حوار- نجل محمد رشدي: والدي أجرى عملية تجميل بعد حادث "السويس".. وهذه حكايته مع "حليم"
حوار- منى الموجي:
ثلاث سنوات قضاها يبحث عن أغنية يفوق نجاحها "قولوا لمأذون البلد"، بعدما كتبت ثورة 23 يوليو شهادة ميلاد جديدة له، إذ أُذيعت عقب إلقاء الضابط –آنذاك- محمد أنور السادات لبيان الثورة، لكن لم يحالف المطرب محمد رشدي الحظ. توقفنا في الحلقة الأولى عند هذه المحطة في حياته، وفي الحلقة الثانية يواصل طارق محمد رشدي الحديث عن مشوار والده.
لم يتوقف سوء حظه في ذلك الوقت عند هذا الحد، فكان لحياته الشخصية دور في تعطيل مسيرته الفنية بعض الوقت، إذ ارتبط بزيجة لم تستمر طويلًا وانتهت بخلافات كبيرة، بعد أن نتج عنها طفله الأول "عادل"، يقول طارق "كان نفسه يشوف ابنه، وطليقته حرمته منه، فاعتاد الجلوس على قهوة التجارة لأنها تقابل بيت طليقته علّه يستطيع رؤية ابنه لدقائق معدودة يلهو فيها بالبلكونة"، خلّفت المشاكل أثر نفسي سلبي لم يتغلب عليه سوى بنصيحة الكاتب الصحفي محمد جلال، الذي أكد له أنه إذا أهمل عمله سيساهم في إبعاد ابنه عنه، وأن نجاحه وشهرته سيكونان سببًا في عودة ابنه لحضنه، فاستمع لنصيحته.
لم تبتسم الدنيا لرشدي رغم كل محاولاته، فبعد زواجه الثاني بفترة قصيرة، تعرض لحادث كاد أن يودي بحياته، وترك أثره عليه، للدرجة التي جعلته يفكر في الانفصال حتى لا يجبرها على العيش مع شخص ضاع مستقبله كما كان يتصور؛ فأثناء عودته بعد إحياء حفل لصالح المجهود الحربي في السويس، وبصحبته الراقصة نادية فهمي، ومجموعة من الموسيقيين، كان يجلس بجوار نادية في الجانب الأيمن، فطلبت منه أن يجلس في يسار السيارة ليمنحها مساحة أكبر لتنام.
يتابع طارق "بعدما قام بربع ساعة أو عشرة دقائق، ظهرت في الاتجاه المعاكس عربية أنابيب بوتاجاز دخلت من الجنب اللي قاعدة فيه نادية فهمي، قالي (ملقنهاش كجثة متلقتش فوقت لقيت رجليا اليمين نصين مديت إيدي وعدلت رجلي، حاجبي اتقطع قطع جامد، وحصل تشويهات في وشي)"، وأجرى له الدكتور الحفناوي عملية تجميل، لكن ظل هناك أثر للحادث في قدمه وحاجبه كان يحاول إخفائه بقلم الحواجب.
بعد خروجه من المستشفى، وإجرائه العمليات اللازمة، عاد إلى بيته، وأخرج من جيبه 8 جنيهات ومنحها لزوجته مع ساعة يده، وعرض عليها أن يمنحها الطلاق، حتى لا ترتبط باقي عمرها، بمطرب ضاعت وسيلة حصوله على "لقمة العيش"، إلا أنها رفضت وأصرت على استكمال حياتها معه، وتمر الأيام وحالته النفسية تزداد سوءًا، قدمه في الجبس وجهه مشوه، لكن بدأت تلوح في الأفق بوادر انفراج الأزمة.
أكد طارق أن في الوقت الذي كان يشعر فيه والده بالضياع، جاءه اتصالًا من الإذاعة؛ ليقوم بغناء ملحمة أدهم الشرقاوي، بعدما أصر الموسيقي الكبير محمد حسن الشجاعي على أن يكون رشدي هو مطرب العمل لا أحد غيره، 87 موالًا غناها مستندًا على عكازه، بعد أن بذل قصارى جهده في الإعداد لأدهم الشرقاوي، يحكي طارق "راح سوق الكانتو في العتبة وجاب اسطوانات لكل من غنوا الموال في مصر، الحاجة زينب المنصورية وأنور العسكري، وجاب الفرقة بتاعت محمد طه كنا ساكنين في جاردن سيتي قالهم تعالوا سمعوني بتقولوا إيه في الغنا كل اللي تعرفوه ومتخزن في الحر في المواويل عايز أسمعه".
نجحت المواويل نجاحًا كبيرًا، وذاع صيت رشدي بعيدًا عن "قولوا لمأذون البلد"، لكن الشرخ الذي تركه الحادث في نفس رشدي نتيجة أن الأثر البدني لم يلتئم بعد يحتاج لتأكيد نجاح "أدهم الشرقاوي" بعمل آخر، فظل يعاني من الألم النفسي، ويعيش حالة اكتئاب، ولم يكن يعرف أن أدهم حقًا "وش السعد"، فبسببها أصر شاعر جديد كان يعيش في صعيد مصر، وقرر المجيء إلى القاهرة محملًا بأشعارٍ ستُحدث ضجة في عالم الغناء الشعبي، أن يلتقيه ليغني له "وهيبة".
عرض الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، على الشجاعي أكثر من أغنية رآها غريبة الكلمات، ووصفها بأنها تشبه الكلام اليمني، ومن بينها أغنية "وهيبة"، ومع إصراره على أن تكون الأغنية من نصيب رشدي، منحه عنوانه وذهب الأبنودي لمقابلته، وعن هذا اللقاء يقول طارق "نزلا وتمشيا معًا من جاردن سيتي حتى ميدان التحرير، وكان والدي ينصت له بدون اهتمام، حتى قرأ له الأبنودي كلمات وهيبة (الليل بينعس على البيوت وعلى الغيطان والبدر يهمس في السنابل والعيدان ويا عيونك النايمين ومش سائلين)".
كلمات لا تشبه الغناء الشعبي السائد في ذلك الوقت، تلمس القلب، تجعلك تعيش في عالم كامل تبنيه في خيالك. طلب رشدي أن يعيدها عليه الأبنودي أكثر من مرة، علا الحماس وجهه، ولمعت عيناه، وذهبا بالأغنية للفنان عبدالعظيم عبدالحق ليصيغ اللحن، وكانت فاتحة رزقه، تحدث الجميع عن "وهيبة"، شجعه الصدى الذي أحدثته "وهيبة"، على التعاون من جديد مع الأبنودي، هذه المرة حملت الأغنية اسم "عدوية"، لكن وضع لحنها الموسيقار بليغ حمدي، وكانت بداية مثلث أضلاعه الثلاثة "الأبنودي، بليغ، ورشدي"، جمعهم حب الفن والصداقة والتي تحولت لأخوة حقيقية.
الأفلام
وكغيره من مطربي ذلك العصر، عُرض عليه المشاركة في أفلام سينمائية، ورأى رشدي أنه لم يستفد من تجاربه السينمائية، قدر ما استفادت السينما من أعماله الغنائية، فصنّاع الأفلام يسعون للاستعانة به، واستخدام أغانيه والترويج بها للأفلام، لجذب قاعدة جماهيرية للفيلم قبل طرحه، فكانت تجاربه على الشاشة الكبيرة بسيطة، ولم يستطع فيها التغلب على خجله، فابتعد عنها.
حليم ورشدي
أشرنا في الحلقة الأولى إلى أن رشدي تعرف على حليم في القطار، كان اللقاء الأول ولم يكن الأخير، إذ سكنا معًا في شارع الجيش في باب الشعرية، ولم يستطعا دفع الإيجار فاختارا الفرار من صاحب البيت، وتسلل رشدي إلى المنزل بالحقائب إلى حليم المنتظر بالأسفل، واستقبلتهما في منزلها الفنانة نجوى فؤاد، وهو الجميل الذي لم ينساه يومًا رشدي لنجوى، حتى أنه أوصى نجله طارق عليها.
"قابلت 3 في حياتي من يوم ما اتولدوا عارفين إنهم هيكونوا زعما، هيأثروا في تاريخ الفن في البلد دي، عارفين عايزين يبقوا إيه"، هكذا كان يرى رشدي حليم وبليغ والأبنودي، بينما هو لم يأت من بلده إلى القاهرة ليكون زعيمًا يريد فقط الغناء ليعرفه الناس ويكسب مالًا، "فهمت حليم يوم أن تقدمنا معًا لاختبارات الاعتماد في الإذاعة، قدمت وقُبلت لكن هو رسب، ولكنني اندهشت بعدما وجدته غير حزين، كل همه الحصول على نسخة من الاسطوانة التي سُجلت له في الاختبار ليستمع لها ويضع يده على الخطأ الذي وقع فيه ليتعلم ولا يكرره".
سبقه حليم إلى عالم الشهرة والنجومية، لم يسمح لشيء أن يعطله "حب أو زواج"، ظل يدرس ويبحث عما سيقدمه للجمهور بشكل مختلف عمن هم على الساحة، وفي يوم فوجئ برشدي يقفز على السلالم، محققًا شهرة كبيرة، صحيح أنها بعيدة عن لونه الغنائي، لكن النجاح الكبير الذي حققه رشدي والأبنودي وبليغ كان مغري ودفعه لخوض تجربة الغناء الشعبي، لكنه لن يقول "في إيديا المزامير وفي قلبي المسامير"، كما يغني رشدي، بل يبحث عن لون شعبي يجمعه ببليغ حمدي والأبنودي يناسبه، فكانت "التوبة".
شعر رشدي أن حليم سيأخذ منه ضلعي المثلث "الأبنودي وبليغ"، يقول طارق "كان يقول لي في التليفزيون أقول حبيبي وأخويا، بس بيني وبين نفسي أنا محدش مخلنيش أنام غير عبدالحليم ولا حد جنني في عيشتي غيره".
موقف آخر يحكيه طارق عن علاقة حليم بوالده، "حليم كان حريص على اصطحاب والدي، معه في رحلات المغرب ليشارك في الاحتفال بتنصيب الملك الحسن عيد جلوسه على العرش، وكانت هذه الرحلات تضم كل من محمد عبدالوهاب، نجاة، بليغ حمدي، كضيوف دائمين إلى جانب عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي، وفي كل عام ينضم لهم وجوه أخرى مثل فايزة أحمد وديع الصافي ومحمد قنديل ومحمد العزبي، ويتفق حليم معه أن يحيي 10 حفلات فلا يغني منها سوى حفل أو اثنين على الأكثر، وعند عودتهم إلى مصر يمنحه في الطائرة أجر 10 حفلات كاملة، بالإضافة لمنحة من الملك تعادل أجره في 10 حفلات أخرى".
"كان بيحبني ويجيبلي رزق"، هكذا كان يرى رشدي تصرفات حليم معه، لكن كان لصديقه الصحفي محمد جلال –بحسب طارق-، تفسير آخر قاله لرشدي "هو واخدك معاه في المغرب يحبسك في الغرفة المكيفة لأنه هيغيب عن مصر شهر فمش عايز يرجع يلاقيك عامل قنبلة بأغاني جديدة زي وهيبة وعدوية".
ملمح آخر في علاقتهما يشير إليه طارق، وهو أن حليم هو من عرض على والده شراء فيلا في الدقي؛ لتكون أنسب لأسرته الكبيرة بدلًا من العيش في شقة بجاردن سيتي، وقال له "انت عندك ولاد تعالى في بيت في الدقي بـ7500 معاك كام وأنا هكملك".
السادات
مرت فترة حكم ناصر والحياة تسير بشكل يُرضي رشدي، حتى حدثت المفارقة الغريبة، فالسادات الذي كان سببًا في شهرته عام 1952 بأن منحه فرصة الغناء عقب إذاعة بيان الثورة، لم يجد رشدي في عصره مكانًا له، وشعر أن هناك محاولة لإقصائه، وتصدير وجوه أخرى تحتل الساحة.
يقول طارق "جاءت فترة الرئيس السادات، وفيها اعتبروا أن رشدي وعبدالرحيم منصور والأبنودي محسوبين على النظام الاشتراكي، جه عيد الإعلاميين لقى نفسه قاعد في الصالة معاه محرم فؤاد بيتفرجوا على نوح وياسمين الخيام فهموا. ومرة سمير صبري بيسأل زوجة السادات (جيهان) بتحبي مين من المطربين قالتله محمود العزبي قاصدة محمد العزبي وكان كل ما يملكه في الدنيا (الأقصر بلدنا)، وهو ما فسره بأن معناها عايزة أفرض ده فقال لمحرم واضح إننا مش مرغوب فينا، وجت كامب ديفيد والمقاطعة والعرب كلهم راحوا لندن وباريس، فقررا السفر والعمل هناك".
في الحلقة الثالثة يحكي طارق لـ"مصراوي"، رحلة والده إلى لندن ولماذا كان يعتبرها
"ذلة مخفية" على حد قوله، وتفاصيل سنوات عمره الأخيرة، وإعادة توزيع أعماله القديمة، وتفاصيل مرضه الذي لم يكن يعلم به.
فيديو قد يعجبك: