"إحنا في بلقاس معندناش كورونا!".. عندما يصبح الفيروس وصمة في مصر
تقرير - مارينا ميلاد
“كانت حالة واحدة تكفي لأن تحضر الشرطة والدوائر الصحية وتقوم بتعقيم كل شيء. العائلة التي يصاب أحد أفرادها تقضي أوقاتا عصيبة. فكان ذلك بمثابة عار رهيب". هكذا تحكي رواية "ملذات طوكيو" للكاتب دوريان سوكيغاوا، قصة توكي التي قاست التهميش بسبب مرضها، وقضت سنوات من عمرها في الحجر الصحي. على نحو قريب من الرواية اليابانية، كانت قصتنا الحقيقية في مصر.
في يوم 17 مارس الماضي، صعد اسم محافظة الدقهلية ضمن الأكثر بحثا على محرك البحث جوجل؛ وكان أغلب الباحثين من المحافظة نفسها. وذلك بعد إعلانات وزارة الصحة المتتابعة بوفاة أول سيدة مصرية جراء إصابتها بفيروس كورونا من قرية بمركز بلقاس؛ ثم وفاة رجل أخر بالمركز نفسه، ووضع 300 أسرة تحت الحجر لمدة 14 يومًا.
كانت الصورة تدفع للاعتقاد بأن "الدقهلية - تحديدًا مركز بلقاس - ربما ستكون البؤرة الأولى للمرض"، لكن لم ينتظر البعض سواء في مدن أخرى بالمحافظة نفسها أو المحافظات القريبة منها أن تتأكد تلك الصورة، وبدأ البعض في المطالبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعزل أهالي بلقاس عنهم حتى لا ينشروا المرض. فأثار ذلك غضب الآخرين وسارعوا عبر صفحاتهم لنفي معلومات وزارة الصحة، ورفض ردود الأفعال تجاههم، بل وأنكر بعضهم الأمر برمته: "معندناش كورونا. إحنا مش بلد موبوءة".
تشابكت البيانات مع الفيديوهات والمداخلات وتعقد الأمر. غاب كل ما هو مؤكد عدا موت شخصين. لكن في الوقت نفسه تستطيع أن تشير إلى شيء محدد؛ وهو أن كورونا هنا ليس فيروسًا فقط إنما قد يكون "وصمة" أيضًا.
تابع أهالي قرية السماحية يومي 9 و10 مارس الفيديو المتداول على مواقع التواصل الاجتماعي والخاص بواقعة التنمر بالشاب الأسيوي بعد أن تركه سائق إحدى شركات التوصيل على الطريق الدائري. وبحسب أحمد محمود؛ شاب من القرية يعمل مدرسًا، "كانوا مضايقين وشايفين أنه حرام ودي مش أخلاقنا".
لم يتوقع أهل القرية أن يومين فقط تفصلهم عن موقف مشابه في قسوته، وهذه المرة يتعلق بهم جميعًا وليس بشخص واحد.
كانت الحركة دائرة في قرية السماحية ومركز بلقاس عموما كطبيعتها، الرجال الكبار المرتدية جلابيب تذهب إلى عملها بالأرض، وأخرون إلى وظائفهم الحكومية في المدينة، وشباب يجري إلى مواقف السيارات أو محطة القطار ليلحق عمله بمحافظة أخرى، وسيدات بيوت في منازلها مع أطفالها بعد أن قررت الحكومة تعليق الدراسة.
لذلك صار أغلب ما تفعله ياسمين الجوهري، التي تدرس الماجيستير في كلية التجارة، هو متابعة الأخبار والأرقام الخاصة بكورونا، لكن الشابة البالغة 29 عامًا لم تشعر بقربه منها إلا يوم 11 مارس عندما بدأت تصادف كتابات على حسابها بفيسبوك تفيد بظهور أول إصابات في المنصورة وأن أجواء قلقة بمستشفى الصدر هناك.
لم تكن متأكدة من شيء حتى ظهر خبر وفاة الحالة الأولى في اليوم التالي.
جاء بيان وزارة الصحة يو 12 مارس ليعلن تسجيل 13 حالة إصابة ووفاة سيدة بالدقهلية تبلغ من العمر 60 عامًا، استقبلتها مستشفى صدر المنصورة وهي تعاني من التهاب رئوي حاد صباح اليوم السابق، وتم سحب عينة لها وجاءت النتيجة إيجابية لفيروس كورونا، وعليه تم نقلها إلى مستشفى العزل، وتوفيت.
"كترت الأقاويل على سبب الإصابة لكن إحنا بدأنا في بلقاس نفسها نقول يا جماعة ياريت أهل قرية السماحية ميجوش عندنا عشان الموضوع ميتكررش، فهم اعترضوا وشافوا أنها مسألة عار ، وفضلوا يقولوا ست كبيرة و ماتت عادي".. تحكي ياسمين لـ"مصراوي"، وهي في سكنها الذي يبعد عن القرية كيلو واحد فقط.
في الوقت الذي تتحدث عنه ياسمين كان يجري تعقيم القرية التي تعتبر الأكثر سكانا بين قرى المركز، واصطحاب كل من ابن الحالة المتوفية وبناتها إلى الحجر الصحي. وكانت تقارير إعلامية تردد أن السبب هو سيدة إيطالية جاءت تدفن زوجها وحضرت الحالة التي توفت العزاء؛ وهي الرواية التي تشير إلى احتمالية إصابة عدد كبير من القرية.
استمع أحمد محمود لذلك متعجبًا لأنه يعرف جارته جيدًا فهي مريضة منذ زمن وليس لها علاقة بسيدة إيطالية ولم تكن تخرج من بيتها على الأقل منذ شهرين. كما انزعج ساكنو القرية أيضًا مما يقال عنهم ومن تأثير ذلك عليهم، وأصبحوا كارهين لوسائل الإعلام.
لكن مرت أربعة أيام كانت كافية أن تجعل الأنظار تنصرف عن القرية ومركز بلقاس حتى جاء يوم 16 مارس وأعلنت وزارة الصحة وفاة ثاني حالة بالمركز نفسه لرجل يبلغ من العمر 50 سنة كان مخالطاً للسيدة، وأن أسرة المتوفي البالغ عددهم 3 أفراد مصابين أيضًا. وفي المساء أوضحت الوزيرة نفسها في مداخلة مع إحدى القنوات، أن سيدة الدقهلية خالطت شباب كانوا عائدين من إيطاليا، وأن أحد أقاربها هو من توفى اليوم وكان مخالطا لها، وأن هناك 300 أسرة بالمحافظة تحت الحجر.
ازداد الوضع اضطرابا وغضبا. اتسعت دائرة النبذ والبعد عن مركز بلقاس بأكمله وليست قرية السماحية وحدها.
تتذكر ياسمين اليوم بأنه "كان صعبا جدًا على كل من في بلقاس وانذار أن الموت علي بُعد خطوات". فيما يصف أحمد الوضع بقوله: "تقريبًا اعتبرونا ووهان مصر".
اجتهد الكل في بلقاس في فعل أي شيء يمكن حمايتهم به، ومحو أي صورة سلبية عنهم: أسسوا مجموعة على فيسبوك باسم "بلقاس إيد واحدة معًا في مواجهة الكورونا" يوم 17 مارس، تجاوز عدد أعضائها – حتى اللحظة – ـ12 ألف شخص. دعا الأهالي إلى تجميع أموال لشراء أجهزة تعقيم، وتوزيع كمامات وكحول، ونشروا فيديوهات ومنشورات توضح هذه الأفعال تحت هاشتاج "#ادعم_بلقاس".
على الناحية الأخرى، كان أهالي قرية السماحية يقومون بالإجراءات نفسها، لكن بجانبها نشروا فيديوهات – واحد منها داخل بيت السيدة التي توفت - يستنكرون فيها معاملة محافظات أخرى لهم وينفون مجددا المعلومات الصادرة من وزارة الصحة، أو تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام وأهمها وضع أسر تحت الحجر: "كده الوزيرة بتوقف حالنا. إحنا مفيش حاجة عندنا".
في أحد هذه الفيديوهات، اتصل أحد أهالي القرية الذي بدا منزعجا من كل ما حدث، بكامل عبداللطيف، نجل السيدة التي توفت بالقرية، وهو خارج مصر؛ ليجعله يلقي رسالته: "كل اللي اتقال إشاعات، أمي مبتخرجش من البيت ولا تعرف ست إيطالية، وأنا وأخويا محدش متجوز إيطالية، وملهاش علاقة بالحالة التانية اللي توفت في بلقاس، ومفيش حجر ، والبلد ماشية تمام".
لمشاهدة الفيديو.. اضغط هنا
لكن كل ذلك لم يحم 4 من أهالي القرية من فقدان وظائفهم في محال بالقاهرة، لمجرد أنهم من هذه القرية؛ بحسب أحمد: "عندنا شباب كتير خريجين كليات وبيشتغلوا في أماكن كبيرة، وبعضهم بيسافر الخليج مش إيطاليا، وجزء حاصل على دبلومات فبيشتغلوا في مطاعم ومحلات وعمال محارة في القاهرة أو المنصورة أو بورسعيد".
رفض هؤلاء الحديث معنا تماما. ويفسر أحمد ذلك بأنهم "خائفون على صورتهم وكرامتهم".
أما ياسمين والتي اعتادت التعامل مع شركات شحن لتوصيل طلباتها من القاهرة، فواجهت رفض شركتين لتوصيل طلبها – يومي 16 و19 مارس– ذلك بمجرد معرفتهما لمكانها.
وتقول إن شركات الشحن كانت تأتي كل أربعاء وتوقفت بعد ما حدث في بلقاس.
الآن تشابه وضع القرية والمركز مع مناطق كثيرة بمصر، فأغلق سوق القرية الذي يقام كل أربعاء، واتبعت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة مؤخرًا، ومن المتوقع أن يعود إليها بنات السيدة التي توفت وزوجة ابنها بعدما بلغتهم الأنباء بأن تحاليلهم تحولت نتائجها إلى "سلبية".
يستلقي أحمد محمود في بيته بعد أن توقفت الدراسة، يفكر في كيفية عمل فيديوهات للأطفال عبر الإنترنت كالسائد في الوقت الحالي؛ وفي الخارج لا يسمع صوت مع إشارة عقار ب الساعة إلى السابعة مساء؛ فكل شيء مغلق باستثناء متاجر صغيرة، والكثير من أهل القرية صاروا يلتزمون بيوتهم. يقول أحمد إن من أنكروا وجود كورونا في البداية خوفا على صورتهم، هم الآن من يكتبون ويرددون الأدعية للنجاة منه.
انتهت رواية ملذات طوكيو برسالة فهمها قراءها جيدًا، وهي أن العزلة التي فرضت على المصابين لها ما يبررها؛ الأمر لا يتعلق بالعدوى إنما بالمجتمع الذي لا يتقبلهم. أراد الكاتب أن يذكرنا عبر مشاهد ومواقف وتفاصيل بأساس العلة وهو الجهل باعتباره أكثر خطر ا من المرض.
- تم استخدام اسم أحمد محمود في التقرير كاسم مستعار بناء على رغبة الشخص.
- ولأن الأمر لم يقتصر حدوده على مركز بلقاس. أجرى مصراوي استطلاعا سريعا لعدد من المتعافين الذين بلغ عددهم 80 شخصا من أصل 402 إصابة – حسب آخر بيان لوزارة الصحة - عما إذا كانوا تعرضوا لمضايقات خلال تجربتهم. وجاءت ردودهم كالتالي:
فيديو قد يعجبك: