تحفيظ القرآن في تونس - خطة جديدة تشعل جدلا قديما
تونس (دويتشه فيله)
نظرا للمخاوف من سقوط النشء التونسي في براثن التطرف، أعلنت الحكومة عن خطة تعتمد على تحفيظ القرآن لإبراز قيم العدل والمساواة، لكن معارضيها يرون فيها إفقارا لدور المدرسة وتعزيزا للنزعة الدينية، ما قد ينتهي بنتائج عكسية.
في مسعاها لاحتواء الفكر الإسلاموي المتطرف لدى الناشئة أعلنت الحكومة التونسية عن خطة جديدة تعتمد على "تحفيظ القرآن" في المدارس لتشمل 100 ألف تلميذ على مدى ثلاث سنوات. لكنها في الوقت نفسه كانت كافية لتشعل من جديد صراع الهوية بين الإسلاميين والليبراليين ودور الدولة في تحديد الخطاب الديني.
وفي بلد ظلت فيه السلطة السياسية تملك على مدى عقود اليد الطولى في تحديد الخطاب الديني الرسمي، تحديداً منذ قيام دولة الاستقلال مع الزعيم العلماني الراحل الحبيب بورقيبة، فإن إعادة تعريف الهوية الثقافية اليوم يتجاوز مجرد صياغة دستور جديد أو حتمية التعايش والتوافق.
فمن دون شك يُحسب للانتقال الديمقراطي في البلاد الذي بدأ بعد انتفاضة 2011 ضد الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد، تعميم حرية التعبير والتدين وإنشاء الأحزاب. ولكنه في الوقت نفسه فتح الباب على مصراعيه لإعادة النقاش حول النمط المجتمعي، خاصة مع صعود أحزاب إسلامية كانت محظورة لعقود طويلة.
اللغة لمحاربة التكفير
تعتبر الحكومة التونسية أن الهدف من إستراتيجية "تحفيظ القرآن" تقف عند حماية الشباب والأطفال من الانحراف نحو الفكر المتطرف والتكفيري الذي دفع بالآلاف من التونسيين للالتحاق بجماعات متشددة في بؤر التوتر ليشكلوا بذلك أحد أكثر الجنسيات المشاركة في صراعات مسلحة خارج تونس، وفي صفوف تنظيم "داعش" المتطرف على وجه الخصوص.
كما تعتبر الحكومة أن خطتها ستعزز المهارات اللغوية للمستهدفين، في الوقت الذي رصدت فيه تقارير متخصصة حالة الضعف اللغوي التي باتت عليها الناشئة في تونس.
في هذا السياق يوضح رئيس منتدى الجاحظ الثقافي محرز الإدريسي،وهو أكاديمي مختص في البحوث التربوية، في حديثه مع DWعربية أن النقاش الدائر أخذ منحى ثقافياً، لكنه يحمل الكثير من النقاط الايجابية لأنه يعكس حالة البحث المستمر في تونس عن "الهوية"، وهي مسألة ثبت أنها لم تُحسم بعد على الرغم من النص عليها ضمن دستور جديد، كان قد حظي بتوافق عام بين مختلف الحساسيات السياسية.
ويضيف الإدريسي بالقول: "الشيء الإيجابي في الجدل الدائر هو أنه يتيح تعدداً في المقاربات والأبعاد الثقافية غير أن ذلك لا يخلو من التحفظ، إذ يتعين أن يكون هذا الجدل بمعزل عن أي حسابات سياسية أو إيديولوجية". فبالنسبة لمؤيدي المقترح الحكومي فإنه يُنظر إلى تدريس القرآن كأساس في تعليم الناشئة المهارات اللغوية و"حفظ النصوص المقدسة وترسيخ الانتماء الثقافي والديني".
لكن منتقدي هذه الخطوة يعتبرون هذه الإستراتيجية المعلنة من السلطة الدينية مشروعاً ثقافياً يهدد بإبعاد المدرسة عن دورها المعرفي والتعليمي الأصيل وتعزيزاً للنزعة الدينية التي يمكن أن تنتهي إلى نتيجة معاكسة.
بيد أن رئيس منتدى الجاحظ يرى أن النزاع القائم بين أنصار الإسلام السياسي والليبراليين يفقد معناه في ضوء وجود عدو مشترك وهدف واحد، وهو محاربة التطرف، ما يستدعي فعلياً فهماً متعدداً للقرآن. لكن الخطر الأكبر في كل ذلك، بحسب الباحث، هو الدخول في مرحلة من يملك الحقيقة على خلفية الفهم المتعدد.
وبغض النظر عن الصدام القائم في المقاربات فإن الأرقام في تونس تكشف عن واقع مخيف لمستقبل الديمقراطية الناشئة إذا لم تتخذ الدولة خططاً فعالة لمحاربة التطرف والانحراف. فالتقارير الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ترجح تواجد ما يفوق عن ستة آلاف جهادي تونسي يقاتل في بؤر التوتر خارج البلاد، بينما تكشف الحكومة التونسية عن مغادرة أكثر من مائة ألف طفل لمقاعد الدراسة بسبب الانحراف والفقر.
دور الدولة بين الحياد والتدخل
من جانبه يوضح الدكتور محمد الطالبي، وهو باحث ومفكر إسلامي ورئيس الجمعية الدولية للمسلمين للقرآنيين، في حديثه مع DW عربية أن محاربة الليبراليين والعلمانيين للنزعة الدينية يستدعي منهم المطالبة بتوخي ذات السياسات المتبعة في الدول العلمانية، التي تحظر التعليم الديني على اعتبار أن الدولة محايدة.
وينص الدستور التونسي الجديد لعام 2014 على الإسلام كدين للدولة، ولكنه يشير إلى التمسك بالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية والى حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية. وهي صياغات تلقى انتقادات من قبل فقهاء القانون الدستوري، كونها جاءت فضفاضة وتركت مجالاً لنقاشات لا تنتهي بشأن الهوية والدين ودور الدولة.
ويفسر الطالبي ما ذهب إليه في دعوته من أن الدولة كان يتعين عليها ألا تفرض ديناً وأن التعليم الديني أصلاً كان يجب أن يكون اختيارياً وليس إجبارياً.
ويضيف الطالبي بالقول: "في تونس هناك أقلية يهودية وهؤلاء لهم أبناء يذهبون إلى المدارس. هل يتعين إرغامهم على تعلم الدين الإسلامي؟ كان يجب أن يتوفر لليهود ما هو متوفر للمسلمين. فهم مواطنون تونسيون أيضاً".
لكن في كل الحالات فإن تعليم القرآن سواء كان إلزامياً أو اختياراً فإنه يتعين بحسب المفكر محمد الطالبي أن يكون منطلقه آيات متوافقة مع القيم العالمية والإنسانية مثل العدل والإحسان والأخلاق الحميدة وحرية الاعتقاد، والتعليق على هذه الآيات بما يتفق مع غاية الدولة.
في المقابل يشير رئيس منتدى الجاحظ أن إلى أن مقترح "تحفيظ القرآن" سيكون أكثر فعالية إذا اقترن بالفهم والتفكير وترتيب المعرفة على أن يكون ذلك ضمن حزمة متكاملة من الأنشطة الثقافية.
فيديو قد يعجبك: