قصص القرآن (9): إبراهيم عليه السلام يتحدى النمرود الذي عذبه الله بذبابة أربعمائة سنة

كتب- ايهاب زكريا:

في حلقات يومية، وخلال شهر رمضان المبارك، يقدم مصراوي للقارئ الكريم قصص الأنبياء، استنادا لمصادر معتبرة في السيرة والتاريخ الإسلامي، وفي الحلقة التاسعة يقدم "مصراوي" قصة إبراهيم -عليه السلام- إذ أفردت سور القرآن دعوة إبراهيم لأبيه، وقومه بتَرك عبادة الأصنام، وعبادة الله وحده، وتُوضِّح نقاشه مع أبيه، ودعوته إيّاه.

دعوة إبراهيم عليه السلام قومه لعبادة الله وعنادهم

وجاء في كتاب "فبهداهم اقتده" لعثمان الخميس: كان قوم إبراهيم -عليه السلام- يعبدون الأصنام، وكان أبوه آزر ممّن يصنعونها، فبدأ إبراهيم دعوته بدعوة أبيه، وتذكيره بأنّ هذه الأصنام لا تضرّ، ولا تنفع، وكان يدعو والده باللين والرِّفق، إلّا أنّ أباه أصّر على موقفه، وطلب من إبراهيم أن يهجره، ويتركه، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74)"، [الأنعام]، ثمّ انتقل إبراهيم إلى دعوة قومه؛ فأمرهم أوّلاً بترك عبادة الأصنام.

ثمّ بين لهم البراهين والأدلة في عبادة الكواكب، وقد ذُكِرت هذه الأدلة في سورة الأنعام؛ فسألهم أوّلاً عن الكوكب الذي ظهر له إن كان هو إلهه، ثمّ لمّا غاب الكوكب قال لهم إنّ الإله لا يذهب ولا يغيب، وكرَّر ذلك مع كلٍّ من الشمس، والقمر، قال تعالى: "وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)"، [الأنعام]، إلّا أنّهم أصرّوا على موقفهم.

إبراهيم عليه السلام يحطم الأصنام إلا كبيرًا لهم

وورد في: "دعوة الرسل" لأحمد غلوس: واصل إبراهيم -عليه السلام دعوته لهم، فلمّا رأى منهم رفضًا، أقسم لهم أنّه سيدبر أمرًا لأصنامهم، قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)"، [الأنبياء]، فلّما خرجوا من القرية أخذ يُكسِّر الأصنام كلّها إلّا كبيرها الذي تَرَكه، فلمّا عاد القوم إلى قريتهم، ورأوا أنّ أصنامهم قد تحطّمت، ذهبوا إلى إبراهيم كي يسألوه عن ذلك، فقال لهم إنّ كبيرَها هو من حطّمها فاسألوه، وإنّها لو كانت تعقل لاستطاعت حماية نفسها من الاعتداء، ورغم أنّ صوابهم عاد إليهم في حينها؛ فكبيرها صَنَمٌ لا يسمع، ولا يبصر، فإنّهم عادوا عن رشدهم.

إبراهيم عليه السلام يتحدى النمرود الحاكم الظالم

تعرضت سورة البقرة لقصة مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمرود الذي ادّعى القدرة على إحياء الموتى، فقال -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"، [البقرة:258]، وأوضح ابن كثير في "قصص الأنبياء" أسلوب المناظرة الذي اتبعه إبراهيم -عليه السلام- مع الكفّار خاصة النمرود؛ ملك بابل، وكان جبّاراً مُتمرِّداً مُدَّعِياً للربوبيّة.

واستدلّ إبراهيم -عليه السلام- على وجود الله بالمشاهدات التي حوله من الكون؛ من موت، وحياة، فرَدّ عليه النمرود أنّ بإمكانه أن يأتيَ برجُلَين حُكِم عليهما بالقتل؛ فيقتل أحدهما، ويعفو عن الآخر، فيكون بذلك قد أمات الأول، وأحيا الثاني، وهذا خارج عن مقام المناظرة، إلّا أنّ إبراهيم -عليه السلام- استطاع أن ينتصر لله في الحوار حين ضرب له مثلاً بالشمس التي تُشرق من المشرق، وتحدّاه أن يأتيَ بها من المغرب إن استطاع، ولكنّ النمرود كان أضعف من ذلك، فبُهِت، وسكت، فما كان منه إلا أن أمر بإلقاء إبراهيم عليه السلام في النار لأنه تحداه وكذلك هو من كسر الأصنام التي كانوا يعبدونها.

وهنا روى البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس -رضي الله عنه- أنّه قال: (كانَ آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ)، قال تعالى: "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)"، [الأنعام]، وكان إبراهيم -عليه السلام- كان مثالاً للداعية الصابر المُخلِص؛ فبذل للدعوة الكثير؛ فناظر قومه، وحاجَجهم، ولمّا لم يجدوا حُجّة، قرّروا أن يكيدوا له؛ وذلك بأن يُلقوه في النار التي جمعوا لها حطباً عظيماً، ثمّ أشعلوها، ولشدّة حرارتها وضعوا إبراهيم -عليه السلام- على منجنيق وقذفوه فيها، فقال -عليه السلام-: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فأمر الله -تعالى- النار بأن تكون برداً وسلاماً عليه، وأنجاه منها، قال -تعالى-: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ". [الأنبياء:69].

ذبابة تقتل النمرود

عن زيد بن أسلم قال: "بعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكًا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى عليه، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي"، وأوضح ابن كثير، في كتابه: «فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابًا من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا باديةً، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر الملكِ فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ رأسُه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها».