شيكابالا.. ملكًا مُتوجًا بالدموع (بروفايل)
كتب- محمد زكريا:
كان الأمر مُحزنًا. مصر تودع كأس العالم بوفاض خالٍ من النقاط، وهي المشاركة التي انتظرتها طيلة 28 عامًا. صبّ المصريون غضبهم على الجميع؛ اتحاد الكرة، الجهاز الفني، اللاعبين، حتى إن محمد صلاح، نجم ليفربول الإنجليزي، ناله شيء من الانتقاد. لكن لاعبًا واحدًا تمنى البعض مشاركته في المباريات، وهو شيكابالا، من يعلم؟ ربما كان سيُحدث فارقًا أو يَشفي غليل الناقدين. فيما لم يُحالفه الحظ كالعادة، غادر الفهد الأسمر المونديال، دون أن يرتدي قميصه. ليكمل فصلًا جديدًا من مسيرته المثيرة، رحلة لبطل توارى خلف الدموع.
على أرض الملعب، كان شيكابالا حادًّا، يجلد المدافعين وحراس المرمى، لا يرحم أبدًا، حتى إن مدرب الأهلي التاريخي، مانويل جوزيه، كان دائم الحديث عن موهبته، يعمل له ألف حساب، ويخشاه عندما يلتقي الأهلي بالزمالك، "شيكابالا يملك موهبة كبيرة، لا أرى أن ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو ولويس سواريز ونيمار يفعلون مثله مع الكرة"، تخيل أن يخرج هذا الكلام عن مُدرب الواقعية!
في العام 2006، قطع شيكابالا رحلة احترافه مع نادي باوك اليوناني، ككاتب يُنهي قصة العالم الآخر في فصلها الأول، عاد إلى مصر، ليبدأ صراع القطبين على ضمه، الزمالك بيته، وجوزيه لديه رغبة في اقتناصه، مباراة مثيرة إذًا.
بالفعل وقّع شيكابالا عقودًا للعب في الأهلي، لكن الصفقة لم تكتمل، الزمالك ينبض في قلب الأسمر، حتى إنه تدرب داخل النادي الأهلي مرتديًا قميصًا لونه أبيض، قال هو ذلك ضاحكًا في حديث تليفزيوني، كأنه طفل يتمسك بلعبته حتى النهاية، لكن جوزيه كان له رأي آخر: "شيكابالا خسر كثيرًا.. وليس الأهلي، لأننا فزنا بكل البطولات من دونه"، ربما لا يعرف المدرب الكبير السر وراء قرار الفهد الأسمر، لكن عشاقه يحفظون السر جيدًا.
رغم مرور السنوات، ظل جوزيه يضرب المثل بموهبته: "أي فريق يلعب له شيكابالا يكون مثل فريقين، 10 لاعبين في فريق وشيكابالا فريق آخر".
لكن الموهبة وحدها لا تضمن الفوز، والدليل أن شيكابالا لم يصنع لنفسه الكثير، بات عمره الآن 32 عامًا، وفي رصيده قليل من الألقاب والبطولات، كأن الرحلة لملك فقد مملكته.
لم يُعر شيكابالا الانضباط والتخطيط أي اهتمام، ظل طوال السنوات قراره عشوائيًا، كذا لم يجد من يدير موهبته منذ البداية، هذا بالضبط ما دفع جوزيه للإقدام على تجربة اكتشاف المواهب في مصر، "أشعر بالضيق عندما أرى لاعبين يملكون موهبة كبيرة لكن عقليتهم تُهدر هذه الموهبة.. شيكابالا هو أكبر مثال على ذلك"، قال المدرب البرتغالي ذلك في تصريحات صحفية.
ها هو موسم جديد، الدوري في نسخة العام 2008/ 2009، وهي بطولة غائبة عن الزمالك منذ العام 2004. الجمهور دائم الطموح، ينتظر الفوز والألقاب، ولمَ لا؟ فالزمالك يلعب له شيكابالا، وهذا يكفي في نظرهم.
في الأسبوع الـ17، كان الزمالك يُلاقي فريق الاتحاد، بمحافظة الإسكندرية، الدقيقة 94 من عُمر المباراة، والزمالك مهزوم بهدف دون رد، التقطت الكاميرا شيكابالا واقفًا خارج الملعب، هو لم يلعب المباراة من الأساس، لكن يبكي بحرقة، ووراءه هتاف جماهير الاتحاد: "الزمالك هيهبط.. هيهبط.. هيهبط"، كانت لحظة قاسية على نفس اللاعب، كأنه المسؤول وحده عن الهزائم.
لكن رغم كل الهزائم، التي عرفتها تلك الفترة، ظل شيكابالا ملكًا في عيون جماهير الزمالك، هو المُنقذ والمُخلص، ولا أحد غيره، يهتفون باسمه في المدرجات، ويعدهم هو بالفوز، كأن بينهما عقد، لم يكن بالطبع مكتوبًا، فقط تحفظه القلوب.
في نسخة العام التالي، كان الزمالك على موعد مع لقاء اتحاد الشرطة، الأسبوع هو العاشر في الدوري العام، والزمالك لديه 11 نقطة فقط، ذلك كفيل أن يقضي على آماله في المنافسة على اللقب، لكن يظل الأمل مُعلقًا بوجود "شيكا"، سيفعلها الليلة ويقتنص الفوز، هكذا حدثت الجماهير نفسها في المدرجات.
دارت المباراة، الشرطة مُتقدم بهدف، والزمالك يحاول اللحاق به، قبل أن يُحرز الشرطة هدفه الثاني، في الدقيقة 71 من عُمر المباراة، الأمل عاجز الآن، وجمهور الزمالك غاضب، لكن على من يَصُب غضبه؟ على من منحه الأمل بالتأكيد.
شيكابالا يتلقى السِّباب من مدرجات الزمالك، وهو في الملعب يبكي بحرقة، يحاول زملاؤه تهدئته، بلا جدوى، تأتي له الكرة والدموع في عينيه، يجري بها نحو المرمى، ولا يركلها لأي زميل، كأنه أسطورة تبحث عن المستحيل، لكن زمن الأساطير انتهى، خرج شيكابالا من الملعب، وهُزم الزمالك بالهدفين.
الخلاف وارد، الغضب يهزم الحب أحيانًا، لكن تُظهر المواقف معدن الرجال.
في العام 2013، تظاهرت جماهير الزمالك، ضد رئيس النادي، ممدوح عباس، تُطالب برحيله، نظرًا لابتعاد الزمالك عن الألقاب، لكن الهتاف ثمنه غالي، تلقى واحدًا من رابطة مُشجعي الزمالك، واسمه عمرو حسين، رصاصة في الصدر، أودت بحياته وهو في عمر السادسة عشرة.
مع من يقف شيكابالا إذًا؟ هذا اختبار حقيقي، لكنه اختار الجماهير، دافع عن حقهم في النادي، ورفع قميصًا يحمل اسم وصورة المشجع الراحل. وفي صوانه كان واقفًا مع المعزين يودعه بالدموع.
في العام 2015، كان شيكابالا يلعب لنادي سبورتنج لشبونة البرتغالي، لكن وقعت "مذبحة الدفاع الجوي" في فبراير من ذاك العام، 20 من مُشجعي الزمالك ماتوا قبل أن تبدأ المباراة.
الموجة عالية تلك المرة؛ رئيس الزمالك، مرتضى منصور، يُهدد كل من يتعاطف مع الوايت نايتس، والإعلام يوزع الاتهامات على من يدعمهم، لكن ابن أسوان يفعل ما يحلو له، لا مكان لحسبة العواقب، ولا تخطيط لما هو آت، هذه قناعته منذ البداية، وربما تُلخص هي مسيرته بالكامل، تبنى الفهد الأسمر رواية الضحايا، وكتب في اليوم التالي للحادث، على حسابه بانستقرام: "إنت مُت ليه؟.. معلش أصل مكنش معايا تذكرة".
لم يكن تضامنه هذا أمرًا عارضًا، ولا خشية من غضبة الجماهير، والدليل موثق بحسابه على تويتر. في الذكرى الثانية للحادث، أي بعد عامين بالتمام، نشر صورة تحمل أسماء الراحلين ومزينة بعبارة "لن ننساكم".
هكذا، ظل شيكابالا على العهد، يحفظ بنوده جيدًا، لذلك لم ينسَ أن يكتب في فبراير الماضي: "سيظل العشرون هم رمز الوفاء والانتماء، وسيظل نادي الزمالك بالجماهير وللجماهير. رحم الله العشرين. لن ننسى أبدًا".
كان الخبر لافتًا في يومها، دراميًا؛ شيكابالا أكثر لاعبي الزمالك نيلًا من سباب مشجعي الأهلي، في ماراثون المدرجات بين "الأهلاوية والزملكاوية"، هو أول المتبرعين لصالح صندوق خُصص لأهالي 72 مُشجعًا أهلاويًا، هم ضحايا "مجزرة بورسعيد".
استضافت قناة الأهلي شيكابالا، ووجه له ياسر أيوب، رئيس المركز الإعلامي بالنادي، رسالتين؛ الأولى شُكر من إدارة الأهلي على موقفه النبيل، والثانية اعتذار رسمي من جمهور الأهلي: "إحنا آسفين يا شيكابالا"، فرد هو في خجل: "البقية في حياتكم.. ربنا يصبر أهاليكم".
مرت الأيام، ونجم الفهد الأسمر يخفت رويدًا رويدًا، ترك الزمالك بحثًا عن ضالته في الدوري السعودي.
أخيرًا، شيكابالا ضمن الحسابات الفنية للمدرب الأرجنتيني، هيكتور كوبر. استعد اللاعب لذلك، منذ شهور، زاد من مرانه، وتألق مع ناديه السعودي، الرائد، كانت فرصة رائعة أن يُنهي مسيرته مع المنتخب بالمشاركة في كأس العالم.
لكن الانتقادات تعرف طريق شيكابالا جيدًا. بعد مباراة البرتغال الودية، والتي لعبها منتخب مصر استعدادًا لكأس العالم، كتب اللاعب السابق والمحلل الرياضي، أحمد حسام ميدو، على حسابه بتويتر: "من ردود الفعل بعد المباراة حسيت بتربص كبير من البعض لشيكابالا، وحسيت إن فيه ناس كتير مستكترة عليه إنه يكون في كأس العالم".
في النهاية انضم شيكابالا إلى قائمة المونديال، وكان قريبًا من المشاركة في مباراة مصر الأخيرة أمام السعودية، أو بالأحرى اعتقد بعض المحللين أحقيته في ذلك، وهو الشيء الذي رآه المذيع التونسي، عصام الشوالي، الذي طالب لاعبي مصر بالتمرد الفني على خطة المُدرب الأرجنتيني، في أثناء تعليقه على المباراة.
فيما جاء تكريم شيكابالا، كما يعتقد عُشاقه، في امتنان المُشجعين المصريين لإيثاره التركيز في التدريبات، عن تسجيل فيديوهات مع إحدى القنوات الفضائية، خلال معسكر المنتخب بكأس العالم، مقابل عائد مادي وصل لـ15 ألف دولار، بعد رفضه هو ومحمد صلاح في المرة الأولى التسجيل مقابل 5 آلاف دولار، بحسب الإعلامي، أحمد شوبير، في برنامجه "مع شوبير"، عبر قناة "صدى البلد".
خلال المونديال، التقطت عدسات المصورين شيكابالا، جالسًا على مقاعد البدلاء، ووراءه القميص الذي يحمل رقمه وشعار كأس العالم. من المؤكد أنه تمنى أن يُشارك، ولو لدقائق في أي مباراة من الثلاث، لكنه كالعادة صاحب حظ عثر، غادر روسيا دون أن يلمس الأرض الخضراء، فيما كسب ود الجماهير وتعاطفهم معه، كأنه رد الاعتبار، في مونديال انتهى مع الأسف بالخسارة والدموع.
فيديو قد يعجبك: