دور الآباء في تربية الأبناء له أثر كبير في مختلف مراحل حياتهم
بي بي سي:
اشتهر آباء قبيلة باياكا في جمهورية أفريقيا الوسطى بين رواد الانترنت بأنهم "أفضل آباء في العالم"، إذ جرى العرف في هذه القبيلة على أن يرعى الآباء صغارهم، وينظفونهم ويلعبون معهم، بينما تذهب الأمهات للصيد.
غير أن هذا الاهتمام الكبير الذي حظي به آباء قبيلة الباياكا يكشف عن مدى تغير صورة "الأب الجيد" في المجتمعات مع مرور الوقت.
إذ أصبح الحنان ورهافة الحس والتعاون من الصفات المحمودة التي يستحب أن يتحلى بها الآباء. وأسهمت أبحاث عديدة في تغيير رؤيتنا لأهمية دور الأب في تشكيل شخصية أبنائه منذ نعومة أظافرهم، وهذا يتعارض مع الأفكار النمطية عن الأبوة والنوع الاجتماعي.
واللافت أنه حتى السبعينيات من القرن الماضي، لم يحظ دور الآباء في تربية الأطفال إلا بالقليل من الدراسة. وكان المجتمع يلقي بمسؤولية دعم الأطفال نفسيا وعاطفيا على عاتق الأم، أما الأب، فإن دوره يقتصر على دعم الأم اقتصاديا.
يقول مايكل لامب، عالم نفس من جامعة كامبريدج، والذي يدرس دور الآباء منذ سبعينيات القرن الماضي: "كانت الدراسات تركز على أهمية الحفاظ على علاقة سليمة مع الأم، لكنها لم تهتم بالعلاقات الاجتماعية الأخرى داخل الأسرة، التي يأتي على رأسها العلاقة بين الأب وصغيره، وهذه العلاقة رغم أهميتها كانت تأتي في المرتبة الثانية بعد علاقة الأم بصغيرها".
وتقول ماريان بيكرمانز كرانينبرغ، من جامعة فريجي بأمستردام وتجري دراسات عن العلاقات الأسرية: "إن 99 في المئة من أبحاث تربية الأطفال تركز على الأمهات، رغم أن الآباء يمثلون نصف أولياء الأمور".
وأثبتت أبحاث جديدة أن الحياة الاجتماعية للأطفال أكثر ثراء وتعقيدا مما كنا نظن. إذ أدرك الباحثون أن مسؤولية رعاية الطفل لا يتولاها شخص واحد فقط، واهتموا بدور الآباء والأجداد وأزواج الأم في التربية السليمة للطفل.
ويقول لامب: "كنت أحاول أن ألفت الأنظار طيلة 45 عاما إلى وجود علاقات أخرى مهمة تسهم في تشكيل شخصية الطفل منذ الصغر".
وأشارت دراسة أجرتها عالمة النفس روث فيلدمان، من جامعة بار إيلان بإسرائيل، إلى أن مستوى هرمون أوكسيتوسين، المسؤول عن تقوية الروابط الاجتماعية بين الآباء أو الأمهات والأطفال، يرتفع في الدم لدى الآباء عند اعتنائهم بصغارهم. وأثبتت دراسة أخرى، أن الآباء عندما يتولون بمفردهم مسؤولية رعاية الأبناء في حالة غياب الأمهات، تنشط لديهم نفس المناطق من الدماغ التي تنشط لدى الأمهات للتكيف مع المهمة.
وأثبتت دراسة مطولة نشرت في دورية "تشايلد سايكولوجي آند سايكايتري"، أن التفاعل الوجداني بين الأب والرضيع ينبيء بالنمو العقلي والنفسي السليم للطفل. فكلما زاد تفاعل الآباء مع الرُضع وجدانيا، قلت فرص ظهور المشاكل السلوكية لدى الطفل في المراحل اللاحقة من العمر، والعكس. وكلما زاد دعم الآباء، أو من يقوم مقامهم، للأطفال عاطفيا في الصغر، زاد رضا الطفل عن الحياة لاحقا، وتحسنت علاقته بمدرسيه وزملائه.
ويقول لامب: "إن العلاقة بين الأب وابنه كشأن العلاقة بين الأم وصغيرها، قوامها الارتباط العاطفي وإدراك احتياجات الطفل النفسية والعاطفية والاستجابة لها".
وأثبتت دراسات في الماضي أن الآباء والأمهات يتفاعلون بطريقة مختلفة مع أطفالهم، وبينما يزيد ارتباط الأم بطفلها من خلال رعايته والاعتناء به، فإن الآباء تتوطد علاقتهم بصغارهم من خلال اللعب معهم.
وأشارت دراسات إلى أن العمل طوال اليوم خارج المنزل يجعل الأب أو الأم، بغض النظر عن الجنس، أكثر ميلا لممارسة الألعاب الصاخبة مع الطفل، مثل أرجحته وحمله في المنزل، بينما يميل من يرعاه في المنزل طوال اليوم إلى مداعبته بهدوء.
لكن الأم لا تزال هي المسؤولة في الغالب عن رعاية الطفل طوال النهار، لأسباب اجتماعية واقتصادية. وقد يُعزى ذلك إلى إجازة الأمومة. إذ تمنح، على سبيل المثال، نصف الدول الأعضاء فقط في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إجازة أبوة مدفوعة الأجر لشهرين على الأقل. وبالنظر إلى التفاوت في الرواتب بين الجنسين، قد يبدو منطقيا من الناحية الاقتصادية أن تحصل الأمهات على إجازة لرعاية الطفل بدلا من الأب.
وأوضحت أبحاث أن مشاركة الأب الفعالة في تربية الطفل منذ الولادة، وقضائه وقتا أطول معه يعود بفوائد عديدة على صحة الطفل.
يقول بول رامتشانداني، الذي يدرس دور اللعب في التعليم والتنمية والتربية بجامعة كامبريدج، إن اللعب هو لغة الطفولة، التي يستكشف بها الأطفال العالم، ويبنون بها علاقاتهم مع غيرهم من الأطفال. وقد راقب مع فريق من الباحثين بعض الآباء أثناء لعبهم مع صغارهم حديثي الولادة وتتبع نمو هؤلاء الأطفال، وخلص إلى أن التفاعل الإيجابي بين الأب وصغيره في الشهور الأولى يلعب دورا مهما في نمو الطفل.
إذ ذكر أن الأطفال الذين كان آباؤهم أكثر جفاء معهم أو أقل تفاعلا أثناء اللعب عانوا عندما أتموا عامهم الأول من مشكلات سلوكية أكثر بمراحل من أقرانهم الذين كان آباؤهم أكثر نشاطا وتفاعلا معهم، وأحرزوا درجات أقل في الاختبارات المعرفية، مثل القدرة على تمييز الأشكال، في سن عامين.
ويقول رامتشانداني إن هذه النتائج لا تدل على وجود علاقة سببية واضحة، بل إن جفاء هؤلاء الآباء قد يشي بوجود مشكلات أخرى داخل الأسرة. لكنه إجمالا يرى أن هذه الدراسة تشجع الآباء على اللعب مع صغارهم في الشهور الأولى قبل أن يشرعوا في الزحف والنطق، ويقول إن بعض الآباء قد لا يلعبون مع صغارهم حديثي الولادة لأنهم لا يعرفون كيف يتصرفون معهم في هذه السن، أو يخشون إيذاءهم، وقد تتردد الأمهات أيضا عند مداعبة حديثي الولادة.
لكن رامتشانداني يقول إن الأمر في غاية البساطة، فيكفي أن تضع الصغير في حجرك، وتنظر إلى عينيه وتراقب ما يسعده.
ويقول رامتشانداني: "من المهم أن تتفاعل معه بكل حواسك، وستكتسب القدرة على التعامل معه كلما أمضيت معه وقتا أطول".
وأصبح الآباء أكثر مشاركة في مسؤولية تربية الأبناء، إذ انتشرت ملتقيات الآباء والصغار التي كانت تقتصر على الأمهات ولاقت مقاطع فيديو لمجموعات من الآباء يرقصون مع صغارهم رواجا كبيرا.
ورغم أن الرجال ليسوا أقل كفاءة من النساء في رعاية صغارهم، تشير الإحصاءات إلى أن الوقت الذي تقضيه النساء في رعاية صغارهن أكثر بعشر مرات من الوقت الذي يقضيه الرجال في رعايتهم.
الآلات الموسيقية التي يمتلكها الموسيقار ديفيد وود الذي يعيش في فلورنسا بإيطاليا، أصبحت وسيلة للعب مع طفليه نوح وإيان
وترى آن ماكين، عالمة إنسانيات ومؤلفة كتاب "حياة الأب" أن معظم الآباء يريدون أن يضطلعوا بدور أكبر في تربية أطفالهم في المنزل، لكن بيئات العمل لم تتغير لتواكب تطلعاتهم. وتقول: "المشكلة الآن أن الرجال يرغبون في رعاية أطفالهم لكن في الوقت نفسه يتحملون مسؤولية إعالة الأسرة".
وتخشى ماكين من أن تقود الضغوط المالية التي تواجهها الكثير من العائلات الآن إلى العودة إلى الأدوار التقليدية، وتقول: "إذا كنت تريد أن تصبح أكثر حضورا داخل المنزل وتشارك بدور أكبر في تربية أطفالك، فستضطر إلى تحدي الاتجاه السائد في الشركات الذي ينادي بعودة الرجال إلى العمل".
وأشارت دراسة أجريت في اسكتلندا على 2,500 أسرة، إلى أن تأثير العلاقة السليمة بين الأب والطفل في صحة الطفل النفسية ليس أقل أهمية من تأثير علاقته بأمه، وشملت الدراسة زوج الأم أيضا وليس الأب فقط.
ويصف بول برادشو، مدير المركز الأسكتلندي للأبحاث الاجتماعية، نتائج هذه الدراسة بأنها قد تسهم في تبني سياسات تراعي أهمية وجود الآباء مع صغارهم.
لكن في الوقت الحالي، ثمة طرق لا حصر لها قد تساعد الآباء في أن يشاركوا بفعالية في تربية صغارهم.
ويقول لامب: "توصلنا إلى نتائج عديدة، كان من أهمها أنه لا يوجد نموذج للأب المثالي، أو مواصفات ثابته لواجبات أو سلوكيات الأب الجيد في المنزل". ويرى أن الأب الجيد هو الذي يهتم باحتياجات أطفاله النفسية والعاطفية ويبادر إلى تلبيتها، مهما اختلفت الأساليب التي ينتهجها لدعم أطفاله عاطفيا.
ويضيف: "من المهم أن يتعامل الأب مع صغيره بصدق وتلقائية حتى يتفاعل معه بكل مشاعره وحواسه".
فيديو قد يعجبك: