاولات روسيا القيصرية العديدة الحصول على موضع قدم في المياه الدافئة، من أجل أغراض تجارية واضحة، نجحت روسيا بعد الحرب العثمانية - الروسية 1786 - 1774 في إخضاع شبه جزيرة القرم وأجزاء من جنوبي أوكرانيا للسيطرة الروسية، بعدها أعلنت إمارة القرم الاستقلال لفترة وجيزة ثم عادت لتخضع للسيادة الروسية عام 1783.
وعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ضمها مرة أخرى في مارس العام الماضي إثر اندلاع احتجاجات ضد الرئيس الأوكراني المقرب من موسكو، مما أثار حفيظة الأتراك لارتباطهم بعلاقات تاريخية مع مسلمي القرم هناك، ولتهديد السيطرة الروسية على القرم للمصالح التركية الإقليمية في منطقة البحر الأسود وعلاقاتها التجارية مع دول شرق أوروبا.
تهديدات سابقة (صورة أردوغان)
لم تكن تهديدات تركيا بالتصعيد ضد "الدب الروسي" أو العكس هي الأولى من نوعها، فسبق وأن هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالاستغناء عن الغاز الروسي، وبالاستعانة بدول أخرى لبناء المحطة النووية الأولى لتركيا بدلا من روسيا.
وقول أردوغان إن موسكو ربما تخاطر بفقدان صداقة أنقرة، وذلك بعد التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية، واختراق الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي عدة مرات، كان على سبيل التصريح ليس أكثر بجانب كون إيران الحليف الأول لروسيا في المنطقة، مع اعتماد تركيا بشكل أساسي أيضًا على الغاز الإيراني كمصدر لاستهلاك الطاقة التركي، وهو ما يمنع أي أزمات لقوة علاقة روسيا مع إيران من طرف آخر.
على الجانب الأخر، اعتاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى استقباله ضيوفه الأجانب أن يتطرق معهم أمام الصحفيين إلى الجانب الاقتصادي من العلاقات مع بلادهم، في تذكير بأن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، (وبأن الاقتصاد يعلو لديها على السياسة)، كان الأمر كذلك، عندما استقبل بوتين في الكرملين في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر الماضي أردوغان، الذي جاء إلى موسكو للمشاركة في افتتاح مسجدها الجديد، حيث جرى التنويه بأن روسيا أحد أكبر شركاء تركيا التجاريين، ولا سيما أنها ورَّدت في عام 2014 نحو 30 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب "السيل الأزرق" إلى تركيا، التي يبلغ استهلاكها نحو 50 مليارا سنوياً.
وفي زيارته لأنقرة، أعلن بوتين عن البدء بمشروع مد "السيل التركي" بأربعة خطوط، أحدها بحجم 15.75 مليار متر مربع، سيمتد من روسيا إلى تركيا مباشرة عبر البحر الأسود، والخطوط الأخرى بحجم 50 مليارا من هناك إلى اليونان.
وهي الرؤية ذاتها التي قالها أردوغان، بأن تركيا لن تجد بديلا عن الغاز الروسي من ناحية ضمان التوريدات وحجمها وأسعارها الحالية، وأن تجد بديلا للوقود الأزرق الروسي بعد تنفيذ مشروع "السيل التركي"، الذي سيجعل الغاز الروسي أرخص بكثير، إضافة إلى خلقه فرص عمل في تركيا نفسها، وجذبه الأموال إلى تركيا، التي ستلعب دور موزع الغاز إلى الدول الأوروبية المجاورة.
الاقتصاد يحكم (صورة لمشروع السيل التركي)
العلاقات الاقتصادية بين "العدوين اللدودين" تجعل من الضروري لكلا الطرفين الحفاظ عليها والعمل على رأب أي صدع قد يطرأ؛ ولذا ترددت تركيا في معاداة التدخل الروسي في أوكرانيا بشكل حازم، حفاظًا على الروابط الاقتصادية بين البلدين، مع تنبّه الأتراك إلى التردد الأوروبي الملحوظ في تفعيل العقوبات الاقتصادية على موسكو، لارتباط بعض القادة الأوربيين بمصالح مباشرة واستثمارات مع الدب الروسي.
وعلى جانب آخر، تقتضي المصالح الأوروبية استمرار العلاقات الودية بين الطرفين الروسي والتركي من أجل إتمام العمل على مشروع خطوط نقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا (مشروع السيل التركي، بطول 910 كم،250 كم منها داخل الأراضي التركية، وبقدرة 63 مليار متر مكعب من الغاز عبر البحر الأسود، والذي بدأ العمل فيه في شهر مايو الماضي).
وكانت الأنباء قد تضاربت مؤخرًا عن توقف العمل في المشروع إثر التدخل الروسي في سوريا، إلا أن مسؤولين روس وأتراك قد أكدوا استمرار العمل.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو 25 مليار دولار عام 2010، بعد تراجع ملحوظ في العام 2009 حين كان قد وصل حجم ذلك التبادل ذروته عام 2008 بمقدار 33 مليار دولار؛ إلا أن زيارة الرئيس الروسي وقتئذ، ديمتري مدفيديف، وتوقيع الجانبين حوالي 17 اتفاقية في مجالات متعددة، من الطاقة إلى الزراعة والتجارة أدت إلى إعادة إنعاش العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وعلى صعيد آخر، فإن بناء تركيا لبعض المفاعلات الكهروذرية، بالتعاون مع روسيا، يدفع البلدين لتجاوز الأزمة الراهنة من أجل الحفاظ على مصالح الطرفين فيما يتعلق بهذا الجانب، فقد وقع الجانبان اتفاقًا لإنشاء محطة للطاقة الكهروذرية قرب مدينة مرسين، جنوبي تركيا، على ساحل البحر المتوسط، بمشاركة شركتَي "روس أتوم ستروي إكسبورت" atomstroyexport و"إنتر راو يي إس" الروسيّتَين وشركة park teknik التركية.
وقد صادق مجلس الدوما على هذه الاتفاقية في 19 نوفمبر 2010 متضمنةً بناء 4 مفاعلات بطاقة استيعابية 4800 ميغاوات، بتكلفة قدرها 20 مليار دولار.
حجم التعاون الاقتصادي في 2014
31.6 مليار دولار قيمة التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي، حيث تعد تركيا ثاني أكبر مستهلك للغاز الطبيعي الروسي، وتستهدف الوصول بهذه القيمة إلى 100 مليار دولار مطلع عام 2023، حسبما أكد أردوغان نفسه.
وتصدر موسكو الغاز والبترول إلى أنقرة، وتستورد المنتجات الزراعية والآلات والخدمات من تركيا التي استوردت 27.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي العام الماضي، وهو ما يعادل 56% من إجمالي استهلاكها.
وفازت شركة الإنشاءات التركية، التي قامت ببناء جزء كبير من البنية التحتية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية، بعقود تبلغ قيمتها 50 مليار دولار في روسيا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، كما كانت تركيا للعام الثالث عشر على التوالي الوجهة الأولى للسياح الروس، إذ قضى 3.3 مليون إجازاتهم العام الماضي في أنقرة، وساهموا بنحو 3.7 مليار دولار في الاقتصاد التركي.
وليس من الواضح كيف سيتمكن الجانبان من تفكيك مثل هذه العلاقة القوية، ولاسيما في قطاع الطاقة – وقال أليكسى جريفاش، نائب رئيس صندوق أمن الطاقة القومي الروسي: "لا تستطيع تركيا أن تدير ظهرها للغاز الروسي- فهذا لا يُعقل اقتصاديا- فهي لا تملك أي بديل عنه".
الأزمة السورية وتأثيرها (صورة للطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا)
حدثت تطورات هامة بين روسيا وتركيا في الأيام الأخيرة، فمنذ بداية الأزمة السورية كان هناك اختلاف في وجهات النظر بين البلدين، وبينما كانت تركيا تقول بأنّ حل المسألة السورية لا يتم إطلاقا بوجود الأسد، كانت روسيا من أكبر الداعمين له.
لم تنعكس هذه التناقضات في وجهات نظر روسيا وتركيا على الجانب الاقتصادي، والمعنى الأصح لذلك، هو أنّ هذا الأمر يعكس حقيقة أنّ روسيا لا يمكنها التخلي عن تركيا، وخصوصا بعدما تعرضت روسيا لحصار اقتصادي شديد من قبل أمريكا والدول الأوروبية بعد تدخلها في أوكرانيا.
ولهذا أبقت روسيا على تركيا الجارة لمصادر النفط قريبة منها، لأنها تعتبر مصدر الغاز الطبيعي والممر الأساسي له نحو الأسواق العالمية، وهذا تصرف ذكي من روسيا، والتصريحات التي قالها بوتين في تركيا عن تخليه عن مشروع الممر الجنوبي للطاقة، كان مجرد رسائل للتخفيف من قلق أمريكا وأوروبا، لكن روسيا قررت في نهاية العالم الماضي بإجراء تخفيضات على الغاز الطبيعي وأكدت على دعمها لمشروع الأنابيب التركية للغاز الطبيعي، لكنها اليوم على ما يبدو تقوم بتغيير ذلك.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك اختراق روسيا للأجواء التركية، ووقوفها خلف الأسد، سنجد أنّ الاختلافات السياسية بين تركيا وروسيا قد أثرت على قرارات روسيا فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى حد صغير.
روسيا التي تعيش الآن حالة من العزلة، والتي ترتب عليها تراجع حقيقي لاقتصادها في هذه المرحلة، لن يكون من المنطقي أنْ تتخذ سياسة متناقضة مع تركيا وخصوصا في الجانب الاقتصادي، وذلك لما سيحدثه ذلك من انعكاسات سلبية جدا على الاقتصاد الروسي.
وعندما نتحدث عن الوضع الراهن لتجارة روسيا في النفط والغاز الطبيعي، فإنّ على روسيا التفكير جيدا في الثمن الذي ستدفعه في المجال الاقتصادي بسبب خطواتها التي قامت بها مؤخرا، ولذلك يصبح مشروع أنابيب الطاقة التركي مشروعا ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا في الظروف الاقتصادية الحالية.
وكان مسؤول تركي أشار في تصريحات صحفية بأن "تركيا وروسيا قرّرتا تقسيم علاقتهما بحيث لا تؤثر المشاكل سلبا في مجال على التعاون في المجالات الأخرى. ولكن بسبب تضارب المصالح لا يمكن تجنّب تأثيره من الناحية السياسية وتوتر العلاقات الثنائية".
وبالطبع فإن الرئيس التركي "أردوغان" كان لابد أن يبين موقف بلاده وهو ما أكّده خلال زيارته الرسمية إلى بلجيكا الشهر الماضي، "تركيا لن تصبر طويلا على هذه الانتهاكات، وروسيا ستخسر الكثير إذا دمرت علاقات الصداقة مع تركيا"، لكن موسكو ردت على أردوغان سريعا مؤكدة تقديرها للعلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا، ومعربة عن أملها بتطويرها بموجب الخطط السابقة، ردا على خلفية تصريحات تركية بشأن إعادة النظر بمسألة شراء الغاز الروسي.
فيديو قد يعجبك: