إعلان

غُربتان..كورونا يزيد عزلة اللاجئين في مصر (الحلقة الأولى)

12:41 م الثلاثاء 14 يوليه 2020

- الحلقة الأولى -

قصة- مارينا ميلاد

يا ربي، أنا هولد في البيت؟ هروح المستشفى؟

ولادة البيت فيها مخاطرة شديدة، والمستشفى فيها رعاية

لكن أخاف من المستشفى ينتقل لي المرض وأنقله لأولادي!

يا رب الولادة متجيش في الوقت ده..!

ظلت إكرام تحدث نفسها هكذا، وتدعو ربها طوال الشهرين الأخيرين من حملها. كان يملؤها الرعب من فكرة الولادة في البيت، فلم تفعلها من قبل مع أبنائها الثلاثة. كانت تعرف وقتها أن المستشفى أفضل كثيرًا. لكن تغير الأمر مع ولادتها الرابعة وصارت تَحذر المستشفى خوفا من نقل عدوى فيروس كورونا لها ولطفلها، خاصة مع كم التحذيرات والنصائح التي تفيض بها البرامج ووسائل التواصل يوميًا للسيدات الحوامل قبل أن تدعو وزارة الصحة المصرية إلى ضرورة تأجيل الحمل من الأساس وأن الأمر بات ضروريًا.

مرت الأيام ثقيلة على إكرام- اللاجئة السودانية بمصر. كانت مُشتتة الذهن؛ لا تعرف هل من المفترض أن تنشغل بتدبير طعام لها ولأبنائها أم بالبحث عن مكان يسكنون فيه بعد طردهم من بيتهم، أم بمسألة ولادتها التي لا تملك حتى تكلفتها إن قررت الولادة بالمستشفى.

في الوقت نفسه، كان حافظ وزوجته فايزة- اللاجئان السودانيان أيضًا- معزولين داخل غرفتهما الضيقة التي لا تضم سوى شباك وخزنة خشبية. هي تستلقي على سرير حديدي كالذي يشبه أسرة العنابر، وبجوارها سلة ممتلئة بالأدوية. أما حافظ، فينام على الأرض من شدة تعبه بعد إصابتهما بفيروس كورونا. يتواصلان مع أبنائهما - خارج الغرفة- عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، ترشدهم الأم بما يفعلونه لإعداد الطعام، ولا تتوقف عن تحذيرهم من الاقتراب للغرفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إكرام وأسرة حافظ ضمن آلاف اللاجئين في مصر، الذين هربوا من مصائرهم الصعبة ليواجهوا أخرى ثم تأتي تلك الأزمة- باختلاف ظروف وأسباب كل منهم- لتقضي على ما تبقى لديهم من تحمّل.

لعل التواصل وجها لوجه هو أكثر الأفعال الإنسانيّة حيوية لتعرف الشخص الآخر وتنفذ إلى تفاصيله ومشاعره. لكن كورونا منعنا من هذا الفعل أو على الأقل لم يجعله كما كان. وفي حكايتنا معهم، لم يُسمح لنا بمعرفتهم إلا من خلال رسائلهم الصوتية أو فيديوهات مصورة لمن سمح منهم. لنحاول بذلك أن نفهم قصصهم ومعاناتهم.

جرافيك 1

يوم 21 مايو الماضي. كُتب لإكرام أن تتخلص من أحد أعبائها أو ربما يبدو ذلك.

اتجهت إلى مستشفى حكومي بمنطقة إمبابة لشعورها بألم شديد أدركت أنه ألم الولادة. أخبروها هناك أن حالتها تستدعي مستشفى آخر به إمكانيات استقبال حالات الولادة في هذه الظروف، وأرشدوها إلى مستشفى قصر العيني.

في طريقها، كانت تجلس بالتاكسي شاخصة ببصرها، وتفكر في مثل هذا الوقت الذي مر عليها من قبل ثلاث مرات: الأولى منذ 12 عاما عند ولادة ابنها الأكبر، والثانية منذ 7 أعوام، والثالثة منذ 5 أعوام، وفي كل مرة تكون في بلدها مع زوجها وأسرتها وتذهب للولادة بالمستشفى دون خوف. لكن الآن هي وحيدة، خائفة، تمر أمام عينيها كل الظروف التي جعلتها تعيش تلك اللحظة.

قبل عام، لجأت إكرام (36 سنة) في مصر بعد الاضطرابات التي وقعت في السودان. جاءت رفقة زوجها وأبنائها، سكنوا شقة بالإيجار بإحدى المناطق الشعبية، تعلم أطفالها في أحد مراكز التعليم السوداني، ووجد زوجها فرصة عمل في أحد المصانع وكانت تساعده بالعمل مدرسة في مركز تعليم أطفال وأحيانًا في عمل الحنة. مضت حياتها على نحو معقول حتى حملت في مولودها الرابع وتغير كل شيء بعد ذلك.

تعرضت نفسيتها لتقلبات كبيرة؛ هادئة أحيانًا، مضطربة، ثم حادة. أوقعتها في خلافات مع زوجها وتركها، وصارت لا تعرف عنه شيئا. لكنها ظلت تعمل حتى الشهور الأخيرة من حملها، وإذ بالحياة تعطيها ظهرها مرة أخرى، عندما توقفت كل أعمالها: "كورونا خَربت كل شيء".

ازداد خوفها كل يوم على أولادها خاصة أن مناعة اثنين منهم ضعيفة لمرضهما، كذلك على نفسها. لزموا البيت جميعا؛ فتعثرت في دفع الإيجار ،ثم طردت منه.

لم تجد سوى منزل صديقتها السودانية التي تعيش بمفردها مع ابنها لتتجه إليه. تكدست مع أبنائها وأشيائهم في غرفة واحدة، وبجوارها بطاقتها الخاصة بالمفوضية، تلك الورقة التي من المفترض أن تحميها خلال إقامتها في مصر.

صورة 1

أصبح البيت المكون من غرفتين يضم 6 أفراد، وهي الظاهرة التي لاحظت هبة العزازي، مدير برنامج اللاجئين والمهاجرين في الهيئة الدولية لإنقاذ الطفولة، أنها صاحبت كورونا؛ حيث اتجه أغلب الذين تعرضوا لإخلاء بيوتهم إلى السكن مع غيرهم، ما يؤدي إلى زيادة المخاطر الخاصة بنقل العدوى.

وبعد مدة، عرفت إكرام مبادرة شبابية تساعد الأسر المتضررة من اللاجئين، وأن جزءًا منها سيدات يطبخن لتقديم وجبات لتلك الأسر. لم تفكر في إرهاق الحمل، وجرت عليهم للمساعدة، ويكفي أنها على الأقل ستحصل على طعام في نهاية اليوم لأبنائها.

واظبت على الحضور والعمل معهم حتى اشتد التعب عليها لتستأذن منهم، وتغادر دون أن تعلمهم بأنها ستلد في أي لحظة حتى لا تشغلهم، وقررت أن تذهب إلى المستشفى.

صورة 2 (2)

كانت أيام العزل عند أسرة حافظ تمر بنفس الرتابة والتكرار: يذهب الابن الأكبر يشتري الفول من المطعم في الإفطار، وعند الغداء يصنع العدس والأرز؛ يأكل الإخوة السبع في طبق واحد، ويتركون طبقا لوالديهم. كان تعب الأم يزداد لأنها مريضة ضغط وسكر. تقول إنها لم تقوَ خلال هذه الفترة على عمل أي شيء سوى الذهاب إلى الحمام وتنظيفه جيدا بالكلور بعد ذلك.

تتحمل فايزة موسى (39 سنة) آلامها وتحاول أن تعالج نفسها؛ فلا يمكنها الذهاب إلى المستشفى: "من سيعتني بأولادي إذا احتجزوني في مستشفى؟! نحن ليس لدينا أي شخص في مصر يمكن أن يساعدنا".

ذلك حال أسرة حافظ عثمان منذ جاءوا إلى مصر في 12 مارس 2014 قادمين من دارفور، المنطقة التي يذكرها حافظ بأنها "ذات حروب ثقيلة وكان علينا أن ننجو منها".

فور وصولهم، اتجهوا إلى المفوضية لتساعدهم خاصة أن حافظ (47 سنة) فاقد إحدى رجليه. لذلك صار يحصل على مساعدة شهرية تقدر بـ1800 جنيه. صُرفت له شهرين في بداية أزمة كورونا، لكن قضت أزمة إصابتهما على ما لديهم- بحسب فايزة.

حتم هذا المبلغ على حافظ أن يجد عملا. فعمل بشكل حر مع سودانين يساعدهم في شراء قطع غيار بسوق السيارات. كذلك عملت زوجته في التدريس لبعض الأطفال. لكن أغلقت كل أبواب رزقهما بعد كورونا. بينما ظل الأب يعافر، ويذهب إلى معارف ويتواصل لعله يجد مخرجًا لكن جاءته الإصابة بدلا من المكسب.

وفي منتصف مايو الماضي؛ خرج حافظ مع أحد أصدقائه ثم ظهر عليه تعب شديد؛ فنقله صديقه بـ"التوك توك" لأكثر من مستشفى بالمنطقة وكانت كلها ترفض استقباله لأنه "اشتباه كورونا". فقط في واحد منها أبلغه طبيب بمجرد معرفة أعراضه أنه مُصاب وعليه الذهاب إلى الحميات. لكن حافظ لم يفعل، وطلب من صديقه أن يذهب به إلى البيت.

كان يمكن لحافظ أن يُعالج في أحد المستشفيات الحكومية، فالحكومة المصرية تمنح اللاجئين من جميع الجنسيات سبل الوصول إلى الرعاية الصحية مثل المواطنين. وفي هذا الشأن نصحت المفوضية الالتزام بتعليمات وزارتي الصحة والداخلية المصريتين – وفقا لموقعها الرسمي.

عَزل حافظ نفسه في تلك الغرفة وفحص "جروب الفيسبوك" الخاص باللاجئين، ليعثر على طبيب سوداني ويستشيره ويشتري الدواء الذي نصحه به. لكن لم يمر بضعة أيام إلا ورقدت بجواره زوجته بعد أن انتقلت إليها العدوى أثناء رعايتها له.

صورة 3

في الثامنة مساءً، وصلت إكرام مستشفى قصر العيني. كانت الأجواء متوترة، والكل خائفا تحديدا في عنبر الولادة التي أخذت مكانها فيه بعد الكشف. تقول إن "عشرة تقريبا غيرها دخلن العنبر لكن هناك مسافات بين أسرّتهن، ويُمنع وجود مرافقين".

ساعات قضتها إكرام مرتدية كمامة، وتخضع للفحص بين الحين والآخر حتى دخلت غرفة العمليات في صباح اليوم التالي. جاءت "ليان" إلى هذا العالم. اختارت لها أمها اسما يعني في السودان "اللين أو الرخاء"، ولكن ليس في اسم الطفلة ما يوحي بأي تجليات فيما يحدث للأم.

ظلت إكرام بالمستشفى 3 أيام لعدم قدرتها على دفع مصاريفه حتى حضرت صديقتها، ودفعت 500 جنيه من أصل 700 جنيه مطلوبة منها. لتَخرج إكرام وطفلتها بعد أن أقنعت إدارة المستشفى أن هذا المبلغ هو كل ما في استطاعتها دفعه، وعلى الناحية الأخرى أقنعت صديقتها بأنه دين عليها ستسدده لاحقًا.

عادت إلى بيت صديقتها، لكنها فرضت على نفسها عزلا مع طفلتها في الغرفة بعيدا عن أبنائها الثلاثة الذين كانوا ينامون في صالة المنزل، تحسبا إن كانت التقطت العدوى أثناء وجودها بالمستشفى.

في تلك اللحظة كان شعورها مختلطا بين ضيقها بسبب الظروف التي عاشتها وفرحتها بأنها رزقت ببنت بعد ثلاثة صبية.

لكنها لم تتوقف عن التفكير في ضرورة إيجاد عمل وسَكن لأولادها: "لا يمكن أظل جالسة مع صديقتي للأبد".

صورة 4

وعلى عكس إكرام، أنهى حافظ وزوجته فترة عزلهما وخرجا من تلك الغرفة لأبنائهما.

الآن يمكن لحافظ وزوجته أن يظهرا، ويحكيا قصتهما بعد أن أخفيا خبر إصابتهما عن الجيران خوفا منهم.

“المعجزة الوحيدة التي نستطيع تحقيقها هي أن نستمر في العيش.. نحافظ على هشاشة الحياة من يوم لآخر". جوزيه سارماغو - رواية العمى

الحلقة الثانية "الوصم والمساعدة"

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان