تفسير الشعراوي للآية 31 من سورة آل عمران
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.. [آل عمران : 31].
ولنا أن نعرف أن كل (قل) إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أدى (المأمور به) ولم يؤد الأمر بتمامه. لماذا؟ لأن الأمر في (قل).. والمأمور به {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل بلاغ عن الله بدأ ب (قل) إنما يبلغ (الأمر) ويبلغ (المأمور به) مما يدل على أنه مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله.
إن الذين يقولون: يحب أن تحذف (قل) من القرآن، وبدلا من أن نقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فلننطقها: (الله أحد). لهؤلاء نقول: إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى (المأمور به) ولم يؤد (الأمر).
إن الحق يقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لابد قد ادعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئا، واتباع التكليف شيئا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد، وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف (بفتح الكاف وتشديد اللام) ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلِّف.
إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد. إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان. وقد ضربنا المثل- ولله المثل الاعلى، بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا، وأسلوبا منظما للاستخدام.
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة، هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عز وجل؟ إن لله إيجادا للإنسان، ولله إمدادا للإنسان، ولله تكليفا للإنسان، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في (افعل) و(لا تفعل) لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية.
إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن يحبك الله. إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته سبحانه في التكليف، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي قال:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به *** من أن أكون حبيبا غير محبوب
إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد.
لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب- كما نعرف- هو ودادة القلب وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة، ورضا.
وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبا لله، ليتلقى محبة الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا.
والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق، أقول ذلك لنعلم جميعا، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلف شططا ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولابد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي، العاطفي لا يفنن له. لا أقول لك: (عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا) لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء بعقله.
والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوق، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك- إذن- فرق بن حب العقل، وحب العاطفة.
والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف.. لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل.
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا، لكن المكلف به هو حب العقل، وليس الحب العاطفي، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا، وثالثا، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لابد أن تكون من الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: (الآن يارسول الله؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»، أي كمل إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي.
ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول- نقول- ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته.
إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني الحب العقلي، وبعد ذلك يتسامى ليكون حبا عاطفيا وهكذا يكون قول الحق: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبا، ألم يقل الشاعر:
وكل ما يفعل المحبوب محبوب***
فإن كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين اتبعني واستمع لي.
إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدعى هذا الحب، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة علينا، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف.
إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: (انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟). إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف.
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي (نعم الإيجاد)، و(الإمداد)، و(التكليف)، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله، فلابد أن يحبك الله، وكل منا يعرف أن حبه لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر.
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول الله وبين الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله كل ما أنزل عليه.
وبعد ذلك يقول الحق: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} إن مسألة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذ التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم فيها.
وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا، وقد جاء البلاغ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضا، وبعد ذلك يقول الحق: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: