"نفحات رمضانية" يقدمها الشيخ محمود الهواري: الثَّبات بعد رمضان (30)
كتب - محمد قادوس:
في حلقات خاصة لـ"مصراوي"، وعلى مدار الشهر الفضيل، يقدم الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفنى لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر، إطلالة رمضانية روحانية تتجدد مع أيام هذا الشَّهر الطَّيِّب، متعرضا لنفحات إيمانية قيمة ونصائح نبوية غالية، ومنها الثَّبات بعد رمضان.
يقول الهواري، عبر فيديو خاص نشره مصراوى عبر صفحته الرسمية على فيسبوك:
ها هو رمضان قد انقضى، وما أسرع مرور أيَّامه ولياليه، وفيه كانت الهمة العالية، وقراءة القرآن اليوميَّة، وصلاة التَّراويح كلَّ ليلة، لكن هل انتهت غايات رمضان؟
إن المقصود الأعظم من رمضان أن تستمرّ على العبادة، لا أن تنقطع بعده عنها، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، فلم يقل: واعبد ربك حتى ينتهي شهر رمضان، فإذا انتهى فافعل ما شئت، وإنما جعل أمد انتهاء العبادة عند الموت.
ينبغي أن يخرج المسلم من شهر رمضان عبدًا ربانيًّا، ومِن أبرز صفات الربانيِّين أنَّهم يعبدون الله في كل، ولا تتوقَّف عبادتهم على موسم دون آخر، أو وقت دون غيره، بل عبادة دائمة لله الدَّائم الباقي.
ومن أجل الدَّوام على العبادة يحتاج المسلم أن يدعو الله عزَّ وجلَّ بالثَّبات على طاعته في كلِّ وقت، وفي القرآن: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]، ورسولنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يُكثِر من الدعاء بالثَّبات؛ فقد سئلت السيدة أم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينِك»، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما لأكثر دعائك: يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك؟ قال: «يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ»[سنن الترمذي].
إن الثَّبات على الطاعة، والاستقامة على دين الله عزَّ وجلَّ غاية الدِّين، ومطلوب الرِّسالة، يأتي أحد الصَّحابة فيسأل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الإسلام، فيقول: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: «قُلْ: آمنتُ بالله، فاستقِمْ» [صحيح مسلم] فيجمع له الإسلام في هذه الكلمة.
وللثبات والاستقامة أسباب متى أتاها الإنسان رزقه الله مطلوبه.
ولعل أهمَّ السبل التي تعين المرء على الثبات والاستقامة بعد رمضان هو أن يلتزم الإنسان بالأمر والنَّهي، فيأتمر بأوامر الله، وينتهي بنواهيه، ويفعل ما كُلِّف به، ويجتنب ما نُهِيَ عنه؛ وقد صرَّح القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66].
فلا ينقطع عن العبادة بعد شهر رمضان، فالصلاة مستمرة، والصيام مستمر، والصدقة مستمرة، وكلُّ خير لا ينقطع.
وتخيل حال من يتعب لأجل أن يبني دارًا، فهو ينفق من ماله، ويبذل من عافيته، ووقته، ويتحمَّل الصِّعاب الَّتي يلقاها، تخيَّل لو أنَّ هذا الرَّجل بعد أن أتمَّ البناء جعل يهدمه بمعوله، ما يقول النَّاس عنه؟
لا شكَّ، إنَّه مجنون.
وهذا حال من يتفلَّت بعد انقضاء رمضان، بعد أن يبني بينه وبين ربِّه جسرًا من الصِّيام، والقيام، وتلاوة القرآن، وفِعل الخيرات طوال ثلاثين يومًا، ثم يبدأ في هدمه، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ما أشبهه بمن نقضت غزلها بعد أن احكمته نسجًا!
وقد حذَّر الله عزَّ وجلَّ من هذا الصِّنف فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: 92]..
فالثَّبات من أهم المطلوبات، لأسباب، وأهمها:
أوَّلًا: أنَّ الثَّبات أمر الله تعالى، ووصية رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد سبق معنا وصيته بدوام عبادته حتَّى الممات، فقال: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
وتصف السَّيِّدة عائشة عمل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وطاعته لربه عز وجل، فتقول: «كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا عمل عملًا أثبَتَه»، أي: داوَمَ عليه[صحيح مسلم].
وأوصانا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالثَّبات والاستقامة، فقال: «استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ»[سنن ابن ماجه، ومسند احمد].
ثانيًا: أنَّ حسن الخواتيم أمل الصادقين، وغاية العابدين، وسؤال الداعين، اللهمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها.
والقاعدة أنَّ مَن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، وكلما كانت البداية فيها نشاط وهمة وثبات، كانت النتيجة سارَّةً وسعيدةً، وكما قال ابن عطاء الله: من أشرقت بدايته، أشرقت نهايته.
والإنسان في هذه الدُّنيا يعمل ويعمل حتَّى يلقى الله عزَّ وجلَّ، فيرى نتيجة ما قدَّم، فالخاتمة الحسنة لا تأتي بعمل سيئ، وفي ذلك يقول ابن رجب: فالخواتيم ميراث السَّوابق، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السَّلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السَّوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقةٌ بالسَّوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟ [جامع العلوم والحكم].
وكان عبدالله بن عمر إذا قرأ قول الله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ: 54]، بكى، وقال: اللهم لا تحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: وما تشتهي؟! قال: أشتهي أن أقول: لا إله إلا الله.
فاللهمَّ لا تخرجنا من رمضان إلَّا بثبات ويقين، وعزم لا يلين، وأحسن اللهمَّ عاقبتنا أجمعين.
فيديو قد يعجبك: