من أمريكا إلى "الدمرداش".. مصراوي يرصد رحلة زراعة أول قرنية صناعية في مصر
كتبت - إشراق أحمد:
أربعة أعوام لم يرَ فيها كيرلس موريس بعينه اليمنى إلا ضوءًا ساطعًا. أجريت له جراحتا زراعة قرنية، فشلت آخرهما في إبريل 2015، فقد من بعدها النظر والأمل، لا سيما بعدما عرف قبل عامين ألا علاج إلا بتدخل جراحي لا يحدث سوى في أمريكا وبتكاليف لا يقدر عليها الشاب العشريني. لكن قبل أسبوع تبدل الحال؛ عادت الرؤية لعين كيرلس بعدما وقع الاختيار عليه ليكون أول حالة تُجرى لها عملية زراعة قرنية صناعية في مصر.
الخميس 28 مارس الماضي أُجريت العملية الجراحية لكيرلس. في مستشفى الدمرداش الجامعي، كان القلق يتملك قسم طب وجراحة العيون بداية من رئيس القسم شريف علوان، وحتى أصغر طبيب ومساعد، الذي يقول علوان إنهم شكلوا 12 شخصَا أتموا على مدار 6 ساعات الجراحة، والتي كانت نتاج سنوات، بدأت بذرتها من طبيب شاب.
في الوقت الذي تأكد فشل العملية الثانية لزراعة قرنية لكيرلس، وقدم من المنيا إلى القاهرة باحثًا عن حل بمساعدة شقيقه الأصغر جرجس، الدارس للطب في مستشفيات جامعة عين شمس، كان فارس إسحاق يُنهي سنوات نيابته في قسم طب وجراحة العيون في مستشفى الدمرداش، ويتهيأ لاستكمال دراسته لأمراض العيون، فعرف الطبيب عن حالة كيرلس ضمن الكثير ممن التقي بهم، وتأكد له أن الكثير غائبًا عنه "حسيت إن تدريبنا ضعيف في زراعة القرنية بصفة عامة. يمكن دلوقت الدكتور شريف علوان عامل شغل ممتاز، وبدأ النواب يشوفوا عمليات لزراعة القرنية، لكن أيامنا مكنش فيه" يقول إسحاق الطبيب المشارك في عملية زراعة القرنية الصناعية.
على مدار أعوام لم ينس كيرلس مرضه، لازمه خاصة وأن عينيه كل زاده "أنا شغال ترزي والنظر ضروري في شغلانتي" كما يقول لمصراوي، فيما ظل يشعر علوان رئيس قسم طب العيون بالمرارة في كل مرة يخبر فيها مريض فشلت عمليات زراعة قرنية طبيعية له أنه لا علاج له في مصر، بينما احتفظ إسحاق بسعيه "بعد ثورة يناير شوفنا حالات كتير، ودي كانت رسالتي للماجستير عن إصابات العيون بالطلق الناري"، درس إسحاق 120 حالة ومن وقتها علم أن المشكلة ليست فقط في المعرفة "إحنا نعرف كل العمليات لكن معندناش قرنيات لأن معندناش بنك عيون ودي أسباب المشكلة اللي بتقابل أطباء العيون الشباب في مصر"، لذلك قرر السفر إلى أمريكا لمزيد من المعرفة.
أرسل إسحاق للعديد من الجامعات من بينها جامعة إلينوي في شيكاغو، ثاني أكبر مستشفى جامعي في أمريكا تجري عمليات زراعة القرنيات "بيتعمل فيها بين 9 إلى 10 عمليات سنوياً". قُبل طبيب العيون في "إلينوي": "قلت لهم أنا طبيب مصري عايز أعرف أكتر عن القرنيات وبعت لهم رسالة الماجستير". سافر لثلاثة أشهر تدريبًا، تعرف وقتها على القرنيات الصناعية لأول مرة، ليأخذ قراراً مصيرًا باستكمال دراسة الدكتوراه، بعدما منحته الجامعة الأمريكية فرصة الدراسة والعمل على مدار عامين.
بعد شهرين من الزواج سافر إسحاق إلى شيكاجو، غادر زوجته الطبيبة في مارس 2017، ولم يكن يلتقيها سوى أسبوعين كل أربعة أشهر. ما كان أمامه سوى هدف الدراسة وكيفية إدخال زراعة القرنيات الصناعية إلى مصر؛ وتيسر له الطريق ثانيةً بعدما رحب علوان، رئيس قسم طب وجراحة العيون في مستشفى الدمرداش، والمشرف عليه، بالفكرة وبدأ في التعاون من أجل إحداث شراكة مع "إلينوي".
عبر الاتفاق مع الجامعة الأمريكية تم التبرع بقرنتين صناعيتين مجانًا، والتي يبلغ تكلفة الواحدة منها نحو 5 آلاف دولار أي ما يعادل 90 ألف جنيه مصري، تحددها الجهة الوحيدة المصنعة في أمريكا. وأشرفت الطبيبة اد سوليداد كورتينا من "إلينوي" على العملية الجراحية التي أجريت لكيرلس بعدما قدمت إلى مصر في 25 مارس الماضي.
استوفى كيرلس شروط الاختيار بين عدد من الحالات التي بحثها أطباء مستشفى الدمرداش يقول علوان، "لازم ميكونش عنده جفاف في سطح العين، أو التصاق في الجفون، وارتفاع ضغط العين أو مشاكل في الشبكية والعصب البصري"، فليس كل مريض قرنية تصلح له الزراعة الصناعية، إذ تخدم الذين أصبحت أجسامهم لا تقبل القرنيات الطبيعية المتبرع منها من المتوفين، ويوضح إسحاق أن الدراسات أثبتت انخفاض نسبة نجاح العملية عند زراعة القرنية للمرة الثالثة فتكون بين صفر إلى 5%.
في الطابق الرابع لمبنى قسم أمراض الباطنة، حيث الدور المخصص لقسم العيون، وداخل غرفة وُضع على بابها ورقة مكتوبًا عليها "ممنوع الزيارة"، وتعلو أكياس مملوءة بالقطن والقفازات والكمامات الطبية إلى جوار معقم يلزم استعماله لكل العابرين إلى كيرلس. يجلس الشاب واضعًا على عينه اليمنى غطاء وقائي، ينزعه ويضعه سريعًا. يحظى المريض باهتمام، ما زال لا يستوعبه هو وشقيقه، خاصة أن آخر اتصال بينهما والطبيب إسحاق كان قبل عامين "قال لي العملية مش موجودة غير في أمريكا لكن لما ييجي دكتور أمريكي مصر هقولك" وصدق طبيب العيون، عقب عودته إلى مصر في 15 مارس المنقضِي.
بعد 24 ساعة من إجراء العملية وإزالة العصابة عن عين كيرلس. وقف جرجس مشيرًا لشقيقه بيديه صانعًا أرقامًا، ثم يبتعد أكثر كلما تبين كيرلس الإشارة وأخبره أنه يراها، لنحو 4 أمتار استطاع الشاب الرؤية. فرحة غمرت الشقيقين لم يشعرا بها منذ فترة طويلة، احتضنا بعضهما البعض بينما تفيض عيناهما من الدمع. يقول إسحاق إن معدل نظر الشاب الآن (6/24) وفي طريقه للتحسن.
لم تكن السعادة من نصيب كيرلس وأسرته فقط، لمست أيضًا رئيس قسم العيون "العملية دي فتحت لنا الباب لعمل علميات للمرضى اللي كنا بنقول لهم ملكش عملية. كان بيبقى قدامي عيان مش عارف أعمل له حاجة رغم إن الطب وصل لدرجة متقدمة لكن مكنش متوفر عندنا. الآن أصبح عندنا وسيلة". يقول علوان إن العيادة التخصصية في الدمرداش تستقبل خلال عملها ليومين أسبوعين، في كل مرة بين 20 إلى 30 مريضًا، نصفهم تقريبًا يحتاجون عمليات زراعة قرنية سواء الطبيعية أو الصناعية.
كانت العملية خطبًا يستحق الاهتمام بين الأطباء. يتذكر إسحاق طلب الطبيبة الأمريكية بنزع العصابة عن عين الشاب في اليوم التالي للعملية على غير المعتاد لتلمس النتائج الأولى لنجاحها، لكن الأطباء الصغار ممن شاركوا في العملية لم يستطيعوا صبرًا، ضاحكًا يقول إنهم أخبروه في اليوم ذاته أن كيرلس أصبح يرى.
لم تكن العملية الأولى لإسحاق في زراعة قرنية صناعية لمريض، شارك في أمريكا ضمن الفريق الطبي لنحو 7 حالات، ورغم ذلك الفرحة هذه المرة مختلفة " كان أحد أحلامي الصغيرة أني أساهم في شيء يفيد المرضى في مصر عشان كده سافرت أمريكا حبيت أتعلم حاجة جديدة وكمان أقوم بالدراسة". ذاق أسحاق لحظة امتنان المرضى بعدما يُرد إليهم بصرهم، يتذكر رجل خمسيني التقاه العام الماضي في "إلينوي"، أصابه صعق كهربائي أتلف عينيه، لكن نجحت عملية زراعة قرنية صناعية له، وفي اليوم التالي لرؤيته حضرت أسرته "كنا كأننا في فرح في المستشفى"، فيما أخبرهم الرجل "دي لحظة مميزة بقالي 35 سنة مشوفتش".
12 ألف جهاز للقرنية الصناعية زُرع في عيون مرضى حتى مارس 2015 منذ عام 1992 كما يقول إسحاق عن آخر إحصاء أمريكي. تأتي العملية الأولى في مصر بعد 27 سنة من اعتمادها من قبل منظمة الصحة العالمية في التسعينيات على يد طبيب أمريكي في مدينة بوسطن يدعى "Claes Dohlman"، وهو مخترع القرنية الصناعية وأول مَن أجرى زراعتها في العالم، وأصبحت أسرته مالكة حق بيع وتصدير هذا الجهاز كما يقول إسحاق.
يرى رئيس طب وجراحة العيون في الدمرداش أن خطوة إجراء العملية "مش متأخرة كتير"، فيما يؤكد أنه لا يوجد إحصاء رسمي بعدد مرضى العمى القرني في مصر، بينما تقدر منظمة الصحة العالمية عددهم في العالم بنحو 4 ملايين سنويًا، إذ يشكل السبب الرابع لفقدان البصر كما يقول علوان، مشيرًا إلى أن أمريكا تُجري نحو 300 عملية زراعة قرنية صناعية سنوية، ويقول إسحاق إن بنك القرنيات الأمريكي يتولى زراعة 70 ألف قرنية سنويًا فضلا عما يصدره.
مضى أسبوع على إجراء أول عملية لزراعة قرنية صناعية في مصر. يتابع الأطباء المشاركون حالة كيرلس عن كثب، بمن فيهم الطبيبة الأمريكية. يحمل الجميع صفة الانتظار. ينتظر إسحاق خلال الأسابيع القادمة مناقشة رسالته للدكتوراه عن مضاعفات زراعة القرنيات الصناعية، يمتن لمشاركته في العملية "إحنا أخدنا الثقة لأن مش أي حد بيحصل على الجهاز أو يجري الجراحة دي"، يعتبر انضمامه للفريق الطبي مجرد خطوة في طريق حلمه بوجود بنك للقرنيات في مصر، وتغيير الوعي نحو فكرة التبرع بالأعضاء التي توفر الكثير من الأموال وتساهم في إحياء مرضى كما يقول، فيما لا يتوقف قلق رئيس قسم طب وجراحة العيون في الدمرادش على كيرلس، منتظرًا يوم إعلان العملية الثانية، وتنفيذ المزيد من الجراحات لمرضى آخرين بعدما عُقدت الشراكة مع "إلينوي" أن يمنحوا القرنيات الصناعية للدمرداش بنحو خمس ثمنها الفعلي، داعيًا أن تحظى الدمرداش باهتمام المتبرعين.
أما كيرلس، فينتظر رؤية أسرته المتواجدة في المنيا حينما تسمح لهم الزيارة، بينما يستشعر الامتنان كلما نظر بعينيه اليمنى فيرى شقيقه وتفاصيل الغرفة المتواجد بها "كان كل الظن أن العملية دي بتتعمل بس بره والموضوع صعب، فإن ربنا يكتب أن ييجي الوقت وتتعمل هنا في مكانا في بلدي وأرجع أشوف تاني. دي معجزة الصراحة".
فيديو قد يعجبك: