إعلان

قصة بائع طبول.. بدأت بـ"نكسة 67" واستمرت 50 عامًا

05:19 م الثلاثاء 24 أكتوبر 2017

قصة بائع طبول

كتب- محمد زكريا:

في حي حدائق القبة بالقاهرة، على بعد أمتار قليلة من وزارة الدفاع، يتحرك محمد فرج بخطوات ثقيلة، بينما يحمل كتفه قفص من الورق المقوى يحوي عددًا من الطبول. يرتكن صاحب الـ75 عامًا إلى إحدى السيارات الواقفة بامتداد الرصيف، يصمت طويلًا، بينما تتبادل يده اليمنى الضرب بعصى خفيفة على طبلتين يحكمهما باليسرى، فيما يراقبه المارة في الشارع باستغراب، زاد منه هيئة غير معتادة للرجل العجوز، الذي تحمل كلماته حكاية طويلة مع بيع الطبول، بدأت مع "نكسة 67" واستمرت 50 عامًا.

قبل 65 عامًا، أزاح الضباط الأحرار حكم الملك عن مصر، وتقلدوا السلطة في حينها. في نفس الوقت كان فرج طفلًا في الـ10 من عمره. ضيق حال أسرته، دفعه الاعتماد على نفسه، بحث عن عمل يناسب سنه الصغيرة، فانضم لفرقة موسيقية تعزف بحفلات الزفاف.

مرت السنوات، وتحسن عمل فرج في الموسيقى، بالتزامن مع أهداف سياسية واجتماعية سعت ثورة يوليو إلى تحقيقها.

أصبح فرج شابًا عمره 25 عامًا، توارت أهداف يوليو وسط تعقيدات السياسة، قبل أن تُهزم البلاد بقسوة أمام إسرائيل في حرب العام 1967.

لم ينج المصريون من تبعات حرب الأيام الستة، التي امتدت لكل منحى في الحياة، غابت الفرحة وقل الطلب على حفلات الزفاف، تأثر عمل الفرقة التي كان فرج عضوًا فيها "فين وفين لما كان يبقى في فرح نروحله بالنهار، عشان بليل في حظر تجول" يتذكر صاحب الـ75 عامًا الحكاية كأنها بالأمس.

مرت الشهور ثقيلة على نفس فرج، لم يعد عمله يكفي قوت يومه وأولاده، في نفس الوقت امتلأت المقاهي بزملائه العاطلين عن العمل، حسم الشاب قراره بالبحث عن عمل يناسب خبرته في الآلات الموسيقية، عرض عليه صديق من التجار فكرة بيع الطبول، تردد فرج في البداية قبل أن يحمل منه "قُفة كبيرة" تحوي عددًا منها.

على مدار سنوات طويلة، يشتري فرج عدد صغير من الطبول متواضعة الهيئة، ويتجول في الشوارع حاملًا قفصًا مملوءً بها "من القاهرة لبنها للزقازيق للمنوفية"، يبيع الواحدة منها بـ"10 ساغ"، بعد أن يحصُل عليها من التاجر بسعر "6 ساغ"، فيما يُلبي عمله احتياجاته وأسرته.

آواخر السبعينات، اتجه اقتصاد مصر نحو الانفتاح، واتسع الفارق بين طبقات المجتمع، بينما لم يسر عمل فرج على الحال نفسه، كان المبلغ يكفي بالكاد قوت الأسرة المكونة من 6 أفراد، وآخر تستقطعه الزوجة من غذائها وزوجها لتعليم الأطفال.

أتم الأربعة أولاد تعليمهم، وحصل الأكبر على شهادة عليا، وكبر العمر بالأب المُكافح، الذي عانت قدماه من "خشونة في الركبة".

بدوره يأتي الزواج على أولاده، وعمله يتوقف على قدميه التي تؤلمه بشدة، لذلك بحث عن علاج يمنحه شرف استكمال مسيرته في الحياة، ولا يكلفه مبلغ يفوق مقدرته المادية الضعيفة.

في العام 2000، نجح فرج في الحصول على فرصة للعلاج على نفقة الدولة "كنت أروح وزارة الصحة أئيد اسمي، وادفع 2 جنيه و40 قرش".

استمر العلاج على نفقة الدولة طيلة 10 سنوات "في 2005 المبلغ كان 15 جنيه، وفي 2010 وصل 25 جنيه.. ومكنش عندي بديل غيره للعلاج"، قبل أن يُصدم بقرار لم يفهم أبعاده وتفاصيله في حينها، غير أنه حرمه من العلاج الرخيص.

في أحد أيام العام 2010، توجه فرج إلى المستشفى الحكومي، كعادته انتظر انتهاء الإجراءات المعتادة وبدء العلاج، قبل أن يصطدم بنتائج "خصخصة القطاع العام" التي ميزت تلك الفترة "المستشفى قالت لي وقتها، فتحي سرور وصفوت الشريف لغوا العلاج على نفقة الدولة"، يتذكر فرج كلمات نطقها الموظف الحكومي في تهكم.

حنق شديد تلبس الرجل المريض، والذي دعم الثورة التي اشتعلت في مصر بعد أقل من عام واحد، فيما زاد عمله وما تقاضاه من أجر نظير بيع الطبول في الشهور القليلة التي تلت انطلاقها.

رسالة الحياة طويلة، اقترب فرج من إتمام كتابتها؛ زوّج أولاده الأربعة، واستقروا بأحفاده في بيوت تخصهم، فيما يرفض الرجل العجوز أي مساعدة يقدموها له "لما يجي ابني يديني 20 جنيه، مش باخدها، ما هو عنده عيال ولبس ومدارس والحياة غالية".

لذلك يصمم ابن حي دار السلام على استكمال عمله في الشارع؛ رغم انكسار أحس به جراء ابتعاد الناس عن ثورة هتفت في يناير بحياة كريمة لمثله، وصعوبات شديدة ترتبت على كبر عمره، حسبما يحكي.

في شهر رمضان الماضي، كان فرج يسرح بطبوله، أملًا في تحصيل جنيهات قليلة "كلبة سعرانة عضتني"، توجه إلى "مستشفى دار الهلال.. خدت إبرة ببلاش"، بعدها بأيام كان موعده مع أربع جرعات من العلاج، تلقاها بمبلغ كان ثقيلًا على جيبه.

في الوقت الحالي، يواظب فرج على عمله بشكل يومي، يشتري طبوله من تاجر في منطقة بـحي مصر القديمة، يسرح صاحب الـ75 عامًا بقفص يحوي حوالي "15 طبلة حجمها متوسط، و5 صغيرين".

لحوالي 10 ساعات، تصل أحيانًا إلى 15 ساعة، يدور فرج بقدمين متعبتين، بمناطق "عين شمس ودير الملاك وحدائق القبة والزيتون والسيدة زينب وعابدين والعتبة". يبيع الكمية التي يحملها، في يومين أو ثلاثة "حسب الرزق"، بمتوسط 5 إلى 10 طبول يوميًا، فيما يتحصل في المقابل 25 جنيهًا يوميًا على الأكثر.

تساعده زوجته، التي تعاني من مرض في الكبد، وتتلقى على إثره علاج يتكلف أكثر من 150 جنيهًا شهريًا، ببيع قطع الحلوى المُعلبة، أمام منزلهم، فتحصل على جنيهات معدودة.

يتمنى فرج أن يزيد الطلب على ما يبيع، بعدما قل كثيرًا في الثلاث سنوات الأخيرة "الحاجة لما بتغلى شعبيتها بتقل"، فيما يأمل في جمع مبلغ من المال، يساعده في عمل نظارة طبية، تقي عينيه الغيام الذي كونته المياه البيضاء "وأنا بعدي الطريق مببقاش شايف العربيات من بعيد، فبضطر استنى حد بيعدي عشان أعدي جنبه" يقولها فرج بأسى وهو يشير إلى عينيه المتعبتين.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان