حوار - حمور زيادة: المنطقة العربية متأخرة في الحريات والأدب يؤنسن التاريخ
كتبت – نسمة فرج:
عشق الحكي ووجده طريقة مثلى للفهم والاستيعاب، بعد الاستماع لحكايات جدته عن علاء الدين وبساطه، والسندباد ورحلاته، ووجد في القراءة ملاذا له، لتكون "اللص والكتاب"، أول ما قرأه فيقرر فيما بعد أن يصبح كاتبا، بل من أشهر الكتّاب السودانيين، وأبرزهم، ليمتع قرائه بـ "الكونج"، و"سيرة أم درمان"، و"شوق الدراويش"، ويحصد بها على جائزة نجيب محفوظ للأدب.
وفي حواره مع "مصراوي"، يتطرق الروائي السوداني حمور زيادة، للكثير من المواضيع من بينها سبب تركه للسودان، ويطلعنا عن رأيه في "الربيع العربي"، وموقفه منه، ووضع الحريات في مجتمعنا العربي والأفريقي.
بداية حدثنا عن البدايات والنشأة، وبداية العلاقة مع الأدب والرواية؟
ولدت بالسودان، في مدينة أم درمان القديمة في حي من أعرق أحياءها، على مرمى حجر من قبر الإمام المهدي. في قلب شوارع تعشق الحكايات وتقتاتها، ونشأت في أسرة محبة للقراءة، وتحت قدمي جدة اسطورية في تمكنها من سرد القصص، وربما كان مقدراً لي منذ يومي الأول، صبيحة الثلاثاء البارد في شهر يناير الذي ولدت فيه، ربما كان مقدراً لي ألا أحب إلا الأدب والرواية والحكي.
قرأت "اللص والكتاب" وانت دون العاشرة كيف استوعبتها؟
لم أستوعبها بالتأكيد، في المرة الأولى التي وقعت تحت يدي في مكتبة والدي ظننتها رواية من روايات المغامرات التي ادمنها، فاسمها يحمل كلمة "اللص"، وغلافها به فتاة تصرخ ويد تمسك بمسدس، لكني فوجئت بعالم آخر لم أتوقعه، لم أفهمها جيداً لكني أحببتها شجعتني على المحاولة مرة أخرى في روايات تشبهها.
صرحت قبل ذلك بأنك تتمنى أن تكتب كما كانت تحكي جدتك.. فما هي تلك الحكايات ودورها في حياتك كروائي؟
جدتي كانت حافظة للقرآن، وراوية للسير والقصص الديني، وملمة بالحكايات الشعبية، كانت تحكي لي ليلاً قصص مغامرات محمد الذي يحب فاطمة الجميلة، وصراعاته مع الغيلان والساحرات أو حكايات يوسف ابن السلطان، الذي يرحل مخترقاً المجهول ليتزوج "هيلوة" الجميلة التي سمع عنها ولم يرها.
فأسلوب جدتي، وصوتها الحلو به تنغيم الأغاني وسط الحكايات، وتقليدها للشخصيات، تلك كانت أول ما جذبني لعوالم القص، ومازلت أعتبر الحكايات البكر التي سمعتها منها هي أجمل الروايات في العالم، الصديق الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف قال عن جدته انها أفضل روائية في العالم، وأنا أدعي أن جدتي هي أفضل روائية في العالم، ربما في حياة كثير من الروائيين تلك الجدة الاسطورية، كلية المعرفة، المتمكنة من الحكي، التي تؤثر وهي لا تدري في مستقبل حفيدها، فتقذفه في بحر الأدب.
ما الخصوصية التي يتميز بها الأدب السوداني؟
تلك المزاوجة التي يمتاز بها المجتمع السوداني، بين الثقافة العربية والثقافة الإفريقية، فحتى الدين في السودان تمت تفرقته، ليناسب عادات وأمزجة أهل البلاد، كما إن هناك لغة طازجة لم تمجها الذائقة العربية بعد، لغة لم تكتشف لكثير من القراء.
هل تصنف نفسك كاتبا ضد السلطة؟
أعتقد أن كل مثقف يجب أن يكون ضد السلطة، أو لنقل انه تلقائياً ضد السلطة، أو يسارها، حتى لو لم يشأ ذلك، الكاتب يطلب الحرية، سقفه عادة ما يكون أعلى مما تتحمله أي سلطة، الكاتب عادة ما يكون موقفه نقدياً مما حوله، والنقد في مجتمعاتنا يجلب العداء، سواء من السلطة، أو الناس.
كونك عملت في مجال الصحافة.. ما رأيك في أوضاع الصحفيين وما يتعرضون له من تقييد للحريات ؟
وضع سيء جداً؛ يكفي أن ننظر إلى التقارير السنوية لمنظمة مراسلون بلا حدود لنجد دولنا دائماً في قاع التقارير من حيث مقياس حرية الصحافة.
نحن في دول تعتبر الصحافة يجب أن تستمر على خط "الغازيتة الرسمية"، حيث تكرر ما تريد الأنظمة قوله للشعوب، والمجتمعات نفسها لا تتقبل حرية الصحافة برحابة صدر، تحت دعاوي الحفاظ على سمعة البلاد، أو تقاليد المجتمع.
هذه القيود أفرزت حالة صحفية تجعل الصحفي يتطوع ليصف حادثة أو ظاهرة في المجتمع بـ" حادثة غريبة على مجتمعاتنا "، وأصبح الصحفيون أنفسهم يشاركون المجتمع والسلطة – إلا فيما ندر – الرغبة في تجميل الواقع.
لماذا تركت السودان، ولماذا اخترت مصر دون غيرها للإقامة؟ والآن في ظل الأوضاع المتغيرة هل تفكر في البحث عن مكان جديد؟
صار الوطن ضيقاً عليّ، وغير آمن، فخرجت مكرهاً، لست رجلاً سياسياً لأربط غربتي بالسياسة في المقام الأول، لكن السياسة تلقي بظلالها الثقيلة على كل عمل عام في بلادنا.
بالنسبة لي كان تحدي الغربة مرتبط بأن أنجز شيئاً ما في مشروعي الأدبي، هذا ما شجعني على الاقامة في مصر وهو الحلم الذي مازلت أطارده، وأتمنى أن احققه ورغم اضطرابات مصر لا أفكر في مغادرتها، ربما لقربها من السودان، لا اطيق أن أذهب أبعد من ذلك. وربما لمعرفتي القديمة بها وبمجتمعها وتاريخها وثقافتها. هذا أمر يقلل احساس الغربة. وأيضاً لأهميتها كمركز ثقافي له ثقل في الوطن العربي.
كيف ترى الوضع في السودان الآن؟
لم يتغير شيء كثير، ما زال السودان يتأرجح بين السوء والسوء الشديد، السودان من أسوأ الدول في قائمة الفساد، ويتصدر مكاناً متقدماً في قوائم الدول الفاشلة. رغم أن النظام السوداني محظوظ دائماً بالتناقضات الدولية التي يحسن استغلالها حتى حين يراهن رهانات خاطئة، كرهانه على دعم العراق في حرب تحرير الكويت، لكن هذا الحظ تعترضه دائماً عثرات مثلما حدث في جنوب افريقيا حيث كانت السلطة السياسية حامية للبشير، وقدمت تعهداً بعدم تسليمه للجنائية، لكن منظمات المجتمع المدني استطاعت أن تحرك القضاء المستقل ضده مما اضطره للهرب.
من وجهة نظرك هل الأمر مختلف في مصر والمنطقة العربية؟
المنطقة العربية كلها متأخرة في الحريات، على تفاوت بين الدول كما أن هناك تفاوت في الخدمات ورفاهية المواطن، وفي مستوى التعليم والأمية والبطالة من الصعب أن نحكم على المنطقة العربية كلها حكماً دقيقاً لكن في المجمل فإن وضع الحريات سلطوياً ومجتمعياً وضع سيء، على تفاوته.
تقول إن "قدم الثورة ثقيلة مثل قدم الطغيان"... ما تفسير ذلك؟
الثورة فعل ضرورة وهي فعل عنيف الثورات انفجارات، لذلك يكون لها ضحايا، واحدة من أعظم الثورات في التاريخ الحديث هي الثورة الفرنسية التي نشرت مفاهيم الحرية والاخاء والمساواة، أراقت دماء كثيرة ونشرت قمعاً باسم الثورة وباسم العدل، شهوة الانتقام جعلت النبلاء يعدمون بالمقصلة في الميادين العامة وسط تهليل الناس.
فالثورات ليست أمراً رومانسياً، لكنها تكون ضرورة عند انسداد الأفق السياسي لهذا تمتلك الديموقراطيات وسائل لتطوير نفسها دون الحاجة لهذه الانفجارات لذلك لا تحدث ثورات في الغرب لأن المواطن لديه وسائل للتغيير وللتعبير عن نفسه دون ردة فعل عنيفة، أقصى ما يحدث هو موقف عنيف ضد انتهاكات الشرطة مثلاً، أو ضد سياسة اقتصادية ما، ويتم استيعاب هذا الغضب مباشرة داخل المنظومة السياسية، دون الحوجة لهدمها كلها.
هل نجح المبدعين في تعبير عن الثورات الربيع العربي؟
لا أظن المبدعين مطالبين بالتعبير عن الربيع العربي تحديداً فمشروع المبدع أقدم وأعمق من ثورات الربيع العربي المفاهيم التي يطالب بها المبدعين ويعبرون عنها، هي الأرسخ والأبقى والثورات تحاول تحقيقها أو اللحاق بها، لذلك ربما كان السؤال الأنسب هو "هل نجحت ثورات الربيع العربي في تحقيق ما يعبر عنه المبدعون؟"، وحتى الآن تبدو الاجابة لا.
صدر لك العديد من الأعمال الأدبية منها "الكونج والنوم عند قدمي الجبل" و"شوق الدرويش" كيف ترى رحلتك الأدبية؟
أظنها مازالت في بدايتها، لدي الكثير لأتعلمه. والكثير لأكتب عنه. أنا محظوظ أني رأيت الكثير في السودان، وعرفت الكثير. هذا مجتمع وبلاد ثرية بالحكي وبالغرائب.
حصلت روايتك "شوق الدرويش" جائزة نجيب محفوظ لعام 2014، وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، ماذا تعني لك الجوائز الأدبية للكاتب وما الذي تغيره في حياته؟
الجوائز تقدير لطيف يسعد الكاتب كما ان العرف جرى على أن الجوائز تكرسك عند القارئ ككاتب متمكن وهو عرف قد نختلف أو نتفق عليه. لكنه يحدث.
بالنسبة لي قدمتني الجوائز لقراء كُثر، لم أكن لأصل للقارئ السعودي أو العماني إلا بهذه الجوائز لهذا أنا سعيد بها لأنها وسعت دائرة القراء، الذين هم همي الأول.
هل توقعت كل هذا النجاح لشوق الدرويش؟
لم أكن أظن أنها ستنشر أصلاً، حتى أتوقع لها نجاحاً كانت رواية كبيرة الحجم، تحكي أحداثاً في فترة تاريخية شبه مجهولة للقارئ العربي ولم أتوقع أن تعجب هذا القدر من الناس، أو أن تجد هذا التقدير من لجان الجوائز كنت أعتبرها مجرد عتبة عادية في سلم كتابتي لكنها رواية محظوظة، ووافقت مزاجاً لدى القراء لم أكن أستهدفه.
وقد تعثر نشرها في البداية لعدة أشهر، قبل أن توافق دار العين على هذه المغامرة كان نوعاً من المخاطرة إما أن تمر الرواية ونحمد الله على السلامة، أو تفشل فيتراجع ما حققته "الكونج" من شهرة نسبية وتوقعات حسنة لقادم أعمالي. لكن ما حدث فاق توقعاتي وتوقعات الناشر نفسه على ما أظن.
هل "شوق الدرويش" أعادت الرواية السودانية إلى المشهد الأدبي وكيف ترى ملامحَ الأدب السوداني الآن؟
لا أستطيع أن أزعم لها هذا. روايات د. أمير تاج السر مثلاً لم تغب عن المشهد الأدبي خلال السنوات الماضية، فقط شوق الدرويش أخذت حظاً من الرواج لأسباب متشابكة. وأظن أن الحظ والتوفيق كانا أبرز هذه الأسباب. للكتب حظوظ كما البشر.
لكن ربما كانت شوق الدرويش هي القشة المحظوظة التي أتت على ما راكمه عدد من الكتاب السودانيين كأمير تاج السر، وبركة ساكن، وأبكر آدم اسماعيل، فتبه عدد أكبر من القراء للأدب السوداني.
ما الذي دفعك لعرض هذه الفترة الحساسة في التاريخ السوادني؟
غواية الحكي هذه واحدة من أعقد الفترات في تاريخ السودان، وأمتعها بها الكثير مما يستحق أن يحكى بها أبطال، ومهزومين، وضحايا، وقديسين، وآثمين؛ فترة بها كل ما يحلم به الكاتب هي كنز. يمكنك أن تمد يدك إلى أي سطر فيها لتخرج بعمل روائي ممتع. غردون باشا البطل البريطاني وحيداً محاصراً في سرايا الحكمدارية ينتظر الموت أو النجدة أيهما يأتيه أولاً. القائد أحمد فضيل الذي ارتحل بجيش كامل بمعية أسر من نساء وأطفال، من حدود السودان مع الحبشة، شاقاً عرض البلاد حتى غربها، ليلحق بخليفة المهدي بعد هزيمة معركة أم درمان. مدينة المهدي وهي تستقبل الأعداء محتارة، وقد كانت تظن أنها ستغزو الدنيا قبلاً، فإذا بالمدافع تدكها. أينما ينظر المرء إلى تلك الحقبة وجد ما يشتهي من خامات لعمل روائي. هذه فترة أكبر وأعظم من شوق الدرويش وحدها.
هل ظهور داعش أكد على ما قدمته في الرواية من التطرف الديني؟
التطرف في مجتمعاتنا أقدم من داعش، بل أشد تجذراً منها؛ ما ترتكبه داعش هو ببساطة الخيال الديني المغروس في نفوس أغلبنا. أغلب مواطني المنطقة يؤمنون بالعقوبات الجسدية على أنها أوامر الله، وأنها الوسيلة الرادعة ضد الجرائم. فقطع اليد عندهم هو العقوبة المناسبة للسارق ولو قطعنا يد عدد من اللصوص سيرتدع البقية، فقط داعش تتجاهل التبريرات غير المنطقية التي يحاول البعض سوقها لعدم فعل ذلك مثل القول أن قطع اليد يجب أن يسبقه توفير الحياة الكريمة ولقمة العيش للمواطن. عندها إذا سرق يمكن قطع يده. إذن لا اعتراض على مبدأ العقوبات الجسدية لا وعي بتغير الزمان، وتطور المجتمعات، وحقها في استنباط مفاهيم جديدة للعدالة والعقوبة، دون أن يكون ذلك انكاراً أو تحدياً للنص الدين. فاذا قارنت التجربة الهولندية مثلاً في التعامل مع المجرمين، وكيفية اعادة تأهيلهم في سجون شبه مرفهة ليخرجوا الى المجتمع أفراداً أكفاء، إذا قارنا ذلك بفكرة "العقوبة الرادعة"، سينحاز كثيرون عندنا لفكرة القطع والصلب والإعدام في ميدان عام. تلك العدالة الانتقامية التي تنفذها داعش وتسوقها. قطع عنق من يقول كذا. بتر يد من يفعل كذا. هذه كلها بَنت ثقافة مجتمعاتنا التي تقدسها. فداعش لا تؤكد ما قدمته الرواية، بقدر ما تؤكد حاجة مجتمعاتنا للتطور هي حاجة حقيقية وليست ترفاً. فإما هذا أو الانقراض.
كيف يمكن للأدب أن يحمي التاريخ من التزوير وخاصة في تلك الظروف السياسية المتغيرة؟
الأدب لا يخوض معركة ضد التاريخ الرسمي الأدب يقدم تأريخه الخاص للمجتمعات، الأدب يحكي عن الناس، حين تقدم رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" فظائع الحرب، فهي لا تقف ضد انتصارات الحلفاء، إنها تقدم عذابات الافراد الذين لا يحتفي بهم التاريخ الرسمي أياً كان توجهه، تؤرخ لهؤلاء الأرقام الذين تحفل بهم قوائم النصر أو الهزيمة؛ الأدب يؤنسن التاريخ، بغض النظر عن الروايات الرسمية للتاريخ ومآلاتها.
كيف تقيم مستوى الرواية في العالم العربي، ومن يلفت نظرك من الروائيين العرب؟
الرواية تتقدم وتنتشر ربما كان ذلك من المحامد، وربما كان له عيوب. لكن المؤكد أن هناك حمى روائية عالية على مستوى الكتابة وعلى مستوى القراءة، في وسط هذا الزحام نجد كل شيء ونجد أعمالاً متفاوتة وأسماء متنوعة وفي تقديري هذا أمر جيد أن نخرج من صناديق تعريف أدب كل بلد باسم أو اسمين.
فيديو قد يعجبك: