"الأثار للجميع".. مرشد مكفوفين يصطحب 14 طفلاً متعددي الإعاقة داخل المتحف المصري
كتبت-إشراق أحمد:
تصوير-كريم أحمد:
حان وقت الرحلة؛ الساعة التاسعة صباحًا، يتهيأ تلاميذ مؤسسة "هوب سيتي" للقدرات الخاصة للجولة المخطط لها قبل شهر، تدنو فاطمة خليفة من أدم، ذي الستة أعوام، تمسك المعلمة يداه بحنو بينما تخبره "أحنا دلوقت هنروح المتحف ونتعرف على الآثار هنلمسها ونسمع حكايتها"، يهز الصغير الكفيف رأسه ويبتسم بينما تزداد سعادته بوجود شقيقه التوأم أدهم، أحضرته والدتهما خصيصًا اليوم كي يرافق أخيه، فيتشاركان كعادتهما شيئًا جديًدا، يراه أحدهما ويلمسه الآخر.
الاثنين الماضي، كان موعد تنفيذ الجزء الثاني من الدرس الشهري لـ14 طفلاً في المؤسسة المهتمة بالإعاقات المتعددة "الشهر ده في درسين منهم المتحف المصري. حبينا الأولاد يفهموا بشكل عملي يعني إيه آثار بعد ما كلمناهم عنها لمدة أسبوع" تقول أمل عزت، رئيس مجلس إدارة "هوب سيتي"، والتي حضرت مع الأطفال والمشرفات، بعدما جرى التنسيق مع المتحف في منطقة التحرير لاستقبال الأطفال، فكان المرشدان أحمد نجيب وعادل فؤاد في الانتظار.
طوى المرشدان الكفيفان عُصيهما البيضاء، وجلسا داخل ساحة المتحف حتى حضور الصغار. المهمة اليوم مختلفة بعض الشيء "اتعودنا استقبال الزائرين المكفوفين لكن المرة دي إعاقات مختلفة بجانب كف البصر. فيه توحد وفرط حركة" يعمل نجيب بالمتحف منذ تأسست داخله مدرسة الوعي الأثري للمكفوفين عام 2004، وكذلك فؤاد، المشرف العام على المدرسة.
طيلة سنوات عكف فؤاد ونجيب على تعريف ذوي الإعاقة البصرية على محتويات المكان بمجهودهم الشخصي "كنا عاملين مسار وعملنا لوحات خشب بارزة واستيكر شفاف ببرايل"، ذلك قبل أن يتيسر دورهما بافتتاح مسار للمكفوفين في يونيو 2019، بوضع لوحات شارحة بالكتابة البارزة "برايل" أمام 12 قطعة أثرية، وهو ما أضاف لمهمة المرشدين بحسب نجيب "بقينا نركز قطع مكناش مركزين عليها. ده غير أن برايل بـ3 لغات عربي وانجليزي و إيطالي".
مع الظهيرة حضر الصغار من مكان المؤسسة في مدينة نصر إلى وسط القاهرة، تمسك كل مشرفة يد ابنها كما تحرصن على وصفهم، لكن الارتباك بدأ مبكرًا؛ هاج بعض الصغار ممن يعانون فرط الحركة، غير أنه سرعان ما تدخلت المعلمات باستراحة الجميع لتناول الطعام قبل بدء الجولة، مما أتاح لنجيب وعادل فرصة التعرف على الأطفال، والمشاركة في تخفيف الرهبة عنهم، وهو جانب مما تدربوا عليه قبل نحو شهر بالتنسيق مع المؤسسة "في شهر 12 اللي فات عملنا دورة تدريبية للعاملين في المتحف على كيفية التعامل مع ذوي الإعاقات المتعددة" كما تقول رئيس مجلس إدارة "هوب سيتي"، فضلاً عن توجيهها إزاء القطع الأثرية المناسبة للجولة.
تقدم نجيب وفؤاد الجمع بمساعدة زميلتهم رباب. 5 قطع أثرية خطط المرشدان ليتعرف عليها الأطفال "لأنها مناسبة لعمرهم الصغير". عند رمسيس الأول صاح فؤاد "مين حابب يلمس التمثال ده ويعرف هو إيه؟"، هتف الأطفال بالموافقة وبدأت الأيدي تمتد، المكفوفون ورفاقهم، يعاونهم المرشدان والمشرفات، فيما مال كريم ذو السبعة أعوام يكتشف بمفرده وأنامله تلك الكتلة الكبيرة التي يقف أمامها.
لم ينقطع الحماس عن المرشدين، يتناسيان أمر الصوت المرتفع وزائري المتحف لأجل الصغار، ما إن يقفا أمام قطعة أثرية حتى ينشرا الحماس، يُجمعان الأطفال حول تابوت مغلق يشبه الطاولة، يتولى فؤاد المرح ينادي على أسماء الأطفال "يا كيمو.. يا لوجي تعالوا"، ويبدأ في طرح التساؤلات "مين عارف الترابيزة دي إيه يا ولاد؟"، ثم يخبرهم عنها بشكل مبسط، ويواصل طرح الأسئلة "إيه عجبتكوا نشوف حاجة تانية؟"، وأخيرًا ينطلق بفرحة قائلاً "يلا نصقف لبعضينا"، فيضج المكان بصوت الأطفال بينما تسير خطاهم نحو قطعة أخرى.
بكلتا يديها تمسك فاطمة بأدم وأخيه أدهم، تقف أمام قطعة أثرية، يسأل أدم "إحنا فين؟" فتصف له المشهد، قبل أن توجه أنامله نحو تمثال، فيما يجاوره شقيقه، ينظر إليه، ويمد يده مثله إلى الأثر، يتحسس ملمسه وما عليه من حروف إن وجدت ويبتسم لحظة التقاط الصور حتى وإن لم يلحظ أخيه أدم "جيت عشان نكون مع بعض ومبسوط" بكلمات متقطعة تناسب عمره الذي لا يتجاوز 5 أعوام يقول أدهم.
على مدار ساعة إلا الربع داخل المتحف، كانت الكفوف وسيلة الأطفال –حتى المبصرين منهم- للتعرف على القطع الأثرية، وهو ما وجدت فيه المشرفات طريقة جيدة تضيف لحواس الصغار، وتعزز الهدف من الزيارة نعرفهم أن الدنيا فيها حاجات تانية غير البيت والمؤسسة وده حقهم زي أي طفل تاني" كما تقول أمل، رئيس مجلس إدارة مؤسسة "هوب سيتي".
لم تنته الرحلة سريعًا، تخللها بعض التوقفات؛ بين الحين والآخر ترمي لوجين ذات الخمسة أعوام نفسها على الأرض وتبكي، تحملها إحدى المشرفات تدور بها مرة، وتجالسها أخرى. اعتادت المشرفات على طباع الصغار، فهذه ليست المرة الأولى لهم خارج المؤسسة "في الأول كنت ببقى قلقانة لكن روحنا أماكن كتير الملاهي والسينما وروحنا متحف جاير اندرسون في ابن طولون" تحكي آية محمد، مشرفة بالمؤسسة، بينما تحتضن أكرم، الطفل الكفيف المصاب بالتوحد.
بعدما خلص المرشدان من اطلاع الأطفال على القطع الأثرية، توجها بهم إلى "متحف الطفل" في بهو المتحف، فيه اتسع المجال لما يرغب به الأطفال من لعب وانطلاق، إذ يحوي المكان مجسمات بلاستيكية لقطع من الآثار، وركن من طاولات صغيرة عليها مكعبات يشكلها الصغار كما يهوون، فيما أخذ نجيب يشاركهم اللعب، وواصل فؤاد المرح ودمجه بالمعلومات "أبو الهول جسمه أسد عشان قوي وراس إنسان عشان بيفكر".
قرب الثانية والنصف ظهرًا، اختتم المرشدان الجولة مع الصغار. انتهت الرحلة داخل المتحف، لكنها مستمرة في المؤسسة "عاملين كتيب هنقعد الأسبوعين الجايين نحكي لهم عن الزيارة واللي عرفوه منها"، كذلك يتأكد الدرس ومعرفة الأولاد له كما تقول أمل. تراهن أن التكرار ودمج الأطفال في محيطهم هو سبيل تعليمهم، فيما تذكر فرحة إحدى الأمهات حين علمت بأمر زيارة المتحف "قالت لي إن ابنها الكفيف اللي عنده فرط حركة كان ماشي مرة جنب مبنى ولما قالت له إن ده متحف. قال لها يعني إيه"، لذلك شعرت السيدة الثلاثينية بأن هذه الرحلة ربما تمنح مثل هذا الطفل الإجابة.
فيديو قد يعجبك: