فقدت أسرتها في قصف إسرائيلي وتبنتها أسترالية.. رحلة دلال لكسر حاجز "الإعاقة"
كتبت-إشراق أحمد:
ليس خيال درامي ولا حكاية تُروى لبعث التفاؤل، بل واقع عايشته طفلة انتشلتها الأيدي من بين الأنقاض. بعد ليلة دامية في جنوب لبنان، نجت من الموت لكن دون أسرتها، فقدت كل شيء لها في الدنيا قبل أن تعرفه؛ والديها وأوراق ثبوتيتها وأيضًا نور عينيها، غير أنه في لحظة السلب مُنحت الرضيعة الحياة. وهبها القدر طريق وعزيمة؛ لازمت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والعاملين فيها، رُزقت اسمها "دلال التاجي"، تحدت الغربة ظاهرها وباطنها، تجاوزت ما يواجه "الكفيف" من صعاب، واليوم، صارت رئيس قسم التعليم المستمر في كلية تنمية القدرات الجامعية في غزة.
في مدينة خانيونس، جنوب غزة المحاصرة، داخل مقر الهلال الأحمر الفلسطيني، الجميع يعرف دلال؛ في الاجتماعات المتعلقة بالتعليم تكون حاضرة، على منصة المناسبات للحديث عن القضية الفلسطينية تتقدم بكلمة، داخل قاعات المحاضرات تقف بين طلابها، شخصيتها القوية تفرض نفسها فلا تترك مجالاً للتفكير كونها كفيفة.
تجيد صاحبة السادسة والأربعين ربيعًا إذابة الحواجز الصماء بروح مرحة، ورغم هذا يلازمها لأعوام شعور الفقد أحيانًا "كتير ناس تسألني أنت من عيلة مين؟"، تنتابها غصة الرغبة في معرفة "هم مين؟"، ثم اضطرارها لسرد الحكاية مرارًا.
في عمر السابعة استمعت دلال للمرة الأولى عما فاتها من حياتها، كانت تحت رعاية أفراد جميعة الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان، طفلة نشأت بين آخرين، تدعوهم بأشقائها، وأفراد المنظمة التطوعية هم الأهل، إحداهن منحتها لقب عائلتها التاجي. ظنت الصغيرة أن الحياة تكون هكذا، حتى عرفت الحكاية؛ في العام 1974 واصلت إسرائيل هجماتها المسلحة على جنوب لبنان للعام الرابع على التوالي، تدمرت منازل وسقطت أرواح، من بينها عائلة دلال "كنت في أسرة فلسطينية تسكن مخيم يقال في جنوب لبنان وناس وجدوني بين الهدم كان عمري شهور وأخدوني على الهلال الفلسطيني".
مَن الأب والأم، هل ثمة أشقاء، أقارب، ما أسماؤهم؟. لا جواب سوى أن الهجمة الإسرائيلية أجهضت كل شيء، والحرب لم تترك أثرًا ورائها، فمنذ ذلك العام وحتى اجتياج لبنان عام 1976 والجنوب ما عاد آمنًا للبحث عن أحياء، فما بال الأموات؟
تكبر دلال تحت سماء ملبدة بالحرب، تتنقل بين مستشفيات يافا، ثم عكا، المتواجد بها الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان آنذاك، تشهد مجزرة صبرا وشاتيلا –عام 1982- على مقربة من الحدث وهي لا تتجاوز العاشرة من عمرها، تنجو مرة أخرى. لم تترك الأحداث لدلال الفرصة حتى لتخيل هيئة والديها، يلاحقها الواقع بلا هوادة، فقط ظلت تحيا على الرواية والأمل "اللي معروف مش كتير. كنت أتمنى أعرف مين أبي وأمي"، لكن لم تُترك دلال طويلاً.
التقت الصبية الفلسطينية طبيبة استرالية تتطوع مع الهلال الأحمر في لبنان، تدعى جين كالدر، لا تعلم دلال لأي سبب انجذبت السيدة لها ولصبيين آخرين -حمودة وبدر- من ذوي الاحتياجات الخاصة أيضًا، كان محمد الكركي أو "حموده" الوحيد المعروف أسرته بينهم.
كثيرًا ما تمزح جين الداعمة للقضية الفلسطينية والتي صارت لدلال بمثابة الأم وتقول"كنت جاية أقعد سنتين بلبنان وأمشي ما متوقعتش أني ارتبط فيكم لغاية دلوقت". تكفلت جين برعاية الصغار الثلاثة، لازمتهم ورفضت الاستسلام للظروف "حصلت أحداث كتير لكن الحدث الأكبر لما راحت تجدد الفيزا فرضوا في لبنان وقالوا لها لازم تترحل".
كان ذلك عام 1984، مازال الوضع على أرض لبنان مضطربًا، سافرت جين لبلدها استراليا، وغادر الصغار بصحبة الهلال الأحمر إلى مصر، كانت الوجهة المتاحة لهم حينها "لما حصل حصار بيروت 82 الأطفال الأصغر عمرًا راحو على تونس رفضوهم عشان الإعاقة وفي سوريا أهملوا فيهم" لذلك ذهبوا هذه المرة صوب القاهرة.
غلفت المشقة رحلة دلال الأولى خارج مكان ولادتها شأن رحلتها إلى الدنيا "لظروف الحرب ركبنا سفينة من لبنان لقبرص وبعدين سافرنا لمصر بالطيارة". كانت الفلسطينية طفلة صغيرة لكنها تتذكر كم لبثت 16 يومًا على مقعد داخل مطار القاهرة مع شقيقيها – كما تصفهما- وبصحبة الإخصائية القادمة معهم حتى يأتي إذن الخروج.
بمغادرة بوابة مطار القاهرة لاقت دلال ما هون عليها ما مضى. "أجمل ١١ سنة في عمري كانوا في مصر" بابتسامة تستعيد دلال فترة كانت بمثابة هدنة، عرفت حينها أن ثمة حياة تخلو من المدافع والمشافي ولون الدماء، أصبح لها صديقات، تعلمت عزف الموسيقى ولمست حب اللغات. تشكلت شخصية دلال حتى أتمت الثانوية العامة، وإلى الآن يحتفظ لسانها باللهجة المصرية.
في القاهرة لحقت السيدة جين بابنتها الفلسطينية، ظلت تتابع دراستها بعدما التحقت بمدرسة النور والأمل، ما عرفت الشابة الفلسطينية طريقًا سوى التعليم، لأجله تحملت الصعاب"في مصر وقتها أسلوب الكتابة ببرايل كان بالقلم ومسطرة بارزة وده قديم عن اللي تعلمته في لبنان وكان على الآلة"، باليوم الدراسي الأول لها في المدرسة أخبروها "إذا ما كتبتيش هنضطر نرجعك سنة أولى" كانت دلال بالصف الخامس الابتدائي لكن بعزيمة الكبار "طول الصيف قعدت اتعلم الطريقة القديمة".
بالتسعينيات هبت رياح الرحيل مرة أخرى، هذه المرة حاملة شيء من الفرحة؛ أُخبرت دلال بأن الوقت حان لرؤية فلسطين، عُقدت معاهدة أوسلو، وأُعلنت السلطة الفلسطينية في رام الله، وباتت الأراضي المحتلة مفتوحة لأهلها حتى مطلع الألفية الأولى.
عام 1995 سكنت قدما دلال مدينة غزة، بمشاعر مختلطة مكثت أيامها الأولى، تتلهف حينًا لمعرفة الوطن الذي سمعت عنه" كنت عايزة أعرف شكل البلد إيه؟"، وتغترب أحيانًا لترك الحياة الواسعة المستقرة بالقاهرة والبدء من جديد في مكان أضيق، قدمت دلال إلى غزة بينما تقنع نفسها "هقعد شهر أو اتنين إجازة"، لكن خلاف ما ظنت، سرعان ما تأقلمت خاصة مع دخول الجامعة.
كسرت دلال المألوف منذ قدومها إلى غزة "المتعارف عليه أن الكفيف يدرس علوم شرعية وقرآن فقط"، لكنها أرادت دراسة اللغات، التحقت بجامعة الأزهر، قسم اللغة الإنجليزية، كانت أول طالبة كفيفة في هذا التخصص كما تقول لمصراوي.
لم تخلو سنوات دلال الدراسية من المعاناة، تتذكر عامها الأول، حين رسبت في مادة، فقط لأن المرافق لها لم تحضر إلا بعد انتصاف وقت الامتحان وانفلات الأعصاب "كانت بنت أعرفها في أولى ثانوي لأن شرط الكلية أن اللي يكتب لي في الامتحان يكون ميعرفش حاجة عن الدراسة".
حزنت دلال لرسوبها وهي المتفوقة بين زملائها، لكنها تعلمت حينها خوض المعارك باكرًا " قبل ما يبدأ الامتحان اجيب حد من الجامعة وكل فصل أفضل اتخانق لحقي"، وحينما تخرجت قطعت العهد أن تولي اهتمامها بذوي الإعاقة وتنشر سياسة الدمج.
ما استسلمت دلال يومًا، حتى في البحث عن أسرتها "حاولت أدور عليهم. أرسلت لناس في لبنان أخدوا صورة ليا وحطوها على مواقع بحث لكن للأسف ما وصلت لشيء"، رضيت السيدة الأربعينية بالمكتوب لها، واصلت طموحها لحصد درجات علمية أعلى، فتقدمت للحصول على الماجستير في العلوم الإنسانية ببريطانيا.
عاودت دلال الغربة لنحو عام و٣ أشهر. افتقدت غزة وأهلها، لكنها خلصت للمراد "اكتشفت أن الواحد بيعيش في الدنيا غريب وأي مكان يكون فيه لازم يترك فيه أثر ويتأقلم معاه"، على هذا النهج قضت أيامها حتى رجعت إلى القطاع المحاصر نهاية عام 2005.
كل خطوة لدلال تحمل مقدار من المعافرة للحياة، تقاوم لكسر الصورة الذهنية عن اليتم والإعاقة، تنزعج حينما تسمع أحدهم يعلق على حكايتها "معقول مش عارفة مين أهلك؟"، تعلمت أن تصمت وتكتفي بالابتسام، فيما لا تلتفت إلا لما هو قادم، فتصر على وجود حاسوب ناطق للمكفوفين، وتواصل التدريب في المؤسسات لتغيير نظرة المجتمع لذوي الإعاقة، حتى حينما عُرض عليها التدريس، تغلبت على خوفها أمام تساؤلات "كيف هتظبطي الصف؟".
العام الماضي وبينما تندمج دلال في شرح مادتها، توقفت فجأة وسألت الطلاب عمن يقوم بالتقاط الصور بهاتفه، ساد الصمت بين الجميع وطال، غضبت المحاضرة وأخبرتهم أن المساق الدراسي مشروح إن لم تعرف مَن يقوم بهذا؛ تقدمت الطالبة الفاعلة تُراضي الأستاذة، لتخبرها الأخيرة "لازم تستأذني ما تفكروش أني مش شايفاكم"، وكذلك كانت دلال في علاقتها بطلابها.
14 عامًا تواصل دلال التدريس، 4 مواد تنقلهم إلى الطلاب "ذوي الإعاقة والعاديين"، تعكف على فتح الآفاق لتعليم ذوي القدرات الخاصة وتهيئة المجتمع لاحتوائهم بتدريب الشباب الجامعي وأفراد المؤسسات، فيما لا تتوقف عن الحلم بالحصول على الدكتوراة.
رغم ما حققته دلال وما تسعى إليه، لكن أجواء الحرب والحصار لم تغادرها حتى في الأوقات الآمنة "للآن يؤثر فيا اللي حصل في طفولتي. لو باب اترزع اتخض. افكره مدفع أو قصف"، تغالب الأستاذة الجامعية حنينها لافتقاد الأسرة، إلا أنها أبدًا ما قنطت، كلما جلست في منزلها المجاور للهلال الأحمر في خانيونس واستعادت شريط حياتها، يرتوي لسانها بالامتنان "أحمد ربنا أني مريت بهاي الصعاب عشان يكون عندي قدرة على مواجهة الحياة.. يمكن اللي حياتهم دوغري بلا أزمة ميقدروش يواجهوا التحديات".
فيديو قد يعجبك: