في ذكرى وفاة الإمام "أبو حامد الغزالي" ورحلته الكبرى للبحث عن الحقيقة
كتبت – آمال سامي:
في قرية من قرى طوس بإقليم خرسان، ولد الإمام محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي المعروف بـ "أبو حامد الغزالي"، ونسب إلى قرية "غزالة" التي ولد بها، في بيت فقير لأب صوفي لا يملك سوى حرفته، لكن على الرغم من ذلك كان والد الغزالي متعلقًا بالعلم والتعلم، وفي مرض وفاته، عهد إلى صديقه المتصوف أن يرعى والديه محمد وأحمد وأعطاه كل ما يملك في سبيل تعليمهما وتأديبهما.
التقى الغزالي في صباه وفي قريته عددًا من العلماء أخذ عنهم الفقه، فأخذ الفقه من الإمام أحمد الرازكاني في طوس، وأخذ عن الإمام أبي ناصر الإسماعيلي في جرحان، وعاد مرة أخرى لطوس وبقى بها ثلاثة سنين، حتى تعذر صاحب الأب ونفذ ما ترك من مال، فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في هذا الوقت، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء إنه بداية تفقه ببلده، ثم انتقل إلى نيسابور، وهناك لازم إمام الحرمين الجويني في نيسابور، وأخذ عنه علوم الفقه والكلام والمنطق، ويروي عبد القادر الفاكهي المكي في مقدمته لـ شرح بداية الهداية للغزالي، أن الغزالي في تلك المرحلة ألف كتابه "المنخول" وعرضه على شيخه، فأعجب به لدرجة أن قال له: "دفنتني وأنا حي! هلا صبرت حتى أموت؟".
استقر الإمام الغزالي فترة طويلة في نيسابور، حتى أنه تزوج وأنجب هناك، ولم يغادرها إلا بعد وفاة شيخه الإمام الجويني عام 1085م، وبعدها أنتقل إلى "المعسكر" قاصدًا الوزير السلجوقي نظام الملك، فقد كان معروفًا بتقديره للعلم ورعاية العلماء، وهناك حقق الغزالي شهرة واسعة بعد أن خاض الكثير من المناظرات مع العلماء والأئمة هناك، وعينه نظام الملك في المدرسة النظامية ببغداد ليدرس هناك فارتحل إليها عام 1091م. وكان عمره حينها 34 عامًا، وفي بغداد أثار الغزالي إعجاب الجميع، يقول الفاكهي المكي: "فصار إمام العراق بعد أن حاز إمامة خراسان، وأرتفعت درجته في بغداد على الأمراء والوزراء والأكابر وأهل دار الخلافة" .
رحلة الغزالي الكبرى للبحث عن "الحقيقة"
روى الغزالي بنفسه رحلته الفكرية في حياته، وذكر أنه مر بمرحلة الشك التي مر بها الكثير من الفلاسفة والمفكرين، فشك في الحواس والعقل وقدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، وهي الأزمة الروحية التي أدت به إلى ترك بغداد حتى شفاه الله منها، فيقول الغزالي عن تغلبه على هذه المرحلة: "لم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف"، وبعدها رأى الغزالي أن هناك أربعة فرق فقط هي التي تسلك سبل طلب الحق، وبدأ بالفعل دراسة هذه الفرق وهم: المتكلمون والباطنية والفلاسفة والصوفية، وفي مراحل دراسته لكل فرقة قدم الغزالي العديد من المؤلفات، ففي علم الكلام صنف عددًا كبير ًا من الكتب منها "الاقتصاد في الاعتقاد"، مؤكدًا أن علم الكلام لم يكفيه للوصول للحقيقة، لينتقل إلى الفلسفة، ليدرك أن أسلوب العقل في تفهم الامور الرياضية جائز لكن لا يمكن إخضاع المسائل الإلهية له، لذا نقد الغزالي الفلاسفة في عدة كتب أبرزها "تهافت الفلاسفة"، أما الباطنية، وهي فرقة كانت ترى وجوب تأويل القرآن والبحث في باطنه وعدم القبول بظاهره، إلا أنها كانت لها أفكارًا ضالة وملحدة، فرد عليهم الغزالي في "فضائح الباطنية".
وجد الغزالي ضالته في النهاية عند "الصوفية" بعد خلوة دامت مقدار عشر سنين كاملة، ليؤكد أن التصوف هو الطريق للحقيقة، فيقول: "إني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا، فجميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به"، وخلال فترة الإعتزال هذه ألف الغزالي أشهر كتبه "إحياء علوم الدين" وأبرزها على الإطلاق، وقد بدأه في القدس واتمه في دمشق، وهو أحد أهم وأشمل الكتب في علم التصوف، وكذلك كتاب "المنقذ من الضلال" فروى فيه قصة اعتزاله وعودته.
في التاسع عشر من ديسمبر عام 1111 م. توفى الإمام أبو حامد الغزالي، وروى أخوه تفاصيل حياته الأخيرة، إذ توضأ في الصباح وصلى، وطلب كفنه فأخذه وقبله، ووضعه على عينيه وقال: سمعاً وطاعة للدخول على الملك، ثم مدّ رجليه، واستقبل القبلة، ومات قبل الإسفار"، وقد سأله قبيل الموت بعض أصحابه: فقالوا له: أوصِ. فقال: "عليك بالإخلاص" فلم يزل يكررها حتى مات.
فيديو قد يعجبك: