متظاهرو "تيران وصنافير مصرية": حصلوا على البراءة فواجهوا البطالة (تقرير)
كتبت– يسرا سلامة:
في 25 أبريل الماضي، كان كلا من "ماجد وشريف وعمرو وشعبان" الأربعة لم يعرفوا بعضهم البعض، قبل أن يجمعهم المعسكر الأحمر بمدينة نصر بعد أن جمعتهم قوات الشرطة من أماكن متفرقة بوسط البلد، تعرفوا على بعضهم من خلال السجن، بعدما تم القبض عليهم من منطقة وسط البلد، وعلى خلفية تشديدات أمنية بنطاق المكان الذي كان يشهد دعوة للتظاهر اعتراضا على اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، والتي انتقلت فيه ملكية كلا من جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة.
عقب قُرابة الشهرين من القبض عليهم، أعلنت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار يحيى الدكروري قبول دعوى ضد اتفاقية ترسيم الحدود، وبموجبها بطلان الاتفاقية، أكد الحكم أن الجزيرتين مصريتيين، فيما بقت آثار القبض عليهم عقب خروجهم، فبعد مرور 41 يوما من الحبس على خلفية التظاهر دون قانون ونشر أخبار كاذبة، حصلوا مع 51 شخصا على حكم البراءة، بعد أن قضت محكمة جنح قصر النيل في 14 مايو الماضي بالحبس سنتين مع الشغل والنفاذ.
لم تمحُ البراءة ألم الساعات الطويلة داخل السجن، أو أسئلة دارت في أذهانهما عن سبب القبض، لم يدركوا أن براءتهم لن توقف المأساة، وسيواجهون بعدها وحش الحياة بوصمة في العمل والدراسة، دون الرجوع إلى حكم بالبراءة، مادام حكم المجتمع قد نفد، "مصراوي" التقى الشباب ليستمع إلى وقائع القبض عليهم، وكيف بدا السجن بأيامه الواحد والأربعين ذي تأثير كبير علي حيواتهم.
عمرو.. براءة بلا عمل
في وسط البلد، تحديدا بالقرب من ميدان الإسعاف، كان "عمرو علي" ينتظر أحد أصدقائه، قبل الذهاب إلى أحد المحلات لشراء ملبس له في يوم الإجازة، فاستوقفه فجأة أحد الضباط "تعالى معانا هنكشف على بطاقتك ونمشيك"، كان أيضا في يوم 25 أبريل.
أيام قليلة تحولت معها حياة الشاب إلى ساعات لا نهاية لها داخل السجن، انضم إلى صفوف المقبوض عليهم عشوائيا بحسب روايته، لا يعلم كيف تحول الأمر إلى قضية تظاهر "أنا كنت ماشي في الشارع"، قضى على خلفية القضية نفس المدة 41 يوما، تحولت حياة السجن القصيرة إلى مأساة، يكره فيها الزنزانة ويشتهي الحرية.
"أكثر شيء كان بيقتلني فكرة إني مش حر، وقت الحبس عرفت ليه العصفور بيفضل يصوصو جوا القفص".. يسرد عمرو، والبالغ من العمر 30 عاما. لا تربطه بالسياسة أي علاقة بحسب قوله، فيما أثرت على أكل عيشه "كان عندي بزنس قبل الثورة، محل وكانت الدنيا معايا كويسة"، توقف عمله، بعد فترة هاجر لمدة عام إلى الإمارات للعمل "قعدت سنة واحدة ورجعت، هناك المعيشة غالية جدا".
بعد عودته بفترة قصيرة، رزقه الله بعمل في إحدى الشركات الخاصة، مكث فيها عام واحد قبل أن يتم إلقاء القبض عليه، "كنت فاكر إنها قرصة ودن وهيروحونا، لحد ما لاقيت إننا خدنا حكم سنتين، كلنا انهرنا من الظلم"، يذكر الشاب عن حياة السجن، "الوقت جوا الزنزانة ما بيتحركش، الأكل مش بيتاكل، كان عندي في الأيام الأولى حالة اكتئاب، مكنتش بتكلم مع أي حد"، الوحدة والعزلة ووحشة السجن كانت بقسوة أكبر على عمرو عندما كانت الزيارات ممنوعة "مفيش حد من أهالينا كان مسموح له بالزيارة.. مش بس كدة مكنش فيه حد من الضباط بيتكلم معانا كان في حبس وبس".
10 آلاف جنيها هو الرقم الذي دفعه أهل "عمرو" للمحامي من أجل الإفراج عنه، "للأسف كل الأهالي تحت الضغط دفعوا فلوس كتير للمحامين، وده برضه ممنعش الحكم"، رغم البراءة لم يسلم عمرو كعدد ممن في قضية التظاهر ضد تيران وصنافير "أول ما خرجت من الشغل كلمت المدير بتاعي قالي انت اترفدت، اتقال علينا إننا إخوان وكلام مش صحيح، أنا كنت أمين مخزن وشايف شغلي، لكن اترفدت، وخلاص خدت الورق بتاعي، لو كنا في شغل حكومي مكناش اترفدنا، لكن الشركة الخاصة لأ، أنا مش عمالة زايدة وكان الشغل محتاجني، لكن حتى حكم البراءة مجبش نتيجة".
بشكل نهائي، تم فصل عمرو من عمله ولم يشفع له الحكم بالبراءة "الواحد مش عارف هيروح فين ولا هيعمل إيه بعد ما اطردنا" يتمتم عمرو، في الوقت الذي يواجه شريف الفصل من الجامعة الخاصة، وفي انتظار أن يعيد السنة مرة أخرى بعد التفاوضات مع الجامعة على الرغم من حكم البراءة الصادر لهم، ولقرابة 61 آخرين، وكغيره أيضا، فقد عمرو اللاب والموبايل وكل أدواته عقب القبض عليه، لم يكن الرفت أصعب ما يوجهه عمرو "كان المفروض إني اتجوز شهر يوليو اللي جاي، لكن الدنيا وقفت.. مين هيعوضنا عن ده كله؟".
"شكلك كدة اشتراكي و6 أبريل"
لم يكن "ماجد.ق" -اسم مستعار بناءا على طلبه- له أي علاقة بالسياسة من قبل أن يلقى القبض عليه، "اهتمامي بالمزيكا والشغل وبس"، علاقته المنقطعة بالسياسة لم تجعله يدرك أن محيط وسط البلد مكانه المعتاد للقاء أصدقاءه سيكون بؤرة للقبض العشوائي في هذا اليوم، "يوم الاثنين صادف إنه أجازة وكنت نازل أقابل أصحابي، بس استغربت لإني لاقيت البلد كلها ثُكنة عسكرية"، المكان الذي يرتاده بالقرب من ميدان طلعت حرب -والبعيد عن مكان التجمع حينها "نقابة الصحفيين" لم يُبعد الشاب عن الترحيل في عربة شرطة.
بداخل الكافيه، فوجئ الشاب باثنين من الضباط يسألون الرواد عن هويتهم الشخصية وسبب التواجد، "بقالي 12 سنة بقعد في وسط البلد"، يردف الشاب إن تلك المرة التي سأله الضابط فيها عن تيران وصنافير كانت المرة الأولى لسماعه بهذا الاسم، "علاقتي بالسياسة لما اعرف أن السجاير غليت، النور بيقطع كتير، مش أكتر من كدة"، يتذكر الشاب ما فعله الضابط بأن تصفح الفيسبوك الخاص به "دور في الرسائل كلها، وأتأكد فعلا إني مليش علاقة بالسياسة"، يرد الشاب "لو كانوا عملوا حظر تجوال مكنتش نزلت".
كان قدر الشاب أن ينتظر طويلا من ظهر ذلك اليوم إلى قرابة التاسعة مساء خلف مجمع التحرير، ليجد تجمع شرطي مع عدد من المقبوض عليهم، في هذا التجمع كان يتم فرزز موبايل الشاب، ويأمر الضابط بأخذ ماجد بتهمة إنه "اشتراكي"، ويسأل الشاب "يعني إيه اشتراكي يا بيه؟، ليرد الضابط "هو شكلك كدة.. دقنك وشعرك بيقولوا إنك اشتراكي".
موعد الخروج "مجهول"
قبل ذلك بساعات، كان "شريف عادل" الطالب الجامعي ذي التاسعة عشر عاما لم يكن قد وصل إلى مبلغ هدفه وهو إحدى القهاوي في شارع هدى شعراوي بوسط البلد، كان بصحبة زميل وزميلة له ومعه كاميرا ملك لصديقه تركها معه في هذا اليوم، استوقفهم أيضا مجموعة من المخبرين بالزي المدني، الأسئلة ذاتها "بطايقكم، رايحين فين، تعرفوا إيه عن تيران وصنافير".
"اتعاملوا معاه".. إشارة من أحد الأشخاص لشريف كانت عقب وصوله إلى ذات المكان خلف مجمع التحرير، جعلت منه ملاذا للعساكر للتفتيش الكلي، زادت حدتها خاصة إن شريف حصل على لقب "المشاغب"، لرفضه إلقاء القبض عليه دون إذن نيابة، ورفضه للتعامل السيئ من قبل الشرطة مع المقبوض عليهم "ضربوا فيا وخدوا التليفونات، رغم إنهم مش واخديني من مظاهرة، من الشارع زي أي مواطن".
لم يحصل الشباب على ردود صريحة بأسئلتهم المترددة عن موعد الخروج أو التهم الموجهة لهم، حتى جاء رد من أحد الضباط "انتوا قضية رأي عام، يعني محدش هيخرج دلوقتي"، يقول الطالب "اللي كان بيعلي صوته كان بيضرب بالقفا والشلاليت زي ما حصل معايا"، مكث الشباب في المعسكر الأحمر خمسة أيام، بقوا اليوم الأول بدون طعام تماما، كانت في تلك الأيام رتب مختلفة تدخل إليهم، "كل ضابط كان بيقول حاجة مختلفة، ناس تقلنا هتخرجوا، وتانين يقولوا إنسوا الخروج.
"التظاهر دون تصريح، نشر أخبار كاذبة، زعزعة الأمن العام".. ثلاثة تهم سمعها الشباب كل على حدة من تحقيقات الأمن الوطني، خلالها كانوا انتقلوا إلى نيابة عابدين، وسمعوا أصواتا لتجمع الأهالي خارج سور المبنى، "دول أهاليكم عايزينكم تخرجوا .. إيه رأيك؟" سؤال وجهه الضابط إلى شريف، ليرد الطالب "يا فندم لو ابن حضرتك محبوس زينا أكيد هتعمل أكتر من كدة"، ليقول الضابط "ابني عمره ما يبقى زيك.. وإحنا عملنا لكم قيمة لما قبضنا عليكم".
انتقل عدد 33 من المقبوض عليهم إلى سجن 15 مايو "كان المفروض نروح لطرة لكن بعدونا عن أهلنا"، يقول ماجد إن فور دخولهم للسجن قيل لهم إنها المرة الأولى التي يأتي مسجونين سياسيين إلى هذا السجن، ومن أجل ذلك تم تسكينهم في قسم "الأموال العامة" بالمكان. كل 11 شخصا في غرفة، بدت الدقائق قليلة حتى موعد الجلسات، وقت سماعهم للحكم "سنتين" الحكم الذي صدر في 14 مايو الماضي، "كنا فاكرين الموضوع هزار.. الأمين قالنا احمدوا ربنا انهم سنتين"، يصمت للحظات ثم يعقب ماجد بأسى "بس مش عارف ليه عمر الواحد يضيع ويتقبض علينا عشوائي؟.
الجنسية مقابل الحرية
"فيه ناس جوا بعد الحكم بسنتين قالوا هنتنازل عن الجنسية المصرية ونطلب اللجوء لأي بلد تانية".. بعضهم لم يستقبل الحكم بالسخرية، وظلت محاولتهم الأخيرة للاستئناف "كانت آخر أمل لينا إننا ناخد براءة" يقول ماجد، لم تكن قبل الحكم بالبراءة حياتهم داخل السجن كمتهمين بل كمذنبين يستحقون "الضرب"، يردف الشاب "كانوا بيضربوا فينا طول الوقت لإننا كنا رافضين الخروج من الزنزانة، زمايلنا شافونا وكان فيه عساكر بيتعاطفوا معانا"، يلتقط ماجد خيط الحديث "كنا بنسمع صوت شريف وهو بيتألم من الضرب في الزنزاة جنبنا".
طلب المسؤولون في السجن من ماجد وشريف وشعبان أن يبقوا فقط بالملابس الداخلية في أول قدومهم، "كل هدومنا وحاجتنا من ساعات وموبايلات وكوتشي اتاخدوا"، يتابع ماجد ساخرا وحزينا "للأسف مخدتش من الأمانات غير جراب الموبايل بتاعي"، الحياة على أعتاب السجن كانت قاسية دون معرفة وقت محدد للخروج "كنا بنقول لنفسنا وقت وهنقضيه ونخرج"، يردف الشاب، امتنعت عنهم الجرائد ومعرفة أخبار ما يدور حولهم كما يقول "شعبان".
"السجن مش جاردن سيتي"
طعام من بطاطس غير نظيفة، لحمة مرة إسبوعيا، أو عدس أصاب شريف بمغص في أول مرة يأكله، كان الطعام الوارد لهم في الحبس، "إنتوا فاكرين نفسكوا في جاردن سيتي؟"، كان رد أحد المسؤولين بالسجن حين اشتكوا من سوء الطعام، بالإضافة إلى منع السجن لزيارات لهم بحسب الشباب "الأمناء كانوا بقولولنا انتوا مش بتجلكوا زيارات ليه ولما خرجنا عرفنا إن أهالينا زارونا كتير لكن منعوهم من زيارتنا"، أحد القدماء في السجن نجح في تهريب "ورقة وقلم" لهم، فكتبوا خطابات لأهاليهم، لم تصل بعد أن اكتشفت إدارة السجن الواقعة.
البراءة وحدها لا تكفي
كانت جلسة الاستئناف على الحكم بمثابة الرمق الأخير للشباب، حصل فيها المسجونين الحاضرين للجلسة عن حكم البراءة، التخبط في أوراق القضية جعل حكم البراءة الأسهل، خاصة بعد شهادات مختلفة لضباط ألقوا القبض عليهم، بعض الشهادات أكدت إنه تم إلقاء القبض عليهم من الشارع وليس من أي تظاهرة، بجانب عدم صلاحية كاميرات مثل كاميرات المتحف المصري للعمل لصيانتها "للأسف مفيش أي كاميرا توضح حقيقة القبض علينا، لكن واحد من المقبوض عليهم استعان بكاميرا أحد المحلات الخاصة في الشهادة، واللي أثبتت القبض عليه من الشارع وليس من مظاهرة".
أكثر ما أزعج أحمد شعبان، الموظف بمراقبة الجودة في شركة بورتا مصر، والبالغ من العمر 32 الطقوس داخل الزنزانة "كنا منعزلين تماما عن الدنيا اللي برة"، كما البقية تحمل حياة السجن بطعام سيئ وبأيام صعبة "كان من المفترض إن التريض يكون يوم ويوم، لكن كنا بنطلع مرة واحدة بس في الإسبوع".
رغم البراءة واجه الكل مصير لا يختلف كثيرا عن حياة السجن، منهم شريف الطالب في جامعة مصر الذي فوجئ بفصله من الجامعة عقب احتجازه طيلة تلك المدة، منعه الحبس من الدلوف إلى الاختبارات الجامعية، "البراءة مش كفاية، ولو الإجراءات القانونية متعنتة هضطر أعيد السنة تاني.. حرام كل ده مستقبله يضيع. اللى من الفيوم واللي من البحيرة.. أغلبنا اتقبض عليه من الشارع، ومحدش كان عارف مصيره".
فيديو قد يعجبك: