"البطرسية" تتشح بالسواد.. والأمن لا يحكم قبضته رغم الأحزان
كتبت - علياء رفعت:
تصوير - نادر نبيل:
الحادى عشر من ديسمبر، تاريخٌ جديد سيظل محفورًا بحزن بعقول وقلوب كل المصريين. ففي الصباح الباكر لليوم ذاته، كانت الأمور تبدو طبيعية إلا أن دوىّ انفجار بالكنيسة البطرسية قلب كُل شئ رأسًا على عقب. الدماء تسيلُ بكل مكان، والعويل يشق عنان السماء. سيارات الاسعاف تتوافد لنقل المصابين، المستشفيات المُحيطة تمتلئ عن آخرها، والإسعافات الأولية لا تجدي نفعًا مع من لفظ أنفاسه الأخيرة لينتقل إلى السماء.
وبينما تُودع النعوش في جنازةٍ مهيبة يُعلن الحداد الرسمي للبلاد واسم الفاعل، لُتغلق قضية البطرسية رغم وجود علامات استفهامٍ عديدة أهمها؛ كيف استطاع الفاعل الدخول إلى قلب الكنيسة بالمتفجرات؟!. "مصراوي" خاض تجربة التردد على الكاتدرائية والكنيسة البطرسية ثلاث مرات في ثلاث أيامٍ مختلفة ليرصد الأوضاع التأمينية هناك عقب تفجيرٍ راح ضحيته 27 شهيدًا بفعل الغدر والإرهاب.
الزيارة الأولى.. الخميس"22 ديسمبر":
(عقب التفجير بعشرة أيام)
الثانية عشر ظهرًا، الشوارع المحيطة بالكاتدرائية هادئة، خالية تمامًا إلا من بعض المارة اللذين نادرًا ما يعبرونها. أفراد الأمن كُل في موقعة، حوالي ثلاثين شخصًا -رصدهم "مصراوي" - يطوّقون الكاتدرائية لحمايتها. فيما يختلف مظهرهم الخارجي فبعضهم يرتدي اللبس الملكي والبعض الآخر بلبسٍ مدني، ولكن جميعهم يجلس مُرابطًا حول الأسوار وهم يتظاهرون بالحديث إلى بعضهم البعض، أو مُراقبة المارة.
أبواب البطرسية مُغلقة لا تستقبل أحد، والترميمات فيها قائمةٌ على قدمٍ وساق، بالقرب من الباب الرئيسي للكاتدرائية يتزايد عدد أفراد الأمن الخارجي اللذين يرتدون الزي الملكي، ولكن أحدًا منهم لم يستوقفنا ليسألنا عن وجهتنا، أو يطلب إبراز هوياتنا وتفتيش حقائبنا التى كنا نحملها.
عند الباب الرئيسي، سألنا أحد أفراد الأمن الداخلي للكاتدرائية عن وجهتنا، فأجبناه "المكتب الإعلامي"، ليطلب منا بعدها هوياتنا الشخصية. اكتفى "نادر" بإبراز الصليب في يده اليمنى للحارس ليُسمح له بالعبور من البوابة الإلكترونية على الفور دون يبرز بطاقته أو يتم تفتيش حقيبة ظهره التى تحتوي على الكاميرا. فيما تلكأت "المحررة" في إبراز هويتها بحجة البحث عنها في أماكن مختلفة بالحقيبة، فسُمِح لها هى الأخرى بالعبور دون أن تعطيها للحارس الذي أردف "اتفضلي حضرتك، مفيش مشكلة".
يفصل البوابة الإلكترونية عن جهاز الكشف على محتوى الحقائب داخل الكاتدرائية حوالي ثلاثة أمتار، بتجاوزها وضعنا الحقائب التى نحملها فوق "السير"، وقبل أن تظهر على الجهة الأخرى من الجهاز لم ينظر الحارس الثاني لمحتوياتها الداخلية من خلال شاشة الكمبيوتر أمامه لانشغاله بـ"الموبايل"، كما أنه لم يطلب تفتيش حقيبة "نادر" أو تجريب الكاميرا للتأكد من أنها لا تحتوى على أى شيء، وهو ما وضح نادر بأنه من الإجراءات التى تُتبع معه طوال الوقت أثناء تردده على الكاتدرائية في المناسبات المختلفة لأداء عمله كـ"مصور صحفي".
خارج جدران الكاتدرائية، وفي أحد الشوارع الملاصقة لها كانت "عزيزة" الخمسينية تطل من شرفة منزلها بالدور الأرضي لتُراقب الأوضاع والمارة كما عادتها. "العساكر طول الوقت هنا قاعدين يحرسوا المكان من برة" قالتها عزيزة التى تعيش بهذا المنزل منذ كان عمرها عشرين عامًا، مُستطردة "على طول بنديهم ماية ونعملهم شاى في البرد"، لكن وجودهم الدائم الذي تؤكده عزيزة لم يجيب عن سؤال ابنتها الثلاثينية هبة "لحد دلوقتي مش فاهمين الانفجار ده حصل ازاى رغم انهم كانوا موجودين زي كل يوم".
الزيارة الثانية.. الأحد "52 ديسمبر ":
(عقب التفجير بثلاثة عشر يومًا)
الجموع تتوافد إلى الكاتدرائية منذ الصباح الباكر، الشوارع المحيطة مزدحمة تمامًا. الأعداد تتزايد عند الأبواب، والجميع يرتدي الأسود في انتظار توديع شهيدة البطرسية الـ27 "إيزيس فارس" للسماء. وفي الأثناء تنتشر قوات الأمن بكثافة ملحوظة في أنحاء المكان.
وقت الصلاة على الجثمان أثناء مراسم التشييع توجهنا للبوابة الرئيسية. لم يستوقفنا الأمن الخارجى على كثافته، ولكن عِند البوابة الرئيسية قام الأمن الداخلى للكاتدرائية بتفتيش كُل ما كنا نحمله تفتيشًا دقيقًا، بالإضافة إلى التحقق من هوياتنا الشخصية ومطابقة صورها بهيئاتنا، ثم طلب الحارس من "المُحررة" ترك بطاقتها الشخصية على أن تستردها مرة أخرى عند خروجها ولكنه لم يفعل المثل مع زميلها المصوّر لإظهاره دَقّ الصليب.
على جهاز الكشف وضعنا الحقائب، استفسر رجل الأمن المشرف عن محتوى الحقيبة الثانية التى يحملها المصوّر- عقب مطالعتها على شاشة الكمبيوتر- ليطلب منه بعدها فتحها وتجريب الكاميرا أمامه للتأكد من ماهيتها.
ويقول"جوزيف ملاك" المحامي، وزميل مفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، إن هناك تقصير أمني واضح تجاه حماية الكنائس بشكلٍ عام، مستدِلًا بكل من حادثتي القديسين والبطرسية وما سبقهم من أحداث. فبحسبه الأولى كانت على رأس القوائم المستهدفة والتى تم نشرها على الانترنت عقب حادثة تفجير كنيسة "سفينة النجاة" بالعراق، ورغم ذلك لم يتم تأمينها خارجيًا وداخليًا بشكلٍ جيد فوقع الانفجار. أما الثانية -البطرسية- فلم يتم اتخاذ تدابير الأمنية القصوى لحمايتها رغم الأخبار التى كان يتم تداولها باحتمالية وقوع تفجيرات للعديد من الكنائس قُرب أعياد الميلاد، والتى صَدق عليها وقوع انفجار في التاسع من ديسمبر بمنطقة بالهرم، والذي استشهد فيه سِتة من قوات الأمن بعد انفجار قنبلة استهدفت كمينًا أمنيًا قرب مسجد السلام.
ويضيف ملاك "آلية تأمين الكنائس غير صحيحة، فما الفائدة من وجود الأمن إذ لم يقم بتفتيش من يرتاد محيط الكنيسة ويتحقق من هويته؟!".
الزيارة الثالثة.. الأربعاء"82 ديسمبر ":
(عقب الانفجار بستة عشر يومًا)
الحركة المرورية تبدو طبيعية في محيط ميدان العباسية، أبواب البطرسية مفتوحة رغم الترميمات، وأمامها يقف العشرات ممن يلتقطون الصور للداعية الإسلامي "مظهر شاهين" برفقة أحد قساوسة الكنيسة في لقاءٍ لأحد القنوات الفضائية يدين فيه الداعية الحادث الإرهابي.
الأمن على حالة أمام البوابات، لا يستوقف أحدًا ممن يدلفون إلى مُحيط الكاتدرائية باتجاه بوابتها الرئيسية، والتى بالوصول إليها أوقفنا الأمن الداخلي ، وطالبنا بالتحقق من الهويات الشخصية دون تفتيش كافة حقائبنا بشكل دقيق كما الزيارة الأولى.
على السير الخاص بجهاز التحقق من محتويات الحقائب، أظهرت شاشة كمبيوتر الجهاز مجموعة من الأسلاك التى وضعناها عن عمدٍ داخل إحدى الحقائب، ليسألنا الحارس عنها مُكتفيًا بجوابنا "أسلاك الشاحن وسماعة الموبايل" دون أن يعيد فتح الحقيبة وتفتيشها بنفسه مرة أخرى للتأكد من صحة ما أخبرناه به.
أما عن الإجراءات الاحترازية الأمنية التى تتخذها الدول الأوربية في تأمين الكنائس، فيقول "عمرو رفعت"، العميد السابق بالقوات المسلحة والخبير الأمني، إن هذه الدول تقوم بثبيت العناصر الأمنية المنوط بها حماية الكنيسة، أى أنه لا يتم تغييرهم منذ توليهم خدمة الحراسة أبدًا، وذلك لأنهم الأجدر على مراقبة الأوضاع كونهم يعرفون مُرتادي الكنيسة وساكني المنطقة التي تقع بها جيدًا.
ويؤكد "رفعت" على أن الحماية الأمنية لا ترتبط بعدد الأشخاص القائمين على حراسة المكان في الدول الأوربية، مُشيرًا إلى أن هذه الدول تعمل على تفتيش الأشخاص اللذين يقتربون من المحيط الخارجي للكنائس تفتيشًا دقيقًا كما إنه لا يُسمح بترك السيارات بالقرب من أسوارها.
واحدة من تلك الأساليب الفعالة التى تقوم بها هذه الدول أيضًا -حسب رفعت- هى الكشف الإلكتروني عن الهويات الشخصية من خلال المسح الضوئي باستخدام الكمبيوتر، والذي يتم عبر التأكد من كون الهوية الشخصية التي يحملها الأفراد ليست مزورة، بالإضافة إلى تزويد الحراس خلال ثوانٍ معدودة بكافة المعلومات المتاحة لدى الدولة عن الشخص الماثل أمامه، وما إذا كان من ضمن المشتبه بهم أو المتهمين في قضايا سابقة أو لا.
"عملية التأمين لابد أن تكون خارج الأسوار" قالها رفعت موضحًا أنه إذا تم إحكام التأمين الخارجي للكنائس بشكلٍ جيد دون تقصير فسوف تنعدم حينها حوادث الانفجارات والحرائق، مُستطردًا بأن الدول الأجنبية تعمل على استخدام القمر الصناعي في مراقبة المشتبه بهم أو المجرمين ممن قضوا عقوبتهم عقب إطلاق صراحهم، فإذا ما اقتربوا من أى منشأة حيوية أو دينية يقوم القمر الصناعي برصدهم عن طريق شريحة -غير قابلة للنزع- تثبتها الشرطة بسوارٍ في أقدامهم ليتم تفتيشهم تفتيشًا دقيقًا.
هذه الإجراءات التأمينية لا يتم تطبيقها بمصر لأنها حسب العميد "تكلفتها باهظة" وذلك نظرًا لاستخدام التكنولوجيا الحديثة فلا يُفعّل منها سوى استخدام البوابات الإلكترونية والتي لا تتواجد بكافة الكنائس المصرية، مما يؤكد ما اختتم به رفعت حديثه "مشاكل التأمينات في الكنايس المصرية جسيمة، وتفجير البطرسية ليس الحادث الأخير".
اقرا الملف..
على أبواب كنائس مصر.. ''للبيتِ ربٌ يحميه'' – (ملف خاص)
في محيط ''القديسين''.. الأمن يمضي حضور وانصراف وأجراس الوجع تدق
في كنائس المنيا.. الأمن ''شاهد مشافش حاجة''
في كنيسة ''كفر حكيم''.. دخان الغياب الأمني يُسوّد جدران بيت الرب
فيديو قد يعجبك: